«عشى ليلي» وجع الجنوب المصري
متابعات يكتبها من بيروت ياسين رفاعية
2015/03/05«عشى ليلي» هي رواية الريف المصري وعلى ما يعاني فيه الفقير من آلام وعدم الاهتمام به، إذ يموت على قارعة الطريق، أو في ممرات مستشفى القصر العيني في أسيوط، بينما الكبار واللصوص والزعماء هناك لهم البصلة وقشرتها، وفي نزاع مستمر على النفوذ إلى حد الاقتتال بالسلاح، ليس السلاح العادي، بل، بالرشاشات الثقيلة، والمدفعية، ولا أحد يعرف من أين لهم هذا السلاح، حشاشون علناً وكحوليون علناً، مجتمع فاسد، لا تعرف الدولة عنهم شيئاً، بل لعلها تؤيدهم في السر، للحصول على الرشاوي بالآلاف.. إن لم يكن بالملايين.
هناك لقطتان أساسيتان: الفقير المدقع: حميد رزق السقا، والوزير ذو النفوذ، وبالتالي الاستيلاء على الأراضي من دون ثمن.
العقدة الأساسية عندما يلتقط الوزير تسجيلاً صوتياً لمكالمة هاتفية بين زوجته فيفي وعشيقها، فينشر الخبر في قرية هاقاو «مكان الرواية والسرد» ليكون سبباً في زيادة الانقسام، ويعزز الخلاف السياسي القائم ويسهم في تأجيج الصراع في زمن الثورة «أو الثورات» التي اضطرمت نارها في البلاد، وبدأ لهيبها يصل إلى هذه القرية النائية، قرية وصلتها التكنولوجيا من هاتف محمول وتلفزيون، وهي لا تزال محرومة من أبسط مقومات الحياة لتعيش حالة من الفانتازيا لموجعة في تفاصيلها.
رواية واقعية أجاد مؤلفها ماهر مهران في تصوير دقيق لمشاكل هذه القرية التي يقطنها مسلمون وأقباط.. ويقترب عدد سكانها العشرة آلاف.
أول ما نرى تمني حميد رزق أن يمنحه الله ولداً رغم بلوغ زوجته الأربعين عاماً وهو في الستين عاماً.
ثم نرى من يحاول الهروب إلى ليبيا ليعمل فيها والدولار هو الوسيلة ثمناً لتعب هذا أو ذاك، فيحكي فريد الذي ترك زوجته الشابة وأخته الخرساء صفية وسافر إلى ليبيا بعد أن دفع خمسة آلاف جنيه لأحد المهربين للعمل هناك، إلى ذلك يهربون الحشيش المغربي والسلاح الإسرائيلي إلى صعيد مصر.
ويحكي الحاضرون عن ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني «يناير» وعن مبارك، والثوار، والحزب الوطني، وعن الوجوه الملتحية التي ظهرت بكثرة بعد الثورة، إلى صراع العائلات الكبيرة، حتى، لو بالسلاح، لتأمين النفوذ، وتحويل الفقراء إلى عبيد، أو إلى مسلحين يؤمرون من هذا الزعيم أو ذاك.
وأقسى ما يقع على الوزير «غير مذكور اسمه في الرواية» خيانة زوجته التي يحبها وله منها ولدان، يطردها في البداية، ثم لا يستطيع فراقها، فيعيدها إلى بيته، ويؤكد للناس أن خيانتها ليست صحيحة، بل من «فبركة» أولاد الحرام.
ونرى فقراء الريف أمام مبنى الشؤون الاجتماعية حيث ينتظر «الغلابة» والمرضى والأرامل والمطلقات والنصابون، وأصحاب العاهات وذوو الروائح الكريهة والتجاعيد الظاهرة، والأوجاع المتربعة، أن يصرف لهم الموظف، الذي ليس سوى لصّ قابع في حجرة التكييف داخل المبنى الخمسة والستين جنيهاً تحت بند الضمان الاجتماعي الذي تصرفه لهم الدولة شهرياً، وطبعاً يسرق من هؤلاء المال، فمعظمهم أميون، ويسرق منهم المساعدات والمعونات والبطاطين والأطعمة التي يرسلها سكان القاهرة من أشيائهم التي يريدون الاستغناء عنها.
ما يفرح حميد رزق السقا، الذي يعتمد في الأصل على مساعدات أهل القرية الذي يحمل لهم المياه الصالحة للشرب، أن زوجته ذات الخامسة والأربعين سنة أن بطنها ينتفخ بعد هذا العمر الطويل وأنها حامل ستنجب لزوجها ولداً، وعندما يعلم أهل القرية بحمل سنية زوجته يفرحون لهما ويحملون إليهما الهدايا، خاصة للطفل مولود، ويبتسم حميد.. وتبتسم زوجته سنية وهو ينظر إلى ملامحها المختلطة والممزوجة في عينيه بفعل العشى الليلي، لكن هذا المزج لا يقدر على إخفاء فرحتها، يظل حميد يحدق في وجه سنية لحظات ثم يعود ويكلم ابنه الذي في بطن أمه لحظات أخرى، مرة يلومه على تأخره في المجيء، ومرة يشكوه على أنه قرر المجيء، وقرر أنه يحمل اسمه ويحافظ على البوابة المفتوحة إلى يوم الدين، وسيذهب إلى بنات عمه وعماته في الأفراح، وسيتلقى العزاء في من يموت، ثم يراه عندما يتزوج، وينجب، ويحافظ على اسم حميد رزق السقا حياً كشجرة الجميز العريقة، وسنية غير مصدقة، وترجوه أن يخفي فرحته حتى تتأكد من الخبر، لكن سرعان ما يكتشف أطباء القرية أن سنية ليست حاملاً، وأن ثمة سر في بطنها، ومن طبيب آخر، مما يضطره أخيراً على حملها إلى المستشفى حيث بدأت تنزف، وفي زحمة مستشفى القصر العيني لا يجد له دوراً لفحص زوجته، وبعد دقائق تختفي سنية، من دون أن ينتبه حميد، ويبدأ بالبحث عنها في طوابق المستشفى العديدة ولا يعثر عليها إلى أن وجد ممرضاً يسأل عن زوج امرأة ورفع يده، فاقتادوه ليجد سنية ميتة في أحد الممرات.. يدهش ولا يعرف ماذا يفعل، ويضطرب بشدة، وعندما يحاول أن يحمل سنية يمنعه الممرض قبل أن تخضع للتشريح ومعرفة سبب الموت.
بعد ذلك، وبعد أن أخذوا من جسدها كل شيء صلح، يسمحون له بأخذ الجثمان، فيحملها ويعود حزيناً وقد كسى وجهه السواد.
وفي البيت، وقد أصابه ما يشبه الجنون، يجلس منكسراًحزيناً، ينظر يميناً ويساراً بحثاً عن سنية، يقف متحاملاً على ركبتيه ينادي بصوت حزين:
- سنية أنتِ فين يا سنية.
وعندما يذهب بها إلى المقبرة ليدفنها، رفض اللحاد أن يدفع له أتعابه قبل أن يدفنها، وليس مع حميد قرشاً، فيعمل على حفر القبر بنفسه ويدفن سنية ويهيل عليها التراب، ويرش عليها الماء ويقرأ لها الفاتحة ويدعو الله أن يرحمها ويجعل مثواها الجنة، ثم يعود إلى بيته وقد انحنى ظهره واستطال قفاه وثقلت خطاه، وما أن يصل إلى الرهبة «فسحة البيت» حتى يجلس تحت شجرة الجميزة ويتذكر اللحظات الجميلة التي عاشها مع سنية، حتى حماره الذي يرى بعينيه هذه المأساة ينهق بصوت مفزع للغاية، ثم يتكوّم جثة هامدة، يدرك حميد أن الحمار قد حزن على سنية وعليه، ولم يقدر تحمل كل هذا الحزن.
وسرعان ما يتحول حميد إلى مجنون، يفتح صدره وينظر إلى الناس الذين تجمعوا بكثافة وهو يضحك ضحكاً هستيرياً ويصم أذنيه عن كلامهم. (....) وينظر إلى أعلى حيث الغربان السود غطت سماء القرية غير مكترث بالرصاص الأحمر الذي انتشر غزيراً حيث بدأ الصراع بين أبرز عائلتين يضربون بعضهم بالمدفعية الثقيلة.. وحزن حميد فوق كل هؤلاء، وواحد من الأنقياء والطيبين والفقراء والمهمشين، في ذلك الجنوب المنسي منذ عقود طويلة.
رواية موجعة بكل تفاصيلها، تبرز أمام القارئ طازجة كأنها كتبت قبل لحظات، وأجاد ماهر مهران في رصد هذه الأحداث ببراعة كأنه واحد من هذا الجنوب وهذه القرية...