المعنى الثالث.. إجعل تقوى الله مطيتك

قضية التقوى هي رأس جميع الممارسات الدعوية وتحقيقها هو عين المقصود وقد أعجبت دوما بتعريف للشورى كممارسة إيمانية مضمونه : البحث عن الحق والصواب , من خلال جهد بشري ملتزم بمنهج الله يبتغي تحقيق التقوى بهذه الممارسة ..

والتقوى مفهوم واسع رحب مقصوده تحري الشرع وتلمس رضا الله في كل قول وفعل وإشارة وإيحاء حال الرضا وحال الغضب فهو دواء عام يوصف لكل متصدر للعمل الدعوي ..

وحينما نطالع مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الذي تعاظم فيها حلمه واتسع صدره نجد المحور البارز فيها هذه الخطوة اللازمة من تقوى الله حين تغضب وينتقص قدرك ..  نص عليها بكر بن عبد الله المزني فقال : لا يكون الرجل تقيا حتى يكون تقي المطعم تقي الغضب .

عن أنس بن مالك قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بردٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، قال أنس : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! أعطني من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء  .

وقال أبو موسى الأشعري :)  كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: « أبشر» فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر !!

 فأقبل صلى الله عليه وسلم على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: « رد البشرى، فاقبلا أنتما» قالا: قبلنا. ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ثم قال: « اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة ( البخاري، كتاب المغازي

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :... فلما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك, وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأتيته فأخبرته بما قال, قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف, ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!» ثم قال: « يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر»

ولعل هذا الضابط - وأعني ضابط ملازمة التقوى حال الرضا والغضب ليسع صدرك المخالف لك مهما كان أسلوبه – كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية الدعوة فكان يقابل جهل الناس بالحلم وتهجمهم بسعة صدر فريدة صلى الله عليه وسلم وإسلام ضماد الأزدي أحد النماذج :

وفد ضماد الأزدي إلى مكة, وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون، كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالج من الجنون, فلما سمع سفهاء مكة يقولون إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي.

فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك؟

فهو اتهام واضح للنبي الكريم بالجنون وحاشاه يكون , فما كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن قال : «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا  إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد».

فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر, فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «هات يدك أبايعك على الإسلام» قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي .

ويأتيه الوليد بن عتبة فيقول: يإبن أخى إنك منا حيث قد علمت من السلطة فى العشيرة والمكان فى النسب وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جمعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت آلهتم ودينهم وكفرت به من مضى من آبا ئهم !!

فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك اقبل منها بعضها ..

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم  قل يا أبا الوليد أسمع منك !!

قال يا أبن أخى : إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا لك أموالنا حتى تبرئ منه  ..

 حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال له أفرغت يا أبا الوليد قال نعم قال فإسمع منى فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آيته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ..

ويلخص هذه السيرة العطرة في تحمل المخالفين بقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ "

المعنى الرابع .. إجعل حسن الظن وطيب القول مبدأك

من القواعد الهامة والمبادئ الحاكمة لسعة الصدر وسلامته كذلك طيب القول وحسن الظن فهما وجهان دائما لعملة الحوار الناجح ..

ومن أهم المعوقات التي تحول بين أن تتسم ممارستنا للحوار بالصبغة الإيمانية ومن ثم تضيق صدورنا بالمخالف لنا هي عدم فهم المراد من قوله تعالى " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينكم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا  " ومن ثم تأويل الكلمات على وجه ليس فيه حسن ظن ..

يقول صاحب ( الظلال ) :[ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن على وجه الإطلاق وفي كل مجال فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه .. بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة  فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيىء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء والكلمة الطيبة تواسي جراح القلوب , وتندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .

والشيطان يتلمس سقطات الفم وعثرات اللسان , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه  والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته ] .

فسمة من سمات عباد الله طيب القول وأسلوب من أساليب الشيطان ماكر هو إيغال الصدور بالكلمة الخشنة وبالرد السيء  وبالإيحاء الخالي من اللباقة ..

هي قضية كبيرة إذا يجب أن نعيها تماما وهي فقه التعامل مع النفوس فالناس كل الناس تكره الإساءة والغلظة في القول حتى ممن تحب وتحترم ولو كانت ممن له فضل عليها وحتى لو في ثوب عبادي محترم كالنصيحة مثلا ..

كتب الإمام النووي وهو يعلق على حديث " إنما الأعمال بالنيات ..... فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " يقول : ذلك من طيب قول النبي (ص) فقد كرر النبي (ص) القول الطيب ولم يكرر القول غير الطيب فقال " فهجرته إلى ما هاجر إليه "

وطيب القول فوق أنها نوع من الأدب الإسلامي جعلها الله لونا من ألوان الهداية .. يقول الله تعالى

" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ . "

يقول الأستاذ سيد قطب : [ أما الذين آمنوا فهم في جنات تجري من تحتها الأنهار وملابسهم فصلت من الحرير ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ وقد هداهم الله إلى الطيب من القول , وهداهم إلى صراط الحميد  والهداية إلى الطيب من القول , والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم ] ..

وفي سورة الكهف وفي قصة موسى والعبد الصالح نجد إلماحا إلى هذا المعنى من قريب   :

فالرجل الصالح عندما تحدث عن العيب الذي أحدثه بالسفينة قال : " فأردت أن أعيبها " ونسب إرادة الفعل ( العيب ) إلى نفسه وهو مأمور بهذا الفعل من الله ولكن لفظة العيب لا يصح أن تنسب إلى الله وعندما أراد أن يتحدث في موضع آخر في نفس القصة قال : " وأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " .. ففعل الرحمة يصلح أن يضاف إلى الله

ثم قال معقبا مبينا " وما فعلته عن أمري "

والوجه الثاني لهذا المعنى هو تأويل كلام المخالف لي في الرأي على أفضل وجه ..

فأحيانا قد يقع الأخ في أثناء تأويل الإختلاف في الرأي إلى مواقف سابقة لصاحب الرأي فيأول موقفه إعتمادا على هذا الظن وهو أشبه بقول القائل إن تنحية عمر لخالد رضي الله عنهما كان لموقف كان بينهما في الجاهلية وهو تفكير مغلوط وسوء ظن لا يليق بأصحاب الدعوات ..

لذلك كثرت النصوص التي تحذر من سوء الظن :

يقو ل الله عز وجل : " يا أيّها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً مِن الظنِّ إنَّ بعْض الظنِّ إثمٌ "

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "  إيّاكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " [متفق عليه] ..

وفي سورة النور يصف القرآن موقف أبو أيوب الأنصاري وزوجته أم أيوب روى ابن إسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ? قال : نعم وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ? قالت: لا والله ما كنت لأفعله قال : فعائشة والله خير منك ..

وفي رواية  أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال ? فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله [ ص ] سوءا ? قال:لا . قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة - رضي الله عنها - ما خنت رسول الله [ ص ] فعائشة خير مني , وصفوان خير منك ..

فينزل القرآن مؤكدا على موقف أبو أيوب وزوجته وجعل هذه الممارسة أصلا معتبرا

" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين "

ولاحظ معي هنا كلمة [ أنفسهم ] فالسبيل الأول لتناول أي قضية مطروحة هو إنزال الآخر منك منزلة نفسك ثم تقول لو كنت بدل فلان هل كنت أقول ما أقول لكذا وكذا مما لا يصح , فحسن ظنك بأخيك بعض حسن ظنك بنفسك ..

 ويروى أن إمرأة دخلت على الشافعي في مرضه فقالت : قوى الله ضعفك يا إمام ..

فقال الشافعي : " اللهم بقلبها لا بلسانها

فقالت والله ما أردت إلا خيرا

فقال : صدقت ولو كان غير ذلك لتأولته لك ..

في الطريق إلى بدر مر الصحابة بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب ، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا ; فقال له الناس سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أوفيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم فسلم عليه ثم قال إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه . قال له سلمة بن سلامة بن وقش لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك . نزوت عليها ، ففي بطنها منك سخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(( مه أفحشت على الرجل)) ثم أعرض عن سلمة

لذلك فإننا مأمورن أن ننتقي أرق الكلمات وأليق الإشارات ونحن نعرض وجهات نظرنا أو ننتقض موقفا أو عملا حتى لا نوغل الصدور بكلماتنا ويدخل الشيطان من فرجة الكلام الخشن فيفسد ويعكر

ومأمورون بالتالي أن نحسن الظن بإخواننا وأن تسع صدورنا كلماتهم حتى ولو كان فيها بعض الخشونة ونأولها على أفضل الوجوه ونحسن الظن بأنهم يطلبون الحق وإن جانبهم التوفيق في اختيار الأسلوب

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 33 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة mohamedmedhat1

ساحة النقاش

محمد مدحت عمار

mohamedmedhat1
طالب فى الاعدادى واحب الاسلام وهوايتى الكمبيوتر والمقالات والنت و كاتب صغير »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

43,792