قد نستنكر ما يفعله الآخرون مدعين أن ما فعلوه فيه بعدا واضحا عن الصواب ثم إذا بنا نفعل هذا الذى كنا نستنكره.
هذا ينطبق على إخوتنا فى الانسانية والبشرية المسيحيين الذين لا شك يستنكرون عدم إيمان اليهود بالمسيح عليه السلام رغم أنه مذكور فى كتبهم ، لكنه لما جاء لم يؤمنوا به ، ومعهم كل الحق فى استنكار ذلك ، لأن المسيح عليه السلام جاءهم بمعجزات واضحة وآيات بينة ، لكن الأهواء والجحود وتفضيل المناصب حال دون إيمان اليهود وجعلهم يختارون الكفر بالمسيح عليه السلام والوقوف عند الإيمان بموسى عليه السلام وكأنهم يقولون للرب سبحانه وتعالى نحن نكتفى بما أرسلت لنا من قبل وغير مستعدين لقبول تعليمات جديدة أو تصحيحات لما اقترفناه من أخطاء وأهواء ، فنحن يعجبنا الحال هكذا ولن نقبل أى جديد.
ونفس ما فعله اليهود فعلته الطائفة التى بقيت على المسيحية فقال لسان حالهم نحن نكتفى بما لدينا أيها الرب ولا نريد أى جديد ولا نريد أية تعليمات أو إرشادات أو تصحيحات ، ونسوا أنهم استنكروا على اليهود هذا الموقف من قبل عندما رفضوا الإيمان بالمسيح المذكور فى كتبهم فى نصوص واضحة لأصحاب الفهم السوي ، وبالطبع فإن اليهود قد وجدوا التأويلات التى تنفى أن يكون المسيح هو المشار إليه فى تلك النصوص ، والتأويلات دائما من أسهل ما يكون ، فإن المعاند إن سمع نصا يقول إن الشمس مضيئة ثم أراد أن يوهمك أن المقصود أن الشمس مظلمة لوجد السبيل إلى ذلك ولوجد أيضا من يتابعه على رأيه ويصدقه.
والنصوص فى الانجيل كثيرة تقطع قطعا لايقبل الشك بأن المسيح عليه السلام ما هو إلا بشر رسول مثل جميع إخوانه الرسل الذين سبقوه ، وأنه جاء مبلغا رسالة ربه ولم يأت ليبلغ الناس شيئا من عنديات نفسه ، إنما كل ما يسمع من الله فهو يتكلم به ، وأن الخوارق والمعجزات التى أظهرها الله على يديه هى لتأييده وإثبات صدقه ، ولم يفعلها المسيح بقدرته الذاتية وإنما بقدرة الله تعالى شأنها فى ذلك شأن عصا موسى عليه السلام التى انقلبت حية تسعى فلا يعنى ذلك أنه إله لأنه لم يفعل ذلك بقدرته إنما بقدرة الله عز وجل ، ونصوص الإنجيل تؤكد ذلك ولكن كما قلنا من يريد تأويل أى نص وصرفه إلى غير معناه فإنه سوف يجد السبيل إلى ذلك دائما.
والنصوص فى الانجيل أيضا تؤكد مجئ رسول بعد المسيح عليه السلام ، ووصف الانجيل هذا الرسول بأنه سيرشدهم إلى جميع الحق ، وذكره عدة مرات للتأكيد على ذلك ، ولكن ماذا يفيد التأكيد أمام مطرقة التأويلات التى يمكنها تأويل الأبيض إلى أسود والأمام إلى خلف.
حتى العمليات المنطقية التى هى من المسلمات والتى لا تقبل الجدل يمكن أن يدخلها التأويل ، فلو قال لك شخص ما خذ هذه الأمانة وأعطها لأخى الوحيد وهو طويل ووجهه أبيض مشرق ، ثم جاءك ثلاثة رجال قصار سود وأرادوا أخذ هذه الأمانة فإنهم سوف يحلفون لك أنهم هم المقصودين بالأخ الوحيد الطويل الأبيض ، فالأبيض يعنى أسود والطويل يعنى قصير والوحيد يعنى ثلاثة ، قد تعجب أنت من ذلك ، ولكن هذا طبيعى عند أصحاب التأويلات وفى جرابهم ما هو أكثر عجبا.
لذلك إذا أراد الإنسان الوصول إلى الحق بصدق وإخلاص فيجب أولا أن يتخلى عن موروثاته المضادة للمنطق ، فلو قال لى أبى أن إنسان يعنى إله أو أن واحد يعنى اثنين أو أن مضئ يعنى مظلم أو أن مولود يعنى خالق ـ فيجب أن أتوقف كثيرا قائلا معذرة يا أبى دعنى أفكر ، فكما أنك أبى ولا يمكن أن تكون ابنى ، فيجب إذن أن أفكر.
كذلك إذا سألت معلمى عن جملة فى الكتاب تقول إن الرجل الكريم قرر أن يرسل أخاه إلى البلدة المجاورة ويوزع على أهلها الصدقات ، فأخبرنى المعلم إن معنى هذه الجملة أن الرجل بخيل وأنه سيسطو على أهل البلدة المجاورة ليغتصب أموالهم ، فيجب أن أتوقف كثيرا وأقول عذرا أيها المعلم دعنى أفكر ، إن عندى من الشجاعة أن أقول لك إننى غير مقتنع وقد تواتينى الشجاعة يوما لأقول لك إننى لا أصدقك.
إن الوصول إلى الحقيقة مسئولية كل فرد بذاته ، وليست مسئولية قومه أو أبيه أو معلمه ، فما هؤلاء إلا معاونين لى ومساعدين فى حدود العقل والمنطق ، فإن إنا ضللت فسوف أحاسب أنا ولن يحاسب أبى بدلا منى ولا قومى ولا معلمى ، هم سيسألون عن ضلالاتهم هم ، أما ضلالاتى فسوف أسأل أنا عنها ، وحدى سأسأل عنها.
لا يجب على أتباع المسيح أن يبتعدوا عن تعليماته حين أنكر على من يرى القذى فى عين أخيه ولا يرى الخشبة التى فى عينه.
ساحة النقاش