لا خشية من كثرة الأحزاب فى مصر بعدما تجاوزنا زمن المحظوظ منها والمحظور، لكن ما ينبغى أن يقلقنا أن يصبح ذلك بابا للاختلاف وليس الائتلاف.
فى صحف الأسبوع الماضى أن مائة ائتلاف لشباب الثورة شاركوا فى الحوار الذى تم مع أعضاء المجلس العسكرى (الأهرام 2/6) وفى قول آخر إن 23 ائتلافا رفضوا الحوار وإن 70 حركة أبدت ملاحظات على الدعوة التى وجهها المجلس (المصرى اليوم 2/6).
وفى صحيفة «الأهرام» التى صدرت فى الأول من شهر يونيو الحالى أن بعض الائتلافات فرخت أجنحة انشقت عنها. فعرفنا أن «اتحاد شباب الثورة» خرج من جناح عبدالرازق عيد الذى أيد المشاركة فى الحوار فى حين أن جناح حمادة الكاشف فى الاتحاد ذاته قاطعه. وإن حملة دعم الدكتور البرادعى خرج من عباءتها أحمد عزت الذى شارك فى الحوار أما جناح زياد العليمى فقد قاطعه، وإن جبهة أحمد ماهر التى خرجت من حركة 6 أبريل تحفظت على الحوار فى حين أن جناح عمرو عزت المنسوب إلى الحركة ذاتها قاطعه.
فى إشارة الأهرام إلى المجموعات التى أيدت الحوار وشاركت فيه وقعت على العناوين التالية: جبهة اتحاد الطلاب الديمقراطية ــ تكتل الجمهورية لدعم الثورة ــ اتحاد المناطق الشعبية ــ مجلس أمناء الثورة ــ جبهة الثوار الأحرار ــ ائتلاف الشباب الأحرار ــ تحالف ثوار مصر ــ ائتلاف ثورة مصر الحرة ــ ائتلاف الوعى المصرى ــ الجبهة الحرة للتغيير السلمى... الخ (الأهرام 1/6).
إلى جانب مجموعات الشباب الذين يتبنون مبادئ الثورة وأهدافها، فهناك قائمة أخرى تضم أحزابا جديدة تتمحور شعاراتها حول الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية، وهذه القائمة تضاف إليها أحزاب جديدة كل حين، ومن الأسماء التى تم تداولها حتى الآن أحزاب العدل ــ المصريون الأحرار ــ المصرى الاجتماعى الديمقراطى الحر ــ الحضارة ــ حزب التحرير ــ إضافة إلى 3 أحزاب يسارية هى: التحالف الشعبى الاشتراكى ــ حزب العمال الديمقراطى ــ الحزب الاشتراكى المصرى.
الاندفاع نحو تشكيل الأحزاب بدا أكثر وضوحا فى محيط ذوى المرجعية الإسلامية، خصوصا تلك التى عانت من الحظر وظلت تعمل فى الظلام أو مدفونة فى السجون طوال الثلاثين سنة الماضية.
إذ إضافة إلى حزب الإخوان (الحرية والعدالة) وحزب الوسط وحزب النهضة الذى خرج مؤسسه (الدكتور إبراهيم الزعفرانى من عباءة الإخوان) وحزب التوحيد العربى الذى خرج مؤسسه محفوظ عزام، من عباءة حزب العمل، فإن اللافت للنظر أن مجموعة الجهاد التى كانت قد أعلنت عن مراجعة برنامجها الفكرى قررت تأسيس حزب «السلام والتنمية»، والجماعة الإسلامية التى من أبرز قادتها عبود الزمر وعصام دربالة وصفوت عبدالغنى انتخبت مجلسا للشورى، وقررت إنشاء حزب لم يتفق على اسمه بعد (الأسماء المرشحة: مصر أولا ــ البناء والتنمية ــ الصحوة الشعبية).
السلفيون فى الإسكندرية قرروا إنشاء حزب «النور». والسلفيون فى القاهرة، وبعض المحافظات الأخرى قرروا إنشاء حزب آخر باسم «الفضيلة». بل إن الطرق الصوفية شاركت فى المشهد، فأنصار الطريقة «العزمية» قرروا إنشاء حزب للمتصوفة أطلقوا عليه اسم حزب «التحرير المصرى». بالمقابل فإن أتباع الطريقة «الرفاعية» قرروا بدورهم إنشاء حزب آخر لم يتفق على اسمه وبرنامجه بعد.
ليس ذلك فحسب، وإنما نشر فى الأهرام فى ٢/٦ أن قناتى الناس والرحمة الدينيتين قررت كل منهما ان تقدم مرشحين عنهما لانتخابات مجلس الشعب القادم.
هذا الذى حدث يعد تطورا مثيرا. أن يتخلى تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية عن العنف ويقرران المشاركة فى العمل السياسى والتغيير السلمى. وإن يشكل السلفيون حزبين بعد سنوات من طباعة رسالة فى الإسكندرية كان عنوانها «القول السديد فى أن دخول البرلمان مناف للتوحيد». وألا يكتفى المتصوفة بحلقات الذكر ليخوضوا غمار حلبة السياسة.
إذا وضعنا فى الاعتبار أن فى مصر 23 حزبا من مخلفات النظام السابق، فسنلاحظ أن الساحة المصرية أصبحت تعج بالأحزاب، وأن ما يميز شريحة الأحزاب الجديدة هو حضور الأحزاب الإسلامية واليسارية التى كانت توصف طوال السنوات الماضية بأنها «محجوبة عن الشرعية». ولأن المجال لايزال مفتوحا، فربما يتعذر الوقوف على حصر للأحزاب فى ظل النظام الجديد، وإن كان زميلنا الأستاذ ضياء رشوان الخبير فى الموضوع يقدر الأحزاب الراهنة بنحو 50 حزبا. وإذا صح ذلك فى بلد يضم نحو 84 مليون نسمة، فإن الرقم يبدو متواضعا نسبيا. وللعلم فإن تونس التى يسكنها عشرة ملايين نسمة أصبح عدد الأحزاب فيها بعد الثورة 81 حزبا. وكنت قد ذكرت فى مقام سابق أنه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية تشكل فى اليابان 400 حزب، وبعد انقلاب البرتغال فى سبعينيات القرن الماضى تأسس هناك 90 حزبا.
تعدد الأحزاب يمكن أن يقرأ من عدة زوايا. فهو دال على اندفاع الناشطين إلى محاولة «التنفيس» عن مخزون طاقاتهم التى ظلت محبوسة أمدا طويلا. كما أنه دال على شيوع الرغبة فى المشاركة بالعمل السياسى، فى بلد دأب الباحثون على القول بأن الناس فيه عزفوا عن السياسة واستقالوا منها. ثم إنه يشكل مناخا مواتيا لبسط مختلف الأفكار وانضاجها مما يصب فى صالح استقرار المجتمع وأمنه.فحين تشارك فى العملية مثلا جماعات انحازت فى السابق إلى فكرة التعبير بالقوة والعنف فإن ذلك يعد تطورا بالغ الأهمية ينبغى ألا يقلل من شأنه.
ثم لا تنس أنه فى الممارسة الديمقراطية فإن كثرة الأحزاب لا تستمر طويلا. من ناحية لأن صناديق الانتخاب هى التى تقرر ما هى الأحزاب التى ينبغى أن تستمر، أو تلك التى ينبغى أن تختفى أو تندمج مع غيرها، ومن ناحية ثانية، فإن من شأن كثرة الأحزاب تشتيت الأصوات وإضعاف الجميع، ولذلك فليس أمام الأحزاب المتشابهة فى برامجها ومقاصدها سوى أن تندمج أو تأتلف مع غيرها من خلال المشاركة فى قائمة موحدة تعالج التفتت وتلملم المشرذم. وللعلم فإن الـ400 حزب فى اليابان تم اختصارها إلى 12 حزبا فى نهاية المطاف.
الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح. ذلك أن ثمة تحديات تواجه كل اللاعبين الذين نزلوا إلى ساحة العمل السياسى فى مصر، بعضها يخص الأحزاب المدنية، والبعض الآخر يخص الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، بين الفريقين.
إذ لست أخفى توجسا من الغوايات التى تنتظر الأحزاب والائتلافات المدنية، وهذه الغوايات تتمثل بالدرجة الأولى فى عمليات الاختراق الخارجى التى تجرى تحت ستار دعم الديمقراطية. ذلك أنه ليس سرا أن الدول الغربية ومعها أو من ورائها إسرائيل تتابع ما يجرى فى مصر بدقة شديدة ويوما بعد يوم، ذلك أن مصر الحقيقية لها تأثيرها المشع فى العالم العربى كله، كما أن مصر الديمقراطية تستفزها الهيمنة الأمريكية والعربدة الإسرائيلية. ولذلك فإن أولئك الذين يرصدون ما يجرى فى مصر يهمهم للغاية أن يظل منسوب الديمقراطية، والوطنية فيها عند الحدود التى لا تتعارض مع المصالح الغربية أو تتقاطع مع الطموحات الإسرائيلية. وهناك أساليب كثيرة لتسليم هذه الرسالة من بينها ذلك الاختراق الذى أحذر منه. ولا يتوقعن أحد بالمناسبة أن توجه الإدارة الأمريكية 150 مليون دولار لدعم الديمقراطية فى مصر بالصورة التى يتمناها المصريون، لأن المطلوب هو ديمقراطية «المانحين» التى تباركها وترضى عنها واشنطن.
هذا الذى أحذر منه ليس مجرد تحليل أو استنتاج، لأن ثمة معلومات لدى الجهات المختصة تشير إلى أن التمويل الأجنبى وصل إلى مصر، وإن بعض الانشقاقات التى حدثت فى أوساط الناشطين لها أسبابها السياسية الوجيهة أحيانا، لكن لها أسبابها المتعلقة بالتمويل فى أحيان أخرى، وقد سبق أن أشرت فى مقالة سابقة إلى واقعة دعوة بعض شباب الناشطين إلى فرنسا والحديث الصريح معهم عن التمويل وشروطه ــ «الشروق» 14/5.
الجماعات والأحزاب الإسلامية تواجه أكثر من تحد. إذ بعدما توافقت فصائلها «الجهادية» على الالتزام بالتغيير السلمى والمشاركة فى الممارسة الديمقراطية، فإن التحدى الآخر الذى يواجهها هو كيفية التفاعل مع الواقع المعاش بخطاب أكثر نضجا وأفكار أكثر تطورا. وفيما خص الخطاب فلا مفر من الاعتراف بأن أغلب تلك الأحزاب والجماعات لا تجيد التعبير عن نفسها، وأن بعض ما يصدر عنها يقلق الناس أو يخوفهم منها بأكثر مما يجذبهم إليها. وما تلقيناه فى الأسابيع الأخيرة من تصريحات منفرة صدرت عن قياديين فى الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والسلفيين خير دليل على ذلك.
لست أتحدث عن تغيير لغة بقدر ما أدعو إلى تطوير الأفكار. وتلك نقطة أشدد عليها بعدما بلغنى من لغط وجدل مثار فى أوساط الجماعات الجهادية والسلفية حول برامج الأحزاب الجديدة، ومواقفها إزاء بعض قيم الديمقراطية التى حسمها وتجاوزها معها الفكر الإسلامى المعاصر منذ عدة عقود، فى حين لم تصل أصداؤها بعد إلى الخارجين من السجون والقادمين من السراديب. وفى حدود علمى فإنهم لايزالون يتناقشون حول تقنين الشريعة والمواطنة ومدنية المجتمع وحقوق غير المسلمين وقضية المرأة. وللعلم فإن أحد القياديين السلفيين اعتذر عن مقابلة صحفية أجنبية فى نقابة الصحفيين لعدم وجود محرم معها:
التحدى الآخر المهم الذى تواجهه الجماعات الإسلامية يتمثل فى كيفية المواءمة بين ما هو دعوى وما هو سياسى. ذلك أن تلك الجماعات يفترض أنها رسالية بالأساس. بمعنى أن التربية المبنية على القيم الإسلامية تشكل حجر الأساس فى مشروعها، ولكن انخراطها فى العمل السياسى يجرها إلى ساحة أخرى قد تبعدها عن جوهر مقصودها. ناهيك عن أنه يقصيها عن مجالات العمل الاجتماعى والتنموى. وفتنة العمل السياسى أشد لأنها محفوفة بالغوايات والوجاهات، فى حين أن مردود العمل الاجتماعى والتنموى أكبر وأعمق. والمتابعون لأنشطة الجماعات الإسلامية التى لم تنجح فى المواءمة بين الدعوى والسياسى يعرفون أكثر من غيرهم كيف أضر ذلك بدور الحركة الإسلامية فى كل من الجزائر والأردن. وكيف نجحت الخبرة التركية فى حل الأشكال، وكان تشكيل حزب العدالة والتنمية فى عام 2001 وفوزه فى الانتخابات البرلمانية فى العام التالى مباشرة نموذجا جديرا بالدراسة فى هذا المجال، علما بأن ما حصده حزب العدالة ليس ثمرة جهد عام، ولكنه حصاد خبرة وممارسة ديمقراطية استمرت نحو ثلاثين عاما (منذ عام 1970).
بقى التحدى الكبير الذى ينتظر الجميع بمختلف انتماءاتهم، حين يتحول التعدد من ثراء للفكر والممارسة إلى تشرذم واستقطاب يقسم المجتمع بين إسلاميين وعلمانيين، وهو ما ظهر هذه الأيام فى الساحة التونسية التى تنادى فيها البعض إلى تشكيل تجمع علمانى سمى بـ«القطب الديمقراطى» لمواجهة التيار الإسلامى. وهى دعوة ليست بعيدة تماما عما يلوح به البعض فى مصر، الأمر الذى يفتح الأبواب لتأجيج الحرب الأهلية التى لم تتوقف بين العلمانيين والإسلاميين، التى أزعم أن الوطن هو الخاسر الأكبر فيها، علما بأن العلمانيين سيكونون فى موقف لا يحسدون عليه.
أدرى أن الغلاة لا يمانعون فى استمرار تلك الحرب، لكننى أزعم أن مصر لم تعدم عقلاء ووطنيين يسعون لإطفاء نارها، داعين إلى ائتلاف بين الجميع، لا يقصى ولا يخون أو يكفر، ويرفع شعار الوطن أولا. وليس لنا فى ذلك خيار، لأن الغلاة والحمقى يجب أن يخسروا هذه المعركة، وبغير ذلك تكون الثورة قد فشلت فى تحقيق أهم أهدافها.
ساحة النقاش