الحمام يشارك المحاربين قراءة خريطة المعركة ويتنبأ بالمفاجآت

استعان به سيدنا نوح لمعرفة الحياة بعد الطوفان وساهم في نشأة وكالة رويترز للأنباء

جدة: محمد المنقري

لا يمكن إيجاد علاقة بين صورتين متضادتين تنتصر إحداهما على الأخرى فالمسألة ببساطة تحكمها مبادئ «الغاية تبرر الوسيلة» فما نشرته وكالات الأنباء أخيراً لصور تمثل مجموعة حمائم تحمل أجهزة المراقبة والتصوير والتجسس لتشارك فعلياً في الحرب على العراق غيبت عن الذاكرة صورة الحمامة الأنيقة، وقد حملت غصن زيتون مقدمة نداءً يتجدد للاحتفاء بالسلام.

الأميركيون حملوا الأسلحة تتقدمهم حاملات الصواريخ والدبابات وطائرات الأباتشي كما تتقدمهم أسراب الحمام المدرب على معرفة الميدان والتحذير من استخدامات مفاجئة لأسلحة الدمار الشامل.

هكذا تتحول مسيرة الحمام من طائر صغير يبني عشه أمام باب غار ثور في مكة المكرمة ليدرأ عن رسول الله الأعداء إلى طائر يشارك فعلياً في صياغة الجوانب المعلوماتية التي تحقق للمعركة في العراق الدقة واختصار الوقت.

ولا يبتكر الأميركيون هنا دوراً جديداً للحمام، فقد سبقهم إلى ذلك العثمانيون الذين استخدموا الحمائم في التجسس على دولة المماليك وذلك عبر تبادل الرسائل بين القيادة وعيونها و«بصاصيها» المنتشرين عبر أرض الكنانة.

إنها الحرب وحدها تغير قواميس الأشياء، وتكسر الرموز القديمة، ولا تعترف بالثوابت والفكر التراثي، فالمعركة وحدها تصوغ الشكل الجديد للتاريخ، وتعيد ترتيب خزينة الذاكرة، وتلغي الانماط الثابتة.

ورغم ذلك عدنا قليلاً إلى الذاكرة لنتعرف سوياً على تاريخ الحمام وأهم أدواره في التاريخ الانساني. إذ يعرف الحمام بأنه «كل ما عب وهدر وإن تفرقت أسماؤه، والعَبُ لغوياً شدة جرع الماء من غير تنفس والهَدْر ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع».

وأهم أنواعه حمام الحمى المنتشر بكثرة في المسجد المكي والمسجد النبوي ويعرف بلونه الأزرق الغامق تتخلله نقط رمادية وخطوط رمادية وسود، وهو مطوق بالخضرة المحمرة.

وتحتفظ الذاكرة الدينية بعدة مواقف لطائر الحمام ربما كان أولها ما ورد في قصة سيدنا نوح حين اغراقه قومه في الطوفان الذي عم العالم ونجاته هو ومن معه أراد أن يقف على حقيقة حالة العالم الأرضي فبعث الحمام ليمر بكل الجهات يأتيه بخبر الأرض فقام الحمام بمهمته خير قيام.

ويعرف عن الحمام مشاركته في درء ابرهة عن الكعبة فلما وقعت قصة الفيل أرسل الله طيراً من البحر سماه «الأبابيل» لإهلاك أهل الفيل ومنهم أبرهة، فلما قام بمهمته عاد إلى البحر ثانياً وبقي القليل منه وحمام الحمى هذا من نسل ذلك الطير الذي أهلك الله به أهل الفيل.

أما أشهر حكاية تعتز بها الذاكرة لهذا الطائر فتتلخص في دوره حين أمر الله تعالى رسوله محمد بالهجرة إلى طيبة قام من مكة المشرفة ومعه سيدنا أبو بكر الصديق فلما حصل ما حصل عليهما في الغار جاء الحمام وعشش على الغار لكيلا يستدل الأعداء على مكان الرسول وصاحبه.

ويشتهر عن أهل مكة والمدينة حبهم للحمام واعتزازهم به إذ يروي السيد أحمد ياسين الخياري في كتابه «حمام الحمى الحجازي» أن الحجازيين يعتقدون أن من أكل حمام الحمى شتت الله شمله وفرق بين أهله وذويه وبنيه، وقد نشأت هذه العقيدة عندهم بالتجربة.

ومن ظريف ما يرويه الخياري ما كان في العهد العثماني حيث كانت نظارة الأوقاف العامة بدار الخلافة العظمى في استانبول وقد خصصت له مرتبات شهرية من موازنة الدولة العثمانية كما خصصت بعض الموظفين لذلك فهم يأخذون الحبوب يومياً من خزينة الأوقاف ويبثونها في الحصوة ويملؤون له حوضاً كبيراً من الحجر قد أنشئ خصيصاً لهذا الغرض.

واليوم ينضم الحمام إلى الترسانة الأميركية للتربص بنظام العراق، فمع أجهزة استشعار الكترونية ينقلها معهم المتقدمون برا من صحراء الشمال في الكويت للتعرف بواسطتها إلى وجود عناصر بيولوجية أو غازات سامة قد يستخدمها العراق، تتقدم مع فرق الجنود وأرتال الدبابات أقفاص صغيرة داخل الواحد منها حمامة أو عصفور، لأنها طيور تستشعر العناصر والغازات القاتلة قبل الإنسان وأرقى أجهزته الالكترونية بأكثر من ساعة.

والحمامة طير رائع وأكثر حساسية من الإنسان وكل جهاز استشعاري اخترعه لأنها كما يعبر أحد الخبراء الأميركيين «ستنقذ الآلاف من شعبه ومن جنودنا».

ولدى الأميركيين قافلة تجسس أخرى، جوية وبرية ولا تكلف الشيء الكثير، وأهمها أسراب من الطيور، معظمها من الحمام المدرب على حمل كاميرات وأجهزة تنصت صغيرة، مرتبط بثها بأجهزة مراقبة مباشرة على الأرض تتعرف بواسطتها إلى المواقع التي توجد فيها شخصيات مستهدفة أثناء عمليات القصف، بالإضافة إلى ما يتم إرساله من طائرات استطلاع، كالتي تم استخدامها في الحرب الأخيرة في أفغانستان للكشف مسبقا عما يجري في مواقع سينشب فيها القتال، أو تتعرض للقصف بين ليلة وضحاها.

وتشير الوثائق التاريخية أن الحمام استخدم من قبل يوليوس قيصر وجنكيز خان وهانيبال وغيرهم من مشاهير القادة العسكرين الحمام بوصفه أسرع وسيلة اتصالات حتى اختراع البرق «التلغراف». وظل حمام الزاجل أكثر الوسائل الآمنة لإرسال المعلومات السرية خلال حرب فيتنام. ويعرف عن الحمام الزاجل قدرته الفائقة على نقل الرسائل، وتشير الدراسات التاريخية لنشأة وكالة رويترز للأنباء أن المهاجر الألماني المولد رويتر أستعان بالحمام الزاجل من قبل في توصيل أسعار الأسهم بين بروكسل واخن ليسد ثغرة في شبكة كابلات التلغراف الأوروبية.

وفي الحرب العالمية الثانية أذاعت وكالة الأنباء الألمانية أن الطائرات المتحالفة ألقت أقفاصاً بالبارشوت فيها حمام زاجل ومعها إرشادات تقول للشعب الفرنسي إن من يعثر على بعض هذا الحمام يستطيع أن يكتب معه معلومات مفصلة عن مواقع الألمان ومطاراتهم ومخازن ذخيرتهم ثم يربطها في رجل حمامة ويطلقها وهي على إلمام بطريق عودتها.

أنقذت حمامة الزاجل التي عرفت باسم ج.أجو التابعة للجيش الأمريكي الجيش البريطاني من هزيمة ساحقة في إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية.

وترتفع أسعار بيع الحمام إلى أرقام مدهشة حيث بيعت إحدى حمامات الزاجل بمبلغ 132.517 دولاراً أميركياً بعد أن حلت الأولى في سباق اشترك فيه أكثر من 21.000 طائر.

ومن أشهر سباقات الحمام السباق الذي ترعاه العائلة الملكية في بريطانيا في قصر ساندر نجهام، وقد حقق حمام السباق الملكي جوائز كبيرة فاقت في بعض الأحيان ما حققته إسطبلات الخيول الملكية. وتشهد السعودية سباقات للحمام الزاجل ربما كان أشهرها الذي جرى قبل سنوات في مركز تدريب الحمام الزاجل في منطقة القصيم من مركز شري 120 كيلومترا شمال بريدة بالسعودية، وقد قطع طائر الحمام الزاجل الأول المسافة المحددة للسباق وقدرها مائة كيلومتر بزمن قدره 43.27.1 ثانية بسرعة بلغت 7.133 أمتار في الدقيقة، وشارك في سباق الحمام الزاجل 13 عضوا ودخلوا السباق بحوالي 278 طائرا. ويختلف الحمام عن الدجاج والبط والدجاج الرومي وطيور التدرج في صعوبة التعرف على الذكور من بين الإناث، ويحتاج المرء إلى خبرة طويلة للتعرف بسرعة على نوع الجنس أذكر أم أنثى. وفي الأفراخ يصعب حتى على الذين اكتسبوا خبرة طويلة في مجال تربية الحمام يصعب عليهم التفريق بين الذكور والإناث في الأفراخ التي لا يزيد عمرها على 10 أيام إلا باستخدام طريقة ارتباط الجنس بالوالدين أو طريقة ارتباط الجنس بالتزاوج. فالحمام لا يقدم بإنتاج ذكور وأنثى في كل حضنة بيض كما يعتقد كثير من الناس. ولكن في الحقيقة فإنه ينتج عن كل زوجين من الذكور والإناث في الحضنة الواحدة حضنة من ذكرين وحضنة من انثيين. والعلامات الفارقة بين الذكور والإناث في الطيور الكبيرة يحددها الشكل العام وسلوك الطائر. ورغم أن شكل الطائر مهم جداً لتحديد جنسه غير أن سلوكه أكثر أهمية في هذا المجال. الشكل العام الذكر في الحمام يكون دائماً أكبر حجماً ويتميز بعنق أكثر غلظة. وبصفة عامة فإن الذكور تتمتع بجسم أقوى من الإناث، وخطوط الرأس تبدو أكثر ذكورية والأرجل تبدو مكتنزة. فالذكر يكثر من الهديل وتراه دائماً مختالاً متبختراً وهو ينشر ريش ذيله نحو الأرض في زهو، ولكن ربما تقدم بعض الإناث بهذا السلوك نفسه، وفي فترة تكوين العش فإننا نجد أن الذكر يقود الأنثى. فالأنثى غالباً ما تلزم العش بينما يقوم الذكر بجمع المواد المكونة للعش ويكن ربما تشاركه الأنثى أحياناً في بناء العش خاصة بعد أن تضع بيضها. ويقوم الذكر بحضن البيض بين الساعة العاشرة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر، أما الأنثى فلا تبارح بيضها ليلاً إلا في حالات نادرة. ولا نجد ذكراً يحضن بيضاً ليلاً إلا في حالات قليلة جدا.

وفي التقبيل، فإن الانثى تضع منقارها داخل منقار الذكر، ويقوم الذكر بفرك ريش كتفه بمنقاره خاصة عندما يكون في حالات تولّه، ولا تفعل الانثى ذلك، وعندما يعاشر الذكر انثاه لاكثر من مرة فانها تراعيه بتمرير منقارها خلال ريش رأسه وعنقه في دلال.

المصدر: جريدة الشرق الاوسط
  • Currently 195/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
63 تصويتات / 1069 مشاهدة
نشرت فى 23 يونيو 2010 بواسطة mohamedashraf

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

643,473