علم لغة النص

يعد علم لغة النص تطويرا وتوسيعا لعلم لغة الجملة الذي شغل به البنيوين الأمريكيون منذ بلومفيلد، كما شغلت به مدرسة تشومسكي في الكفاءة اللغوية، التي توصف توليديا في إطار القدرة على توليد عدد لا متناهٍ من الجمل.

وقد تولد من الوقوف عند علم لغة الجملة مشكلتان ذكرهما زيليج هاريس في دراسته المسماة: تحليل الخطاب سنة 1952م هما:

1-   قصر الدراسة على الجملة الواحدة وعدم تخطيها إلى الفقرة والنص.

2-   الفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي، وهذا يحول بين المتلقي والفهم الصحيح، فاعتمد هاريس ركيزتين هما:

1- العلاقة التوزيعية بين الجمل.                2- الربط بين اللغة والموقف الاجتماعي. ووضع معايير سبعة لا يسمى النص نصاً إلا بها، قسمتها الدكتورة إلهام أبو غزالة إلى ثلاثة أقسام:

1- ما يتصل بالنص في ذاته؛ وهما معيارا: السبك والحبك.

2- ما يتصل بمستعملي النص؛ وهما معيارا: القصد للمنتج والقبول للمتلقي.

3- ما يتصل بالسياق المادي والثقافي المحيط بالنص؛ وهي معايير: الإعلام والموقفية والتناص.

ويتفق نحو الجملة ونحو النص في المعيارين الأولين: السبك والحبك، وينفرد نحو النص بخمسة المعايير الأخرى. وينفرد نحو الجملة بأربعة معايير ذكرها الدكتور تمام حسان هي:

1-   الاطراد: بمعنى أن القاعدة حاكمة على اللغة الفصيحة.

2-   المعيارية: فالقاعدة سابقة على النص، وهي معيار الخطأ والصواب.

3-   الإطلاق: فالقاعدة النحوية صادقة على ما قيل وما سيقال.

4-   الوقوف عند حدود الجملة الواحدة فلا يتخطاها نحو الجملة إلا في حالات: الإضراب أو الاستدراك أو العطف أو ما يشبه ذلك.

 

بين البلاغة وعلم النص

ويدفعنا التخصص إلى طرح سؤال مهم مفاده: ما العلاقة بين البلاغة وعلم لغة النص؟ وهل هناك صدى لما يتردد في الأوساط العلمية من ضرورة تجديد البلاغة لعدم كفاية مشروعها التخطيطي واتجاهها الشكلي؟

وأرى أن هناك عوامل تدعو إلى ضرورة تجديدها، وتكوين ما يسمى بالبلاغة النصية لأسباب منها:

1-   أنه لا مفر من أن تقوم البلاغة الجديدة بدور الأفق المحدد لتداخل الاختصاصات  في العلوم الإنسانية في تطورها الحديث، مثلما كانت تتداخل فيها -منذ أرسطو علوم المنطق والأخلاق والفلسفة والشعر- فتكون البلاغة وعاء ثقافيا متداخل الاختصاصات يهدف إلى استثمار نتائج البحوث المختلفة في العلوم الإنسانية الأخرى. فقد أجمع الباحثون على أن البلاغة هي الأفق المنشود والملتقى الضروري للتداولية وعلم النص والسميولوجيا وهي النموذج المعول عليه للعلم الإنساني الشامل الجديد( كما ذكر الدكتور صلاح فضل في كتابه: بلاغة الخطاب وعلم النص).

2-   تطور الدراسات اللغوية في الآونة الأخيرة؛ فقد انتقل الاهتمام من الألسنية التي تتركز على اللغة إلى ألسنية الكلام، وبرزت ظواهر العلاقة بين المرسل والمتلقي في مجال التداولية، وكل هذا حدا بكثير من علماء اللغة إلى العودة إلى البلاغة.

3-   أن تحول البلاغة الجديدة إلى علم النص يرتبط بمدى قدرة البلاغة -في جميع الثقافات- على تكوين نموذج جديد لإنتاج الخطاب بكل أنماطه دون الاقتصار على لون واحد منه كما كانت البلاغة القديمة؛ فالبلاغة منوط بها أن تشكل أجرومية أو علم نحو لإنتاج الخطاب، ولن يكون ذلك إلا بأن تتحول إلى الجانب الوصفي للنصوص دون المعيارية المتحكمة فيها من ذي قبل.

 

هل عرفت البلاغة الدراسة النصية قديما؟

يأخذنا الحديث إلى سؤال آخر يقول: هل عرفت البلاغة دراسة نصية قديما؟

وقبل الإجابة نقول: إنه من الشجاعة بل ومن الإيمان بأنفسنا أن نقوم بالقسط ونحكم بالعدل؛ فالبلاغة كانت بها نظرات تخطت إطار الجملة الواحدة، فعمل بعض منها في إطار الفقرة، والبعض الآخر عمل في إطار النص؛ فقد درست البلاغة العربية الفصل والوصل، فتخطت الجملة إلى الفقرة، ودرست الإيجاز والإطناب وهذا عمل على إطار النص، وقد ذكر السكاكي مواطن لا يحسن فيها الإيجاز وأخرى لا يحسن فيها الإطناب.

ولا يفوتنا أن نذكر تجربتين رائدتين: إحداهما لشيخ البلاغيين عبد القاهر؛ حين وضع النظرية العربية في النظم وهي لا شك حديث عن السبك والحبك اللذين هما من أهم المعايير النصية، وليس المجال مجال تفصيل لكنني أذكر أن الدكتور محمد عبد المطلب وغيره من الدارسين المحدثين عدّ عبد القاهر من أشهر شخصيات القرن العشرين، وألف كتابا سماه: قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني.

التجربة الثانية هي لرجل من أهل المغرب هو حازم القرطاجني الذي أجرى تحليلا لأجزاء قصيدة من قصائد المتنبي، وسمى كل جزء منها فصلا، وميز بين مطلع القصيدة ( البيت الأول) والمقطع ( وهو مكان الوقوف عليها) وأشار إلى ضرورة وصل الفصول بعضها ببعض، والقصيدة هي:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

فأورد القصيدة كاملة محللا العلاقة بين أجزائها ووحداتها المكوَّنة على ذلك الأساس الدلالي دون التعالق النحوي بين الجملتين.

لكننا في الوقت نفسه لا ننكر أن البلاغة وقفت عند حدود البيت الواحد، وجعلته وحدة مستقلة، يتضح ذلك من خلال حديثهم عن التضمين الذي يعني في اصطلاحهم: الارتباط الدلالي المباشر أو التعالق النحوي بين البيت والآخر أو الأبيات الأخرى، يقول أبو هلال: هو أن يكونه الفصل الأول مفتقرا إلى الفصل الثاني والبيت الأول محتاجا إلى الأخير كقول نصيب:

كأن القلب ليلة قيل يغدى            بليلى العامرية أو يراح

قطاة عزها شرك فباتت               تجاذبه وقد علق الجناح

ثم يعلق قائلا: ( فلم يتم المعنى في البيت الأول حتى أتمه في البيت الثاني، وهذا قبيح)

وكأن الصورة التشبيهية الشيقة في الأبيات الغزلية لم تشفع للشاعر عند البلاغي المعياري الصارم الذي يرى في البيت وحدة نحوية مستقلة لا ينبغي أن تظل مفتوحة.

وليس أبو هلال وحده في هذا الموقف فقد درس البلاغيون الطباق والجناس ورد الأعجاز على الصدور وغيرها من الفنون البلاغية في إطار البيت الواحد.

ولم يكن أمام الشعراء من مخرج من هذه المعيارية إلا أن يثوروا على هذه القواعد الصارمة، من خلال: الموشح الأندلسي، وشعر التفعيلة، وكلا الأمرين يكسر ما يسميه البلاغيون: وحدة البيت.

وفي العصر الحديث يحسن بنا أن نشير إلى نظرتين عربيتين حدثتا قبل اكتشاف علم النص، وقد تضمنتا مبادئه: أولاهما: لأمين الخولي في سنة 1931م حيث دعا إلى تجاوز حدود الجملة إلى ما وراء الجملة من الحديث عن النص؛ فقد نعى على البلاغيين القدماء أنهم راحوا يفاضلون بين قوله تعالى: ( ولكم في القصاص حياة) وقول العرب: القتل أنفى للقتل، ثم قال: ( إننا اليوم نمد البحث بعد الجملة إلى الفقرة الأدبية ثم إلى القطعة الكاملة من الشعر أو النثر. ننظر إليها نظرتنا إلى كلٍّ متماسك وهيكل متواصل الأجزاء نقدر تناسقه وجمال أجزائه وحسن ائتلافه). وهذه نظرة تقدمية رائعة كانت حرية أن تحدث ثورة في الدرس اللساني والبلاغي العربي والعالمي لكنها ذهبت أدراج الرياح لأننا لا نقدر جهد أبنائنا بقدر ما نمجد الغربيين.

النظرة الثانية كانت تطبيقية قام بها سيد قطب حيث ربط بين أجزاء السورة الواحدة والسور المختلفة في سياق القرآن العام.

ويرجع الأستاذ عبد الفتاح الخالدي الأسباب التي كانت وراء اهتداء سيد قطب لهذه الظاهرة إلى:

1-   مداومة النظر في تدبر معاني القرآن ومعايشته.

2-   ثقافة سيد قطب الأدبية وموهبته الشعرية وقدرته وتجربته النقدية.

3-   أن القرآن له موضوع أساسي هو العقيدة وهي الأصل الذي ينبثق منه سائر التصورات والمبادئ والمناهج، وهي محور تُشدُّ إليه الفروع والجزئيات.

 

ولو قدر لهاتين النظرتين أن تنموا لكان للبلاغة العربية وللسانيات العربية شأن آخر.

 

إننا نستطيع أن نقول: إن الغربيين سبقوا إلى التنظير، وسبقنا نحن إلى التطبيق؛ فقد عرف تاريخنا نصا مقدسا دارت حوله دراسات عديدة بل قد كان محور الدراسة عند أسلافنا القدماء. فإذا كان الغربيون قد نظّروا لعلم لغة النص فقد سبقناهم بالتطبيق لكننا لم نحسن التنظير، والشواهد على ما أقول كثيرة في: إعجاز القرآن والتفسير وعلوم القرآن وأصول الفقه وغيرها. ولكن لم تتشكل نظرية نحو نص عربية؟ هل هناك أثر لما قاله ابن خلدون في مقدمته من أن العرب كانوا أقرب إلى البداوة وأبعد عن الصنائع؟ والإجابة بالطبع لا فقد علافوا التنظير، ووضعوا نظريات في فروع مختلفة كالنحو وأصول الفقه والتوثيق والتضعيف وغيرها.

ويبقى التساؤل مطروحا ليجيب عنه الباحثون، أو لنعود إليه في مقالة أخرى قادمة بإذن الله.

 

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

الدكتور/ إبراهيم عبد الفتاح رمضان

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1289 مشاهدة

د/ إبراهيم عبد الفتاح رمضان عبد الباقي

metmen
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

28,059