جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
د. صلاح سلطان
تهانينا القلبية للخادم الفائز أردوجان بفوزه للمرة الثالثة ولأول مرة في تاريخ الشعب التركي؛ حيث انتخبه واحد من كل اثنين من بين عشرين حزبًا خاضوا الانتخابات، فظل وحزبه "التنمية والعدالة" جديرين بهذا الفوز والثقة، وها هو يقول على قناة الجزيرة منذ شهرين في أول حوار مع أ. أحمد منصور لما قال له: أنت حاكم تركيا. فقال: "لا، بل أنا خادم".
وها هو يتقدم بإرادة شعبية حرة وينتصر في معركة نزيهة، يبدأ حواره بعد الفوز بأنه أيضًا خادم لشعبه وأمته، وليس حاكمًا على رقاب الناس.
وتعازينا لكل حاكم ظالم في عالمنا العربي والإسلامي اعتبر نفسه وصيًّا على شعبه، متعاليًا على قومه؛ لأنه ينتزع الحكم بالحديد والنار والسيف البتار، ولا يخشى في شعبه غضبة الواحد القهار، فيوجه الخيل والبغال والحمير إلى شباب الثورة في ميدان التحرير، ويوجه القذائف والصواريخ والطائرات إلى الشعب المسكين في سوريا وليبيا، ويوجه الجيش والبلاطجة إلى شعبه في اليمن قتلاً وترويعًا. ومنهم من ينتظر لأنهم ليسوا أحسن حالاً من طغاة العروبة مثل بن علي ومبارك وجزار -وليس بشار- الأسد والقذافي وعلي "فاسد"، وهناك غيرهم الكثير الذين لم يأتِ واحد منهم لانتخابات شبه حرة أو نزيهة.
منهاج أردوجان أن النصر ليس له بل لتركيا وكل العالم العربي والإسلامي بل العالم الحر، حتى إنه ليذكر "غزة" أنها انتصرت معه في هذا الفوز في خطاب قوي مؤثر معمق متزن، يجمع فيه بين رجل الدولة والدعوة، رجل الدنيا والآخرة، رجل الشعب والحكومة، رجل القلب والعقل، فإذا خاطب القلب فهو الإمتاع، وإذا خاطب العقل فهو الإقناع، وإذا علت نبرته ازددت له تقديرًا، وإذا خفضها ازددت له احترامًا.
استوعب المعارضة في المشروع التركي والإنساني، واستجدى خصومه الذين قاموا باثنتي عشرة محاولة اغتيال له، وذلك بإعلان المسامحة في أعلى مواقف الانتصار والقوة، فاحتضن الجميع ليتسع ليس لمعارضيه وخصومه في تركيا، وإنما لأحبابه وأنصاره في العالم كله الذين رأوا في خطابه الرجولة الكاملة، والمروءة النادرة، والحيوية الفاعلة، والنبرة الحازمة، واللهجة الرائعة، والنظرة الودودة، والإشارة الفريدة؛ لأنه الرجل الذي بدأ حياته بائعًا للخبز في الطرقات والبطيخ في شوارع إسطنبول، فأحسَّ بمعاناة شعبه وأمته.
واليوم نحن أمام رجل في أمة، وعملاق في ثوب إنسان قد تشبَّع بالقيم الراقية والأخلاق العالية، فإذا جئت إلى زعمائنا العرب فأكثرهم مثل الجرب الذي يعدي الصحاح ممن يقترب منهم، فإذا تكلم الحاكم فهو مثل الأعاجم، فلا يكاد أكثرهم يُبِين، حتى إن زعيمًا عربيًّا وقف في مؤتمر نسوي ضخم فقال: "يسرني ويسعدني أن أجامع هذه النخبة النسوية"، ولا يعرف الفرق بين الاجتماع وغيره..!!
وكلنا يعرف ويسمع مقتطفات من الكلمات الرديئة من الطغاة الذين سقطوا أو سيسقطون بإذن الله، تكتب لهم الخطب ويتدربون عليها مرارًا ولا يحسنون قراءتها، وليسوا من هؤلاء الذين لا يجيدون القول وإنما يحسنون العمل، وإنما أفعالهم أسوأ من مقالهم، وباطنهم أسوأ من ظاهرهم، وذلتهم للأعداء لا يضاهيها إلا قسوتهم على أبناء شعبهم، ليسوا رجال أمة بل أميُّون، عندهم قصور عقلي وقلبي وإرادي من طول معيشتهم في القصور محاطين بالمستشارين وأجهزة الأمن المتعددة، الذين يمنعون العلماء والنصحاء، ويُدخِلون المنافقين والأخسَّاء..
لكي تتسع الهوَّة، فتوجّه السياسات والميزانيات والخطط لحراسة الزعيم ومن حوله، وحماية الحاكم بأمره وعائلته، وكلما اتسعت الهوة زاد السلب والنهب وإحكام القبضة وإذلال الناس بالفقر والقهر والجهل معًا، يعدِّلون الدستور من أجل التوريث والتكديس والتكريس لسياسة الحاكم بأمره، {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، و{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
أما العملاق أردوجان فهو لا يفكر في دستور يبقيه حاكمًا أو عائلته، وإنما ليجعل الشعب هو الحاكم، والمسئول -أيًّا كان- هو الخادم، والسلطة للشعب لا للسيف، والكرامة والإرادة لكل إنسان وليس لخاصة الحكام، بل يفكر في دستور يقتدي به كل شعب حر في أي مكان، وليس مثل حكامنا يلفقون دستورًا، دائرته ليست أوسع من الكرسي أو القصر الرئاسي؛ ليذل كل من حوله ممن تطولهم عصا الطغيان.
يا قوم، إن لم تكونوا مبدعين مثل أردوجان ومن حوله من عمالقة تركيا فقلِّدوا؛ فإن التقليد في الفقه جائز للعوام! وكفانا طوافًا حول قصور الحكام.
المصدر: موقع الدكتور صلاح سلطان
ساحة النقاش