كانت مصر صاحبة الدور الإقليمي والريادي الأول في المنطقة العربية طوال القرن الماضي، مع تراجع في هذا الدور بشكل متفاوت حسب السياسة الخارجية لكل رئيس، فكان جمال عبدالناصر يستغل شعارات القومية والعروبة لحصد عاطفة الجماهير رغم عدم صدق نواياه تجاه القضايا العربية، فيما كان محمد أنو السادات يرفع شعار "مصر للمصريين" خاصة بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع الكيان الصهيوني عام 1978م مع محافظته قدر الإمكان على دور مصر الإقليمي. أما حسني مبارك ورغم تركيزه على الشئون الداخلية المصرية، إلا أنه لم يكن يغفل البعد الإقليمي لملف غزة، وتغاضى عن الأنفاق المتواجدة على طول الحدود مع غزة.
أما محمد مرسي فقد جعل القضية الفلسطينية جزءً من دعايته الانتخابية ومحدداً من محددات سياسته الخارجية، ومنذ اللحظة الأولى لانتخابه رئيساً لمصر تعاطى بشكل إيجابي مع غزة وسمح لقيادة المقاومة الفلسطينية بممارسة نشاطاتهم الخارجية، وكان يمسك العصا من وسطها فيما يتعلق بالمصالحة الفلسطينية، وأثناء العدوان الصهيوني على غزة (2012م) أرسل رئيس الوزراء هشام قنديل إلى غزة على رأس وفدٍ حكومي، كما طالب الكيان الصهيوني بوقف العدوان على غزة وقال إنه لا يسمح لها بان تشن عدوانها على غزة.
ومع قدوم نظام المشير عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، قام بهدم غالبية الأنفاق التي تربط غزة بمصر، وأحكم إغلاق معبر رفح البري بشكل شبه كامل، ومنع وصول مئات القوافل والوفود بالرغم من طبيعة مهمتها إنسانية ولا تحمل سوى مساعداتٍ طبيةٍ وأدويةٍ وبعض المساعدات الإغاثية العاجلة.
ويتعامل نظام الحكم الحالي في مصر مع غزة من المنظار الأيديولوجي بعيداً عن اعتبارات الجيرة والأخوّة والإنسانية والدين المشترك أو اللغة المشتركة، إذ يعتبر أن غزة التي كانت تحكمها حركة حماس التي حظرها القضاء المصري؛ هي امتداد لجماعة الإخوان المسلمين، كما أن غزة ومقاومتها هي مهدد أول وأخير للأمن القومي المصري.
وفي الأشهر الأخيرة ثمَّة أخبار ومعلومات تمَّ نشرها عن احتمالية شن عدوان صهيوني على غزة، وازدادت هذه الأخبار بعد مقتل الجنود الصهاينة الثلاثة في الضفة الغربية، لكن اللافت الأبرز في الأمر وحسبما صرَّح به كثير من قادة ومفكري ومحللي الاحتلال الصهيوني أن مصر ستكون جزءً من هذا العدوان من أجل التخلص من حكم حماس.
وفي وقت لاحقٍ جاء في تصريحات البروفيسور الصهيوني "داني روبنشتاين" عبر قناة الجزيرة في (8/7/2014م) أنَّ "هناك مصلحة مشتركة لمصر وإسرائيل في إنهاء حكم حماس لغزة، وأن هناك مشاركة من مصر في فرض الحصار على غزة".
ونقلت الصحف العبرية أن مدير المخابرات العامة المصرية الحالي "محمد تهامي" قد زار الكيان الصهيوني قبل فترة وجيزة والتقى بقادة عسكريين، وتفاهم معهم حول العدوان الحالي على غزة، ومن ضمن ما تحدث به الصهاينة أن العدوان ربما يؤدي إلى دمار ثلث غزة، فيما لم يعترض تهامي على هذا الأمر، ولم تنفِ السلطات المصرية هذه الزيارة.
منذ بدء العدوان الصهيوني؛ تتعرض غزة لقصف بالقنابل الثقيلة التي تزن طن (1000 كجم) بواسطة طائرات ال(F16)، وبصواريخ أرض-أرض، وبصواريخ الطائرات الحربية من نوع استطلاع، وأدَّى هذا العدوان إلى استشهاد ما يقرب 200 موطناً، فضلاً عن جرح اكثر من 1400 ، وهدم أكثر من 1300 بيتاً غالبيتها بشكل كليٍ.
لم تتعاطَ مصر مع هذا المشهد الدموي الذي يرسم معالم غزة، ولم تتحرك الإنسانية فيها قيد أنملة، ولم تسمح لوفد طبي أوروبي من دخول غزة، فاضطر الوفد لدخول غزة من جانب الكيان الصهيوني، كما لم تسمح لوفود أخرى بدخول غزة، فبقيت هذه الوفود في القاهرة تنتظر موافقة السلطات المصرية كي تصل إلى غزة. وعندما فتح مصر معبر رفح لإدخال الجرحى، ادخلت في اليوم الأول 9 جرحى فقط، وفي الثاني أقل من هذا العدد كما أفادت اللجنة الحكومية لكسر الحصار واستقبال الوفود.
طوال الفترة السابقة لم يكن لمصر الرسمية أي موقف تجاه العدوان، وبقي الموقف المصري الرسمي غامضاً تجاه ذلك العدوان، بعد أن فضَّلت مؤسسة الرئاسة التزام الصمت، وتمَّت قراءة هذا الصمت على أنه تبرير للعدوان الصهيوني على غزة..
لكن وزارة الخارجية المصرية تناولت العدوان بثلاثة مواقف غير متناسقة، إذ طالبت ببيان الفلسطينيين و"الإسرائيليين" بوقف العدوان المتبادل، والعودة لاتفاق التهدئة، وأدانت -في بيان آخر- الغارات الصهيونية على غزة، وطالبت الكيان الصهيوني باحترام الاتفاقيات الدولية وعدم الإفراط في استخدام القوة. ولم تمض عدة أيام حتى قالت الخارجية المصرية على لسان المتحدث باسمها بدر عبد العاطي "إن الشعب الفلسطيني يدفع ثمن اعتداءات صهيونية ومغامرات داخلية تحاكُ لخدمة أغراض داخلية لا تصب في مصلحة المواطن الفلسطيني".
وفي غمرة الانتقادات الحادة التي واجهتها مصر من السلبية في موقفها، خرجت وزارة الخارجية المصرية بمبادرة لتهدئة الوضع بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني.
أبرز ما تضمنته هذه المبادرة هو: أن تقوم دولة الاحتلال الصهيوني بوقف جميع الأعمال العدائية (Hostilities) على قطاع غزة برأ وبحراً وجواً. وأن تقوم كافة الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بإيقاف جميع الأعمال العدائية (Hostilities) من قطاع غزة تجاه الكيان الصهيوني جواً، وبحراً، وبراً، وتحت الأرض. وأن يلتزم الطرفان بعدم القيام بأية أعمالٍ من شأنها التأثير بالسلب على تنفيذ التفاهمات. وتحصل مصر على ضمانات من الطرفين بالالتزام بما يتم الاتفاق عليه، ومتابعة تنفيذها ومراجعة أي من الطرفين حال القيام بأي أعمال تعرقل استقرارها.
وثمَّة ملاحظات عديدة على هذه المبادرة:
أولاً: أنها مبادرة أمريكية، تحاول الولايات المتحدة تسويقها بواسطة مصر من أجل هدفين يتمثلان في إبعاد الولايات المتحدة عن المشهد ولو بشكل نسبي وإظهار مصر على أنها حريصة على المصلحة الفلسطينية.
وثانياً: أن المبادرة لا تحقق مطالب المقاومة الفلسطينية، إذ نصَّت على العودة إلى الأوضاع السابقة أي اتفاق الهدنة الأسبق (2012م)، وهو الاتفاق الثي لم تلتزم به دولة الاحتلال، بل تخطَّته باعتقال النوَّاب وإعادة اعتقال الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار، وبالتالي يعيد هذا النص المقاومة إلى الدائرة الأولى وينفي أن تكون قد حققت أي إنجاز في التصدي لهذا العدوان رغم التطورات الكبيرة والمفاجئات التي أظهرتها المقاومة من اقتحامات أو صواريخ متقدمة أو طائرات حربية. ومن المؤكد أن العودة الأوضاع السابقة ستكون أشبه قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.
وثالثا: أن المبادرة تحاول إخراج الكيان الصهيوني من ورطته بأقل التكاليف الممكنة، إذ إن مصر أعلنت مبادرتها هذه عندما أدركت أن المقاومة الفلسطينية هي الرابح من هذا العدوان، ولو كانت العدوان يصبُّ في صالح الكيان الصهيوني لما تقدمت مصر بهذه المبادرة، لأنها تدرك أن انتصار المقاومة الفلسطيني يشكِّل ضربة لفريق التسوية السلمية من ناحية، والدور العربي المترهل من ناحية أخرى. ويجد النظام المصري الحالي نفسه في مأزقٍ كبيرٍ، فأي مكسب سياسي أو عسكري يمكن أن تحققه المقاومة الفلسطينية سيُخصم من رصيده في معادلة العلاقات المتأزمة بين السلطات المصرية وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس.
رابعاً: تساوي المبادرة بين المقومة الفلسطينية والاعتداءات الصهيونية، بل وتزيد أن على المقاومة الفلسطينية وقف "الاعتداءات" من تحت الأرض، وهو ما لا تقبل به المقاومة إطلاقاً، خاصة أن الأنشطة العسكرية من تحت الأرض هي مصدر القلق الأكبر بالنسبة للكيان، اعتباراً من أنها غزة التي تحت الأرض، أي التي يتخوف منها الكيان وتشكل رادعاً له في حال أقدم على اجتياح غزة برياً.
خامساً: تبدو المبادرة المصرية وكأنها أقرب إلى التكتيك والمناورة منها إلى الوساطة الفعلية؛ حيث جاءت لتقويض المساعي التركية والقطرية والألمانية من ناحية، وامتصاص غضب الشارع المصري من ناحية أخرى، ورفع الحرج عنها جرَّاء صمتها على عدوان غزة.
سادساً: تجسّد المبادرة المصرية عمق العلاقات الأمنية المصرية الإسرائيلية وتعبّر عن مدى تقاطع المصالح الأمنية بين مصر والكيان الصهيوني، حيث تربط بين فتح المعبر والاستقرار الأمني في غزة، وهو أمر نسبي، وإذا ما تزعزع الأمن سيكون لدى مصر المبرر لكي تغلق المعبر وتشدد الخناق على غزة.
تجد المقاومة الفلسطينية صعوبة كبيرة في قبول المبادرة المصرية التي تتمحور حول مصطلح "تهدئة مقابل تهدئة"، خاصة في ضوء هذا الكبير من الضحايا المدنيين ما بين شهداء وجرحى، كما أن الأوضاع السابقة للعدوان هي من دفع بالمقاومة لخوض المعركة مع الكيان الصهيوني، وهي أوضاع غير قابلة للاستمرار.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني قد قبل بالمبادرة لأنه يدرك جيداً أن المقاومة لا تقبل بها، وبالتالي يكون قد أخرج نفسه من دائرة اللوم الإقليمي والدولي، وبالتالي يتحول الحنق الدولي والإقليمي ضد المقاومة الفلسطينية، انطلاقاً من أنها ترفض هذه المبادرة، مما يسمح للكيان الصهيوني بتوسيع عدوانه على غزة.