كل طبقات المجتمع كانت ممثلة فى «ميدان التحرير»
كنا نحتاج لصوت قوى بعد أن وصلنا إلى ميدان التحرير وتجمعت هناك الحركات المشاركة فى الثورة لذلك أرسلت لشراء السماعات والميكروفون لنتمكن من توجيه هذا الجمهور، بدلاً من أن يظل بلا هدف.
وقررنا أن نأخذ كهرباء من عمود النور بجوار إشارة المرور المطلة على الميدان باتجاه مطعم «هارديز» وحين احتجنا كهربائياً، وجدنا العديد من الكهربائيين ضمن المتظاهرين.
كنت فى قمة السعادة، فهذا التجمع يضم طبقات متعددة، طلبة فى الجامعة الأمريكية، وفى الجامعات المصرية، ومهنيين، وفلاحين، فقراء وأغنياء، بنين وبنات، وهذه ظاهرة جديدة فى الحياة السياسية المصرية، فالمتظاهرون من طبقات شتى، ولا يعرفون بعضهم البعض.
لقد مللنا من المظاهرات التى نلتقى فيها بكل الوجوه التى نعرفها، تبدأ المظاهرة وعددنا ألف شخص، وتنتهى دون أن تصبح ألفاً وواحداً.
المهم.. جاءت المعدات، وفشلنا فى أن نجهزها للعمل.
ولكنى صممت على تنفيذ الفكرة، فقلت للناشط المعروف د.مصطفى النجار المنسق العام للحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير بضرورة أن يحضر أجهزة أخرى وقد كان، فأخرج من جيبه ما يقرب من ١٥٠٠ جنيه، وتم شراء عدة أخرى ونجح الفنيون فى تركيبها.
أمسكــت بالميكـــروفون، وقلت:
بســــم اللــــه الرحــمن الرحيم
يا شباب مصر.
أعلن عن بدء إذاعة التغيير ومقرها ميدان التحرير بالقاهرة.
فانفجر جمهور الحاضرين بالتصفيق والهتاف.
ثم أكملت كلامى: يعد برامجها ويحررها ويقدمها شباب مصر الثائر المعتصم بميدان التحرير.
بدأت بتحميس الشباب، وبتوجيههم إلى ضرورة الصمود فى أماكنهم مهما كان الثمن، وبأننا إذا صمدنا حتى صباح الغد واستيقظت القاهرة ووجدتنا فى الميدان فمعنى ذلك أننا سنبدأ صفحة جديدة فى الحياة السياسية فى مصر.
وبالفعل، امتلأ الجميع حماسة وتصميماً على البقاء فى الميدان حتى الصباح.
أعلنا كذلك عن فتح الباب للحديث فى الإذاعة لمن يريد أن يلقى قصيدة أو أغنية أو كلمة، وبدأنا بتلقى الطلبات من الجمهور، ووعدنا الجميع بأن تكون الإذاعة ملكاً للجميع، وقد كانت كذلك بالفعل، لمدة ساعتين!
وكان من ضمن ما أشعل الحماس أننى أعلنت أن هذه الثورة قد بدأت بدفع ثمن الحرية وذلك بشهيدين فى السويس!
كانت التجربة المطبوعة فى ذهنى مؤلمة جداً!
وأعنى بها تجربة حدثت فى مارس ٢٠٠٣، بعد أن بدأت أمريكا بضرب العراق، فاعتصمنا فى الميدان بنفس الطريقة، وعند الفجر، هجم الأمن المركزى وطرد من طرد، واعتقل من اعتقل.
كان المنظر مختلفاً، فالعدد هذه المرة أضعاف العدد الموجود فى ٢٠٠٣، وأهم من ذلك أن الهمم والمعنويات مختلفة تماماً.
بدأنا بفعاليات الإذاعة، وبدأ المتحدثون بالحديث، أذكر أن أول المتحدثين كان الدكتور علاء الأسوانى، وتحدثت أيضاً السيدة جميلة إسماعيل، والدكتور عبدالجليل مصطفى، والنائب الإخوانى محمد البلتاجى، وغيرهم.
وكنت الوحيد الذى لم يتحدث، فقد شعرت بحرج أن ألقى أشعارى على الحضور وأنا المسؤول عن الإذاعة، برغم أن المئات من الحضور أمامى كانوا يطالبوننى بذلك، ولكنى تحرجت، وانتهى اليوم دون أن ألقى قصيدة واحدة، بل قدمت الآخرين فقط.
قبل انتصاف الليل، كانت تحركات الشرطة أصبحت مريبة، لذلك وجهت جموع الحاضرين إلى التفرق على مداخل الميدان المختلفة لتأمينها جميعاً، وكان لذلك أثر طيب قلل الخسائر عند اقتحام الشرطة للميدان.
هذه التوجيهات لم تكن اجتهاداً منى بقدر ما كانت استجابة للشباب النابه من حولى.
بعد انتصاف الليل كان صوتى قد بلغ به الإرهاق حدًا رهيبًا، فلم أتمكن من مواصلة إدارة الإذاعة، فتركتها للشباب، وبدأت بالتجول على مداخل الميدان المختلفة لأتأكد من أن جميعها قد تم تأمينه، وكان معى فى هذه الجولة د. مصطفى النجار.
وفجأة، وبدون أى سابق إنذار، بدأ الهجوم الوحشى القذر من الأمن المركزى..! سقطت القنبلة الأولى على الإذاعة مباشرة..!
المدرعات تتقدم، وأصوات القنابل تدوى، والقنابل المسيلة للدموع تنطلق عاليًا وتسقط فى وسط الميدان حيث الحديقة.
كان من الصعب أن نصمد هذا اليوم، لذلك قرر العقل الجمعى للشعب المصرى أن يغادر الميدان.
فى هذه اللحظة، كان مصطفى النجار أمامى، وخطر فى بالى خاطر، هل أمشى معه، أم أنصرف لوحدى؟
وأخذت القرار، وانصرفت وحيدًا، واختفيت بين الجموع الهاربة، وكان ذلك قرارًا حكيمًا، ذلك أن مصطفى قد قبض عليه، ولو كنت قد مشيت معه لقبض علينا معًا!
من ضمن ما حدث أثناء الهروب أن سقطت بجوارى قنبلة مسيلة للدموع، فحاولت التقاطها بشكل شديد السذاجة، فكدت أختنق بالدخان، ولولا أن بعض الشباب عرفونى وساعدونى فى الهروب لكنت قد سقطت من شدة الإعياء..!
كانت خطة الشرطة أن يجبرونا على الخروج من الميدان، لذلك تركوا لنا بعض الطرق للخروج، أنا خرجت فى جمع غفير من شارع (شامبليون)، وكان الشباب يهتفون بمنتهى الحماس، يسقط يسقط حسنى مبارك، الشعب يريد إسقاط النظام. وحين اقترب منى بعض الشباب سائلين: هل خسرنا المعركة بانصرافنا؟
جاوبتهم بكل ثقة: هذا الجمع ما فر إلا ليكر..!
وقلتها بالعامية: إحنا مش هاربانين، إحنا ماشيين علشان نرجع بعدد أكبر..! وهو ما حدث بعدها بأيام.
مشيت مع المظاهرة مسافة كبيرة، فمشينا عبر شارع الجلاء، ومنه إلى بولاق، ثم ركبت سيارة أجرة إلى منزلى، لكى أتابع ما الذى حدث، لأننى كنت منفصلا تماما عن العالم بسبب فراغ بطارية هاتفى.
وصلت منزلى فى تمام الثالثة والنصف صباحا، وبدأت الاتصالات، وأدركت أننا أمام هجوم وحشى تأذى فيه الكثيرون، وعند الصباح بدأت الأخبار تتوالى حول اعتقال مصطفى النجار.
بعد خروج مصطفى من السجن بحوالى يوم ونصف تبين أننا حين كنا نسير معا فى الميدان لحظة الهجوم كنا مراقبين من أشخاص لا نراهم، وأنهم ساروا خلف مصطفى النجار، واستغلوا أنه تعب من الغازات المسيلة للدموع، وتظاهروا بمساعدته، ثم قاموا بخطفه فى سيارة مجهولة إلى مبنى أمن الدولة فى لاظوغلى.
كان القبض على مصطفى النجار لسببين، الأول: أنه المسؤول عن أول دعوة للتظاهرة، فقد أصدرت الحملة بيانا قالت فيه:
تدعو الحملة الشعبية لدعم البرادعى ومطالب التغيير جموع الشعب المصرى إلى الخروج فى تظاهرات سلمية يوم كذا بشكل كذا.. إلخ..!
والسبب الثانى: الإذاعة التى كانت فى الميدان..!
لذلك عومل بقسوة شديدة فى سجنه، وضرب ضرباً شديداً، ولم يفرج عنه إلا لأنه كاد يموت فى الحجز، وذلك لأنه مصاب بمرض فى رئته يتسبب فى حالات ضيق تنفس واختناق، ونظرا لأنه كان مكمما طوال فترة حجزه، فقد تسبب ذلك فى إصابته بنوبة اختناق، كادت تودى بحياته، فرموه فى الشارع لكى لا يموت عندهم!
من أهم ما جرى فى السجن أن جهاز أمن الدولة لم يكن يتخيل أن يتحرك الشعب المصرى!
حين أخبرهم مصطفى أن الحاضرين فى الميدان لا انتماء لهم، ضربوه بعنف، وحاولوا أن يجبروه على التوقيع على اعترافات ملخصها أن ما حدث كان خطة متفقا عليها بين د. البرادعى، وبين الإخوان المسلمين..!
وكانوا رافضين تماما لأى حديث عن حركة عفوية للناس، وكان من أسباب ضرب «مصطفى» فى سجنه أنه رفض التوقيع على هذه الاعترافات المفبركة رفضاً تاماً.
خصوصاً أنها كانت مدعمة بالصور، وبالصوت والصورة، إذ تم تصويرنا ونحن نتحدث فى الإذاعة، التى أقمناها فى الميدان.
حين حكى لى مصطفى ما حدث، شعرت بأن النهاية اقتربت، لأن أعراض غرور هذا الجهاز أصبحت أكبر من أن يعيش معها، إن غرور أمن الدولة كان من أهم أسباب القضاء على هذا الجهاز الخسيس.
خرج مصطفى النجار مصاباً، فهو يعرج بسبب ضرب مبرح فى ركبته، وكذلك كان مصاباً بشرخ فى أحد أضلاع صدره، بالإضافة للإرهاق الذى تسبب فيه تكميمه طوال فترة اعتقاله، مما أدى إلى نوبة ضيق التنفس التى أصابته.
استمرت المظاهرات حتى يوم الجمعة، وهو يوم جمعة الغضب الذى دعونا إليه أول ما دعونا من خلال الإذاعة، التى كانت فى ميدان التحرير!
بعد أن تم فض الاعتصام هاتفنى أصدقاء لم أسمع أصواتهم منذ سنوات وسنوات، ليعرفوا كيفية الانضمام لهذه الحركة.
كان الشعور الغالب عند من يتصل بى، أنه قد فاته شرف الاشتراك فى التظاهرة الكبرى فى ميدان التحرير، وأنه يريد أن يعوض ما فاته.
وخلال اليومين التاليين (الأربعاء، والخميس) استمرت المظاهرات فى عشرات الأماكن فى القاهرة الكبرى، كانت مظاهرات صغيرة، أو متوسطة، ولكنها استدعت حشد قوات الأمن المركزى، مما تسبب فى إرهاق شديد لهذه القوات، وبالتالى كانت المهمة سهلة يوم الجمعة، فقد كنا نحارب جيشاً منهكاً تمام الإنهاك.
ليلة الجمعة وصل الدكتور محمد البرادعى إلى القاهرة، بعد أن قطع سفره، خصيصاً لينضم إلى التظاهرات.
وعقدنا اجتماعاً معه فى منزله فور وصوله، وكان من ضمن الحاضرين الدكتور عبدالجليل مصطفى، والأستاذ على البرادعى، والدكتور عصام العريان، والدكتور سعد الكتاتنى، والدكتور مصطفى النجار، والناشط عبدالمنعم إمام.
من أهم ما دار فى الاجتماع أن الإخوان المسلمين قد اتخذوا الموقف الصحيح، وكان كلام الدكتور العريان والدكتور الكتاتنى يدل على أن الجماعة قد قررت النزول للشارع وأن تلتحم مع الشعب المصرى فى ثورته.
ساحة النقاش