الباشا الذي خان بلده
هذا بالرغم من أن أباه كان من أطيب أهل الصعيد، وأكثرهم وطنية. وابنته هي "هدى شعراوي". زعيمة الحركة النسائية في مصر، وهي التي نظمت أول مظاهرة نسائية لتأييد سعد زغلول. وزوجها هو "علي شعراوي باشا" زميل سعد زغلول
انتصر الجيش المصري على الجيش البريطاني انتصارا ساحقا في موقعة كفر الدوار. ولما فشل الإنجليز في غزو مصر من الغرب، قرروا غزوها من الشرق. فتجمعت قواتهم وأساطيلهم في "بور سعيد". وأكد "ديليسبس" لأحمد عرابي بأن الإنجليز لا يمكن أن يمروا من قناة السويس، وإنهم لو حاولوا ذلك لتصَدَّتْ لهم القوات والأساطيل الفرنسية.
ويخطئ من يتصور أن السبب في هزيمة الجيش المصري في التل الكبير كان بسبب عدم احترام الإنجليز لحياد قناة السوبس ومرورهم فيها، والهجوم على الجيش المصري من الشرق بدلا من الغرب، فقد كان عرابي يعلم ذلك، ولم يعوِّل على وعد ديليسبس، وحَصَّنَ مواقعه تماما في الشرق، كما حصنها من قبل في الغرب. ويخطئ أيضا مَنْ يتصور أن السبب في الهزيمة هو نقصٌ في العتاد أو المعدات أو قلة التدريب. إذ يذكر عرابي أن جيشه وصل إلى مائة ألف جندي وكانوا على درجة عالية من التدريب، وإن مخازن جيشه امتلأت بالتموين والذخيرة. وعندما وصل عرابي إلى الإسماعيلية، خرج أهلها عن بكرة أبيهم لاستقباله، وطلبوا أن ينضموا إلى جيشه، وأخذوا يرددون الدعاء له: "الله ينصرك ياعرابي"، وانتشر هذا الدعاء في أرجاء مصر، وأخذ يتردد في المساجد والكنائس. وعلى محطة "نفيشة" بالإسماعيلية استقبله عشرة آلاف فلاح طلبوا الانضمام إلى جيشه، والاشتراك في المعركة الفاصلة.. معركة التل الكبير.
وهبَّتْ نساء مصر جميعا يناصرن عرابي، وتبَرَّعْنَ بكل ما لديهن من حلي ومصاغ، حتى الأميرات وقريبات الخديوي، ولم يتخلف من نساء مصر إلا أم الخديوي وزوجته.
ولكن الإنجليز يؤمنون بمقولة منذ قديم الزمان تقول: "إن الشعب الذي لا تهزمه المدافع، لا ينفع معه إلا الحيلة والدهاء". بحثوا على خائن محلي يحقق لهم ما يريدون، فلم يجدوا إلا "محمد سلطان باشا" فوضع خطة محكمة للقضاء على جيش عرابي، وكانت وسيلته .. "الرشوة".
كان أول ما فعله هذا الخائن الكبير، أن جَنَّدَ "سعود الطحاوي" وهو شيخ من شيوخ العرب، وصديق حميم لأحمد عرابي ومن بلدياته. وكان عرابي يثق فيه ثقة عمياء، ويسهر معه كل ليلة فيعرف الطحاوي أخباره ونواياه ثم ينقلها إلى "سلطان باشا" الذي ينقلها بدوره إلى الإنجليز.
ولم يكتف "سلطان باشا" بذلك بل فعل ما هو أسوأ وأخطر، إذ قام بتجنيد كبار القادة في الجيش لصالح الإنجليز. جَنَّدَ "أحمد عبد الغفار" قائد سلاح الفرسان، ونائبه "عبد الرحمن حسن" . والقائممقام "علي خنفس" قائد سلاح المشاة. واستطاع كلٌ منهم أن يشتري عددا من الضباط المرؤوسين، وسرى السم في جيش عرابي.، ووعد الإنجليز هؤلاء القادة الخونة بأنهم سوف يقبضون عشرة آلاف جنيه ذهب. ومنحوا كلا منهم ألف جنيه مقدما.
وقام كل من القادة الثلاثة بدور في غاية الخطورة، إذ تقاعسَ " "أحمد عبد الغفار" ونائبه عن حراسة جيش عرابي الذي يربض في التل الكبير، وسَهَّلوا للإنجليز المرور بدون أية مقاومة. وقام "على خنفس" قائد سلاح المشاة بقيادة الجيش الإنجليزي إلى التل الكبير حيث فاجأوا جيش عرابي وهو يعسكر في أمان مطمئنا إلى حراسة سلاح المشاة، ومطمئنا إلى أنهم سوف يشتبكون مع الأعداء إلى حين أن تستعد القوة الرئبسية في التل الكبير لملاقاة الإنجليز، وحدثت المجزرة التي قاتل فيها الجنود والضباط الوطنيون بكل بسالة إلى أن استشهدوا وعلى رأسهم القائمقام "محمد أفندي عبيد" ابن كفر الزيات.
وبعد الهزيمة، زارَ السير "تشارلز ويلسون" أحد القادة الإنجليز .. القائد المنهزم "أحمد عرابي باشا" في سجنه، وأخرَجَ له بعض الأوراق عرضها عليه, وسأله: أليس هذا خطك يا عرابي باشا؟ قال: بلى. فسأله: أليست هذه خطتك ضدنا؟. قال: بلى. فقال القائد الإنجليزي" لقد حصلنا على خطتك هذه من أحد قادة جيشك، ولو أنك نفذتها ضدنا، لانتصرتَ علينا بغير شك.
كافأ الخديوي .. الخائن "محمد سلطان باشا" بعشرة آلاف فدان وعشرة آلاف جنيه ذهب، كما كافأ الخائن الثاني "سعود الطحاوي" صديق عرابي الحميم وبلدياته بألفيّ فدان وألفيّ جنيه ذهب. أما الخونة الآخرون .. قادة جيش عرابي الثلاثة فقد احتقرهم الإنجليز أشد الاحتقار لخيانتهم قائدهم، وحنثوا بوعدهم لهم، ولم يعطوهم شيئا. وأحيل الخائن "علي خنفس" إلى الاستيداع بمعاش اثنى عشر جنيها، وعاش بقية حياته محتقرا من الجميع لا يكلمه أحد من أهله أو جيرانه، وظل يطالب الإنجليز بما وعدوه إياه بدون جدوى، إلى أن مات وحيدا ومحتقرا من الجميع.
أما الخائن الثاني من القادة "أحمد عبد الغفار" فقد أودع السجن مع الضباط الوطنيين فكان عذابه بذلك أشد ما يكون. وذهَبَتْ زوجته لكي تصرف من الجنيهات الذهبية التي أعطوها له مقدما، فاتضح أنها مزيفة. أما القائد الثالث الخائن "عبد الرحمن حسن" فقد اختفى تماما، ولم يُعرف عنه أي شيء.
أنعَمَ الإنجليز على الخائن الأكبر "محمد سلطان باشا" بلقب "سير"، وأصبح اسمه "السير محمد سلطان باشا"، ولكن هذا اللقب لم ينفعه، ولم تنفعه الأرض الزراعية الشاسعة، ولا آلاف الجنيهات الذهبية التي منحها له الخديوي، إذ قاطعه أهل حي السيدة زينب الذي كان يسكن فيه، حتى الخدم الذين كانوا يعملون في بيته احتقروه وتركوه وحيدا، وعاش منعزلا عن الناس، واستيقظ ضميره فجأة، وأخذ يؤنبه على الجرم الفادح الذي ارتكبه في حق مصر وحق عرابي وشعر بألام نفسية لا يتحملها أحد، وأصيب بلوثة عقلية، وأخذ يمشي بين الناس ذاهلا عما حوله إلى أن مات وهو يردد جملة واحدة: "اغفر لي يا عرابي".
د. سمير محمد خواسك
جامعة قناة السويس
ساحة النقاش