. وبدأت «معركة الصبر»

(هاهم يستخرجون أفضل ما فى أنفسهم بعد أن قرروا أن يكونوا قادة أنفسهم)!

وكان من المشاهد المؤثرة التى شاهدتها رجل مع امرأته الحامل يخوضان المعركة مع المتظاهرين!

شاهدت أطفالا صغارا لا تتجاوز أعمارهم العاشرة يشاركون فى المعركة، وشاهدت سيدات كبيرات، وفتيات صغيرات.

كانت الغالبية العظمى من الشباب الذين لم يُتموا الثلاثين.

كنت أشعر أن البلد يولد من جديد، كنت أشعر بطاقة حب غريبة!

بالرغم من اشتعال المعركة كان الجميع يواصلون الهتاف: «يسقط يسقط حسنى مبارك»، وكلما شاهدوا شابا أو رجلا فى شرفة من الشرفات يتفرج على المظاهرة هتفوا له وهم يؤشرون له بالنزول: (انزل انزل خليك راجل.. حسنى مبارك راحل راحل!).

فى هذه الأثناء أذن العصر، وبدأ الناس بأداء الصلاة جماعات جماعات تحت الجسر، ورغم مرور كل هذا الوقت إلا أن ملابسى ما زالت تقطر ماء بسبب المدرعة اللعينة التى أغرقتنى بمائها، وبدأت أشعر بإجهاد شديد بسبب البرودة النسبية لذلك اليوم، بالإضافة إلى الغازات والمجهود الذى يبذله المرء فى الكر والفر.

انضممت إلى جماعة وصليت العصر، ثم أكملت الجموع معركتها مع الشرطة.

لقد كان الوعى الذى يحرك المتظاهرين فى غاية الروعة، لدرجة أننى كنت أحمل فى يدى حجرا على سبيل الاحتياط، فوجدت من ينبهنى إلى ضرورة التزام الشكل السلمى للتظاهرة.

وبقدر الوعى الذى كان فى المتظاهرين، بقدر ما كانت خسة رجال الشرطة، فقد أحرقوا سيارة مدنية خاصة واقفة فى الشارع عمدا أمام أعيننا، وحين حاول البعض إطفاء الحريق أطلقوا نحوهم القنابل، ثم أطلقوا عليهم الرصاص المطاطى.

وفى منتصف المعركة توقفت الشرطة عن إطلاق القنابل حتى أُوحى إلينا أن المعركة انتهت، ولهذا بدأ المتجمهرون بالاقتراب من الشرطة، وبعد أن أصبحنا فى مواجهتهم انهالت علينا القنابل من المدرعات، ومن فوق الجسر، وتسبب ذلك فى إصابات كثيرة، وأصبت حينها باختناق شديد، وفقدت العصا التى غنمتها من الجندى، ولولا مساعدة أحد الناشطين الذين يعرفوننى (كريم الجهينى) لكنت قد فقدت وعيى.

بعدها بدا واضحا أن التشكيلات التى أمامنا من مكافحة الشغب قد باتت فى وضع محرج، فهى تتراجع، وتقلل مما تقذفه علينا.

كان رأيى أن هناك أمرا ما قد جاء لهذه التشكيلات، إما بالكف عن الضرب، أو بالانسحاب، والبعض رأى أن ذخيرتهم من القنابل قد فرغت!

وأنا الآن أظن أن الأمر مزيج من الاثنين.

بعد أن أفسحت لنا شرطة مكافحة الشغب طريقنا حدث مشهد فى منتهى الروعة!

لقد بدأ المتظاهرون بالسلام على عساكر وضباط الشرطة، بل إن البعض بدأ بتقبيلهم والحديث معهم بما يرفع معنوياتهم، وبما يرفع الحرج عنهم، كلام من نوعية: «والله العظيم عاذرينكم، عارفين إنه مالكوش ذنب، منه لله اللى بيخليكوا تعملوا فينا كده»!

وفى هذه اللحظة صعد بعض المتظاهرين أعلى الكوبرى وبدأوا برشق الشرطة بالحجارة، فما كان من جموع المتظاهرين إلا أن تكتلت أمام تشكيلات الأمن المركزى كدرع بشرية، مع هتاف موحد يدوى فى السماء: «سلمية.. سلمية»!

كان هناك بائع (سميط) فى المظاهرة، يبيع وهو يصرخ: (بنص جنيه)، وحين انتصرت الجموع على الأمن رأيت هذا البائع يصرخ فرحا: (ببلاش ببلاش ببلاش)!

وبدأ الناس يأخذون بضاعته مجانا، ويقبلون عليها من شدة التعب وهو راض بذلك، فجاء شاب ثلاثينى سمح الوجه، وقال للبائع: (بتتكلم جد؟) فأجاب البائع بثقة: (أيوه.. اتفضل)، فما كان من الشاب إلا أن أخرج من جيبه ورقة نقدية بمائتى جنيه، وأعطاها للبائع فى يده، قائلا له: (برافو عليك)..!

كان هذا الموقف وما شابهه إرهاصة لما سوف يحدث فى الميدان، أعنى بذلك ظهور أخلاق جديدة، وسلوك مختلف من المصريين، بسبب اللحظة التاريخية التى يعيشونها.

وبهذا المشهد الرائع انتهت معركة ميدان الجيزة، وتحركت الجموع إلى ميدان التحرير.

كنت فى غاية الإجهاد، لذلك مشيت مع الماشين حتى وصلت لسيارتى عند حديقة الحيوان، وقررت أن أذهب إلى منزلى فى السادس من أكتوبر لتبديل ملابسى.

استغرقت رحلتى إلى المنزل ما يزيد على ساعتين، ذلك أن انسحاب الشرطة من الشوارع قد بدا واضحا، لذلك كلما سلكت طريقا وجدته مغلقا إما بالمظاهرات وإما بالبلطجية!

كان الطريق الدائرى (من جهة المنيب) مغلقا بالبلطجية، وكانوا يمنعون السيارات من المرور مع التلويح بالعصى والسكاكين، وكذلك كل الطرق التى تمر بمنطقة وسط البلد، لذلك اضطررت للعودة والدخول من حى المنيل إلى منطقة سور مجرى العيون ثم عبر القلعة إلى أن ارتقيت كوبرى ٦ أكتوبر من طريق صلاح سالم، ثم مشيت إلى أن وصلت إلى كوبرى ١٥ مايو، وعندها وجدت قوات مكافحة الشغب تتصدى لجموع قادمة من جهة شبرا، وجموع أخرى قادمة من بولاق، وجموع قادمة من الزمالك، وكلها تريد الوصول إلى ميدان التحرير.

فى هذه المنطقة وقفت ما يقرب من ربع ساعة، ثم تجمعت بعض السيارات ففتح الأمن المركزى لنا الطريق وعبرنا بسرعة من خلال كوبرى ١٥ مايو من فوق الزمالك حتى وصلت إلى المهندسين، وفى ميدان سفنكس كانت هناك اشتباكات عنيفة جدا بين المتظاهرين والشرطة، وكادت سيارتى تدمر بسبب القنابل والحجارة التى يلقيها الطرفان.

من أهم مميزات رحلتى الطويلة إلى المنزل أننى رأيت المظاهرات فى أجزاء كثيرة من القاهرة، خصوصا حين قطعت المسافة من شرق القاهرة عبر كوبرى ٦ أكتوبر إلى المهندسين، ثم إلى السادس من أكتوبر.

رأيت مناطق مثل العباسية، وغمرة، ورمسيس، وشارع الجلاء، وبولاق، وكورنيش شبرا، والزمالك.. كل هذه المناطق كانت غاصة بالبشر.

ما رأيته بنفسى فى هذا اليوم لا يقل عن نصف مليون متظاهر بأى حال من الأحوال.

طوال الطريق كنت أستمع إلى إحدى محطات الإذاعة الرسمية، وعلى مدار ساعة ونصف كانت الإذاعة تحاول أن توضح أن الأمور مستقرة، وأن الاحتجاجات محدودة جدا، وأنها محصورة فى محافظات قليلة.

هذه الرسالة الإعلامية المزورة جاءت على لسان محافظى الفيوم والغربية والسويس وقنا وأسيوط وغيرهم، وبعض هؤلاء المحافظين بالغ فى صفاقته حتى زعم أن الشرطة تحمى المتظاهرين، وتؤمن مسيرتهم لا أكثر!

وعند الخامسة والنصف، كانت نشرة الأخبار تعلن نزول القوات المسلحة بأمر من مبارك بصفته الحاكم العسكرى، وتفرض حظر التجول، وغير ذلك من الإجراءات، وذلك من أجل حماية ممتلكات الدولة والمواطنين من اعتداءات الغوغاء على الفنادق والبنوك وغيرها.

حينها قلت فى نفسى: يا لغبائهم!

نفس الراديو كان يعلن منذ دقائق أن الأمور مستقرة، وفجأة اتخذت كل هذه الإجراءات من أجل حماية البلد من الغوغاء..!

كانت رائحة القنابل فى كل مكان، كلما فتحت شباك السيارة فى أى مكان فى القاهرة تقريبا دخلت هذه الرائحة الخانقة.

واصلت طريقى إلى منزلى، ووصلت بعد المغرب، فخلعت ملابسى وأنا منهك تماما، وجسلت أمام محطات التليفزيون، وأعلن التليفزيون المصرى عن كلمة سيلقيها مبارك بعد قليل.

بعدها أُعلن أن السيد فتحى سرور قد صرح بأن هناك قرارات مهمة سيتم الإعلان عنها!

كان انطباعى أن هناك صراعا فى غرفة القيادة على كيفية إعلان خروج مبارك من الحكم!

لقد وصل المتظاهرون إلى مبنى التليفزيون!

والحرائق ممتدة بدءا من أقسام الشرطة، وصولا إلى المتحف المصرى، مرورا بمقر الحزب الوطنى الحاكم!

لقد سقط مبارك، ونحن فى انتظار خطاب التنحى!

ما عرفناه بعد ذلك أن الوحدات التى جاءت إلى منطقة وسط البلد كانت من الحرس الجمهورى، وكان الهدف منها أن تؤمن مبنى ماسبيرو، وهذا ما حدث، وتم إقناع المتظاهرين (وهم بالمئات) بالخروج من المبنى، ولم يلتفت أحد من هؤلاء القادة إلى ما يحدث فى المتحف المصرى، فأمّنوا التليفزيون والإذاعة، وتركوا المتحف ينهب، وتركوه أيضا معرضا للاحتراق بسبب الحريق الذى شب فى مبنى الحزب المجاور له!

جلست أتابع وأنا فى انتظار خطاب التنحى، وبعد منتصف الليل، خرج علينا بوجهه العكر، ليعلن بقاءه، ويعلن تعيين نائب، وإقالة الحكومة!

شعرت بصفعة على وجهى!

يا له من عُتل غبى!

قلت فى نفسى: (والله لن أبيت فى منزلى هذه الليلة!)، فقمت من فورى، ولبست ملابسى مرة أخرى، وتوجهت فورا إلى الميدان!

كانت الطريق سالكة، فوصلت بسرعة كبيرة.

فوجئت حين وصلت بأن عدد الشباب المرابطين فى الميدان قليل جدا، أظنه لا يصل لخمسة آلاف شاب!

بدأت بجولة تفقدية للميدان، فوجدت عددا كبيرا من الشباب يحرس المتحف المصرى، وقد قبضوا على بعض ضباط وأفراد الشرطة وهم يحاولون العبث به، وكان ذلك استجابة لنداء المخرج السينمائى خالد يوسف عبر شاشات التلفاز.

الدبابات تمركزت على مداخل الميدان كلها، ولا وجود للشرطة نهائيا، اللهم إلا بعض سيارات الشرطة المحترقة، وبعض الغنائم التى غنمها المتظاهرون، كالخوذات والعصى!

ومن أغرب ما شاهدته مدرعة محترقة من مدرعات الجيش، فسألت الشباب عنها، فأخبرونى أنها مدرعة تابعة للحرس الجمهورى، وأن المتظاهرين أحرقوها لأنها كانت تنقل الذخيرة لقوات مكافحة الشغب!

وكذلك ضُبِطَتْ سيارة إسعاف تنقل ذخيرة لهم، ولهذا تم منع أى سيارات تعبر من الميدان إلا بعد أن يتم تفتيشها.

لم أجد أى شخص معروف فى الميدان، ولم أجد أى قيادى من القيادات الشبابية أو التاريخية، وكنت قلقا جدا، لأن العدد كان قليلا، ولو أراد النظام تفريغ الميدان ممن فيه الآن لتمكن من ذلك!

حين حاولت أن أنشئ إذاعة أخرى مثل التى أنشأتها فى الخامس والعشرين من يناير لم أتمكن، فجميع المتاجر مغلقة.

حاولت بعد ذلك (فى صبيحة اليوم التالى) أن أشترى سماعات من بعض منظمى الأفراح، ولكنهم بالغوا فى الأسعار، ولم يكن معى ما يكفى من المال، وحين وجدت بعض الشباب أقاموا الإذاعة ارتحت، وكذلك قام شباب الإخوان بعمل إذاعة صغيرة تأتى بها سيارة، ثم تطورت هذه الإذاعة، وأصبح لها الصوت الأعلى فى الميدان.

كان ظنى أن الناس قد تعبت من معركة البارحة، وأنهم سيرتاحون ويبدلون ثيابهم ثم يعودون، تماما كما فعلت أنا.

وهذا ما حدث، إذ بدأت الجموع تتدفق على الميدان منذ الصباح الباكر، فكان العدد يفوق الخمسين ألفا عند التاسعة صباحا، وكان يفوق الربع مليون مع أذان الظهر.

إذن.. فقد بدأت معركة الصبر!

وللحديث بقية...

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 51 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2011 بواسطة mohamedmedhat1

ساحة النقاش

محمد مدحت عمار

mohamedmedhat1
طالب فى الاعدادى واحب الاسلام وهوايتى الكمبيوتر والمقالات والنت و كاتب صغير »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

46,971