نهضة مصر: بعد 25 يناير 2011 -------- أ. د/ ممدوح عبد الغفور حسن

أكثر من نصف قرن مع المواد النووية والثروة المعدنية

البصيرة العلمية ومستقبل الأمم

د. ممدوح عبد الغفور حسن

هيئة المواد النووية

 

        التقدم العلمى لأى أمة هو المقياس الحقيقى لتقدمها والمؤشر  الواقعى لمستقبلها، وبالرغم من أن العلم بمفهومه الواسع يشمل كل  المعارف البشرية مجتمعة، الا أن المفهوم السائد والعرف المتبع هو قصر  كلمة "العلم" على العلم المادى فقط، أى الدراسات الكونية لما هو محسوس  ومادى ويخضع للتجربة والمشاهدة والملاحظة والتسجيل، مثل الجيولوجيا  وعلوم الأرض والفلك والكيمياء والفيزياء وعلوم الحياة، ولا يعنى هذا  أبدا أن باقى مجالات المعرفة الانسانية أقل أهمية لتقدم الأمم وبناء  مستقبلها. ولا شك أن العلم بمفهومه المادى قد سبق جميع فروع العلم  الأخرى، بل ووضع الأسس لها ومهد لقيامها، ولم يكن ذلك صدفة، بل نبع من  حاجة الانسان لهذا العلم المادى وتحت وطأة الضرورة الملحة؛ فمنذ أن دب  الانسان على ظهر الأرض وتعامل مع عناصر بيئته مثل الصخور والمعادن  والتربة والأحياء الأخرى، وهو يسعى لاستكشاف هذه البيئة التى يعيش فيها  ويحصل منها على غذائه ومتطلباته الأخرى، ويجاهد لمعرفة أسرار الظواهر  الطبيعية التى يشاهدها ويتأثر بها مثل العواصف والأعاصير والفيضانات  والثورات البركانية، لمحاولة اتقاء أخطارها أو تسخيرها لخدمته، أضف  الى ذلك الفطرة التى خلقها الله فيه وهى حبه للمعرفة وسعيه وراء تفسير  ما يشاهده من أحداث وظواهر، ومن وراء محاولة الاجابة على الأسئلة  الكثيرة التى كانت تراوده نشأت فروع العلم المادى المختلفة وتطورت  وتشعبت وتشابكت، وزاد من أهميتها وتشبث الانسان بها أنه كان دائما  يستطيع أن يوظفها فى خدمته فى صورة تكنولوجيا. وهكذا كانت دراسة مادة  الأرض وأحيائها وظواهرها أول ما شغل تفكير الانسان ومنها تشعبت فروع  العلوم الطبيعية الأخرى أو العلم بمفهومه المادى ثم العلم بمفهومه الواسع الشامل.

       وليس العلم هو ما يجرى فى معامل الأبحاث ويدور بين المشتغلين به فى  الجامعات ومراكز البحوث فقط، ولكن العلم يجب أن يكون متاحا أيضا  للمواطن العادى، خاصة المواطن المثقف الذى يهتم بزيادة حصيلته  العلمية. وليس ذلك انطلاقا من الرغبة فى العلم لذاته، ولا هو ترف ثقافى  أو تسلية من نوع خاص، بالرغم من أن الثقافة العلمية قد تحقق كل هذه  الرغبات، ولكن الهدف الرئيسى أبعد من ذلك، فالثقافة العلمية الجيدة  تعطى المواطن "البصيرة العلمية"؛ فتغلغل المفاهيم العلمية فى وجدان  الإنسان تؤثر فى أسلوب تفكيره وترقى به وتعطيه القدرة على التخيل وتحليل المشاهدات والظواهر التى يراها ويتفاعل معها فى بيئته، فيكتسب السلوكيات السوية فى التعامل مع بيئته بصورة أفضل للحفاظ عليها  وتنميتها بدون مجهود، بل تفيده وتعينه على حل أى مشكلة قد تواجهه فى  عمله أو فى حياته بصفة عامة، وتدفع به الى الترقى والإبداع الفكرى، وهذا ما أسميه "البصيرة العلمية". وهذه البصيرة تحتاجها الشعوب  المستنيرة لتواصل تقدمها الحضارى فى زمن تشعب فيه العلم كثيرا وتسارع  تقدمه تسارعا رهيبا وخلقت لنا التكنولوجيات مشاكل لا يستطيع القضاء عليها إلا العلم.

        لهذا فاننى أقسم النشاط العلمى لأى دولة ناهضة الى قسمين أساسيين هما العلم البحثى سواء أكان أكاديميا أو تطبيقيا، والعلم الشعبى. يقوم بالقسم الأول علماء الأمة ومن يعاونوهم فى المؤسسات البحثية والصناعية والجامعات ومراكز البحوث، وهؤلاء هم الذين يرسون أسس القاعدة العلمية  للدولة، أما القسم الثانى فيقوم به كل المواطنين الذين يكونون الاطار الذى يحتضن القاعدة العلمية ويشجعها ويحفزها ويعطيها قوة الدفع. ويتم العلم الشعبى من خلال ما أسميه "الاعلام العلمى"، وهو كل الإجراءات لتبسيط  العلوم ونشرها بين المواطنين، سواء من خلال وسائل الإعلام العادية مثل الصحافة والإذاعة والتليفزيون، ويا حبذا لو حظى الإعلام العلمى بما تحظى به أخبار الفنون والرياضة وخاصة كرة القدم فى الوطن العربى، أو من خلال مساهمة الدولة وكل مؤسساتها الخاصة والعامة فى الإعلام العلمى، مثل إنشاء المتاحف العلمية فى المجالات المختلفة وإقامة المكتبات العامة وتشجيع الأطفال والشباب لممارسة الأنشطة العلمية والخيال العلمى، فكما نقول أن الإكثار من النوادى الرياضية ومن عدد الممارسين للرياضة من الأطفال والشباب يعطى الفرصة لظهور الأبطال، فإن نفس الشىء ينطبق على  ممارسة الأنشطة العلمية فيعطى الفرصة لظهور العقليات العلمية التى حباها الله بالقدرة على الإبداع، وهؤلاء هم ثروة الأمة العلمية التى يجب أن  تحرص على اكتشافها وتنميتها ثم استثمارها.

        ولا شك أن التفاعل بين العلم الخاص والعلم العام لابد وأن يكون  موجودا، وكلاهما يجب أن يستفيد من الآخر، وهذا التفاعل هو مسئولية أساتذة  الجامعات فى المقام الأول، أولا من خلال طلابهم وثانيا من خلال تفاعلهم مع  مجتمعاتهم، فالجامعة هى مصدر الإشعاع العلمى والثقافى فى مجتمعها.

        واذا كنا ننادى بالاهتمام بالعلم، فليس ذلك جديدا، وانما هو محاولة  لبعث تراثنا العلمى وإعادة النهضة والريادة العلمية للمسلمين الأوائل،  فقد اهتم هؤلاء الأوائل بالعلم المبنى على هدى القرآن والسنة وبنوا به الحضارة الإسلامية، وكانوا أول من ابتدعوا المنهج التجريبى فى البحث  العلمى، وطبقوه فى أبحاثهم فامتلكوا البصيرة العلمية، وقضوا على الخرافات والأساطير التى سادت فى الحضارات السابقة عليهم، ومنهم انتقلت الريادة العلمية الى أوربا التى بنت تقدمها العلمى على الأسس التى وضعها علماء المسلمين الأوائل، فهل فى مقدورنا أن نعيد أمجاد أجدادنا، ولو بعد حين؟ وأدعو الله العلى القدير أن تكون بداية هذا الحين هو 25 يناير 2011.

 

ممدوح عبد الغفور حسن

رئيس هيئة المواد النووية سابقا

33442749

010 560 4772

[email protected]

المصدر: من كتاباتى غير المنشورة
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 294 مشاهدة
نشرت فى 23 يوليو 2011 بواسطة mamdouhgeo

ساحة النقاش

ممدوح عبد الغفور حسن

mamdouhgeo
تسجيل خبرتى على 56 عام مع الجيولوجيا والرواسب المعدنية والبحوث العلمية والتطبيقية والإ شراف على رسائل الماجستير و الدكتوراه والتدريس فى الجامعات العربية. »

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

73,087