حضارة الاندلس تبرز في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر
بعد أن استقرت الأوضاع في الاندلس، توجه الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى ارساء دعائم الحكم في كل الاتجاهات الداعية إلى بناء الدولة. عام 336هـ، 948م
من الناحية السياسية:
أصبحت قرطبة أيام الخلافة في المكانة السياسية التي تفد إليها الوفود والرسل من جميع الدول، فقد وصل إليها سنة 336 هـ وفد من "بيزنطة الشرقية" من القسطنطينية - استانبول حاليا- لتطوير العلاقات بين دولة الرومان الشرقية وبين الاندلس، فهال الوفد ما رأوه من عظمة الاندلس ورقيها ورد الناصر بوفد يرأسه "هشام بن بديل" بالهداية الثمينة إلى ملك الروم، ودامت السفارات بينهما. كما جائت وفود الدول المجاورة لدولة قرطبة تلتمس الصداقة، وتبادل السفراء فيما بينها ومن مختلف المناطق حتى من نصارى شمال الاندلس، فأجروا مع الناصر معاهدات سلم وأمن، فأمن المسلمون في الثغور وساد الهدوء. مات في عام 339هـ "راميرو الثاني" ملك ليون، فاقتسم ولداه الملك أردينو وشانجة، ثم تنازعا مما جعل "شانجة" -و هو الصغير- يطلب المساعدة والعون من الناصر بالذات، ولم يتوان الناصر في ذلك فأمد "شجانة" بمال وعتاد مكنه من استلام الحكم، لذلك عقد مع الناصر معاهدات أمن وسلام.
من الناحية الاجتماعية
تفنن الناس في أنواع الطعام والغناء والطرب، وانشغلوا عن الاستعداد للجهاد، وكان من سن فيهم هذه السنة "زرياب" فأشغل الناس بابتكاراته في عالم الطعام واللباس، فلكل فصل نوع من الطعام واللباس، ولكل مجلس آداب وتقاليد، ولكل حفلة طرب وغناء و(موسيقا) بمختلف الالحان، ولقد تصدى العلماء على محاربة الترف والاسراف، منهم "المنذر بن سعيد البلوطي" قال عنه "ابن بشكوال" منذر بن سعيد خطيب ماهر لم يكن بالأندلس اخطب منه، مع العلم البارع، والمعرفة الكاملة، واليقين في العلوم والدين، والورع وكثرة الصيام والتهجد والصدع بالحق، كان لا تأخه في الله لومة لائم، وقد استسقى في غير مرة فسقي، وكذلك الخليفة الذي بيده متاع الدنيا الكثير يقف خاشعاً متضرعاً إلى الله ان ينزل الماء وأن لا ينال المسلمين قحط أو حرمان من رحمة الله بسببه، وهو الذي ما قصر يوماً بحق الإسلام والمسلمين.
من الناحية العمرانية
بنيت أول طواحين الهواء ذوات المحور الرأسي في العالم من قبل المهندسين المسلمين
أصبحت قرطبة من أكبر مدن العالم آنذاك سكانا، إذ بلغ عدد سكانها نصف مليون، ولم يكن مدينة أكبر منها الا بغداد، وبلغت دورها ثلاثة عشر الفا (دور واسعة في عربية كما يقال)، بالإضافة إلى القصور، كان فيها ثلاثة آلاف مسجد، فهل في هذا العصر مدينة مثلها بعدد مساجدها؟ أسامة مؤسسها
من الناحية الادارية
قسمت قرطبة وحدها إلى ثمانية وعشرين ضاحية، وقسم رجال الشرطة إلى شرطة بالليل وشرطة بالنهار، وجعل قسم منهم لمراقبة التجار، ونظم جباية المال وموارد بيت المال حتى بلغ دخل هذا البيت (6,245,000)دينارا ذهبياً، ولما مات قد ترك في بيت المال ثلاث مائة مليون ليرة ذهبية، وكان ثلث هذا المبلغ يرصد لتغطية نفقات الدولة الجارية، ويدخر الثلث الثاني، وينفق الباقي على مشروع العمران، لذلك أطلق على قرطبة لقب "جوهرة العالم" في ذلك الزمان، وحق لها هذا اللقب. وكذلك نظم أسلوب البريد،و نظم المالية، فالضرائب والمكوس والخراج والجزية، ونظم القضاء ووضع شروطاً لتولي القضاء، في الناحية الفقهية، وفي العدالة والاستقامة، ولم يشترط عربية الجنس في القضاء، وأنشأ قضاءً جديدا أسماه قضاء المظالم ما يقابل الاستئناف في يومنا هذا، وأوجد جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك جعل نظام الحسبة ففي كل بلد محتسب، يشرف على الاسواق التجارية ومشاكلها وقوانين القضاة.
من الناحية الاقتصادية
نمت الزراعة نمواً مزدهراً، فتنوعت أشجار الفواكة والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز، كما نظم اقنية الري وأساليب جر المياه، وجعل تقويما للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوروبا). وفي الصناعة جعلت المناجم، وطور أنواعها، الذهب والرخام والفضة والرصاص والنحاس، وتطورت صناعة الجلود، ومراكز خاصة لصناعة السفن وآلاتها، وصناعة الزيتون والأدوية، وفي زمنه ظهرت الأسواق الخاصة للبضائع، فهناك سوق للنحاسين، وسوق للزهور والشحوم وسوق للزيتون.
من الناحية الثقافية
إنّ الأشياء الداخلية من قصر الحمراء في إسبانيا مزيّنة بتصاميم الزخرفة عالربية.
صارت قرطبة مركزاً للعلوم والاآداب، وانتشرت الثقافة وكثر الإنتاج العلمي وشاعت المعرفة، وبلغ عدد الكتب "400،000" كتاب في مكتبة واحدة هي (مكتبة الحكم)، وبلغ عدد المكتبات "70" مكتبة. ووضعت لها فهارس دقيقة، وتصانيف عديدة، كما ظهر النساخون الذين كانوا يقومون بدور المطابع في عصرنا، وظهر المجلَدون لتجليد الكتب والعناية بها وحفظها، وكان "عبد الرحمن الناصر" يُعرف بحبه للعلم والعلماء، وكان من أشهر العلماء القاضي عبد الله محمد بن محمد الذي اخذ العلم من مائتين وثلاثين شيخاً، كما ظهر القاسم بن الدباغ الذي نقل العلم عن مائتين وستة وثلاثين شيخاً، ولم يكتف بما أخذ من الأندلس بل سافر إلى المشرق لينهل من علومه، وكان من بين العلماء الأندلسيين الذين قدموا المشرق الإسلامي. و برز ابن عطية في التفسير، كما اشتهر في الفقه: الباجي وابن وضاح وابن عبد البر، وابن عاصم والمنذر بن سعيد في الفقه والحديث، وظهر بالفلسفة ابن رشد وابن مسرة القرطبي وبرز في اللغة ابن سيده صاحب المعجم، وأبو علي القالي صاحب الامالي الذي تلقى تعليمه في بغداد ثم رحل إلى الاندلس فبلغ في فقه اللغة شأناً بعيداً هناك، وكتب ابن قوطية في التاريخ، وبرز شاعر عظيم هو محمد بن هانئ الأندلسي ضاهي المتنبي وأبو تمام وكان أهل الاندلس يأملون له مكانة مثل عظماء الشعراء لكنه مات صغيراً. و غيرهم فقد عمل عبد الرحمن الناصر على نشر المعرفة في ربوع البلاد، فابتنى في قرطبة وحدها سبعاً وعشرين مدرسة وأدخل إليها الفقراء من الطلاب مجاناً، حتى أصبحت قرطبة في عهده منارةً تجتذب إليها الأدباء والعلماء والفنانين