أحمد ياسين
الشخصيتان الرئيستان، اللتان هما من الشخصيات الرئيسية لرواية «عشى ليلي» للكاتب والروائي المصري ماهر مهران، هما الشخصيتان اللتان اجتاح التحوّل الكبير والنوعي، طبيعتي حياتيهما، بحيث انقلبتا، رأساً على عقب، وذلك بفعل الأحداث الدراماتيكية التي أحاطت، أو على نحو أدق، أحاقت بكل واحد منهما على حدة، وعلى وجه الخصوص ـ وهما شخصيّتا: السّقاء حميد رزق السّقّا (وهو رجلٌ طيّب تجاوز الستين من عمره بشهور قليلة) والزعيم الشاب ياسر أبو الشّامات (الملقب بالوزير نسبة إلى زعامته).
فالأول ـ وهو المقطوع من شجرة على ما يقال ـ فضلاً عن انتمائه إلى فئة الفقراء والمعدمين والمهمشين المسحوقين في مجتمعه، بل هو، في هذه الرواية، رمز لهذه الفئة ـ أدى به مُصابُه «الطبيعي» (الواقعي) بالعش الليلي، أي بداء عَمَى الألوان ليلاً، إلى ان يضيّع زوجته، التي ليس له، في الدنيا سواها (لم يرزقا أولاداً)، الأمر الذي افقده صوابه وأضاعه، هو شخصياً، وبشكل مدوٍ، بعد أن وجدها ميّتة، مِيتة مفجعة، ومُفجعة حتى لحماره العجوز، الذي لازمه طيلة حياته العمليّة كسقّاء والذي قضى كمداً؟! بسبب من حزنه الشديد على صاحبيه (حميد وزوجته التي فقدها بسبب الفساد الصحّي).
والثاني، ولأنه هو الذي تمتّع زمناً طويلاً جداً بزعامته السياسية والاجتماعية كزعيم متفرِّد، بصفته صاحب سلطة عليا، في محيطه الاجتماعي تجذّرت، وبسبب من علاقته الوثيقة، بنظام الحكم المتمثل بنظام حسني مبارك والحزب الوطني، رفض الامتثال لنصيحة والده له بأن يحاول قراءة الوقائع المستجدة، بعد الثورة، وإسقاط حكم مبارك وانهيار الحزب الوطني، قراءةً فاحصة متبصِّرة وجيّدة (واقعية وموضوعية)، بل ركب رأسه وجرَّه عناده المستفحل، الى ممارسته سلوكيات تهوريّة خطيرة للغاية بنتائجها الوخيمة عليه، والتي دفع ثمنها غالياً بخسارته مكانته، من خلال استماتته التي أعمت بصيرته، بالكامل، عن حقيقة ما جرى، في محاولاته الحثيثة للحفاظ على زعامته المطلقة، ما جعله ـ وعلى حدّ وصف والده هو له، وبالمعنى السياسي للكلمة هنا ـ بأنه اشبه ما يكون «بمريض العشى الليلي الذي لا يرى تفاصيل الصورة (من حوله) ولا يقدّر الأمور حقّ قدرها».
إذ وبعد صراع عائلي مرير بين عائلة أبو الشامات بزعامة الوزير، وعائلة الشاب مرسي ابو كرسي المناوئة ـ تاريخياً لها ـ مع عائلات أخرى، لاستبدادية عائلة أبو الشامات، اصلاً، هذا الصراع المسلّح الذي ذهب ضحيته قتيل شاب من عائلة الوزير وجرحى من الطرفين (العائلتين)، بينهم الوزير نفسه، آلت الزعامة إلى مرسي أبو كرسي. ويتشكل العالم الروائي لـ «عشى ليلي» من خلال مركزية مكانية وصفية، تشكل العلاقة بالمكان، مقوّماتها الجمالية (الفنيّة) كافة، من خلال حكايتين رئيسيتين: حكاية فردية هي حكاية حميد السقا وزوجته سنيّة؛ وحكاية جماعية هي حكاية مجتمع بكامله يتأكله الفساد، بأنواعه ووجوهه كافة، وهما حكايتان يجمعهما، فضاء واحد، إلى جانب مرفودات حكائية فرعية، تشكل وحدات سردية صغرى للسياق السردي المتمثّل بمتوالية سردية، قوامها تقنيات عدة، منها: الحوار، الوصف بمنحييه السكوني والديناميكي، الحديث العادي، الفلاش باك، السرد التزامني (تجاور حدثين أو اكثر، في الوقت نفسه في الفصل الواحد). واستطاع الراوي/ الكاتب لهذه الرواية، ان يحرّك، خيوطها وبمهارة فنية، تقوم على الكشف و»المساءلة» بمنحييها: المضمر والمعلن للواقع المرجعي المعيش لروايته هذه، وذلك باعتماده لغة نقدية لاذعة لخطابها (قولها) الروائي عامرة بدلالاتها.
وأحداث رواية «عشى ليلي» ومن خلال التمظهرات التي تتلاحق على كامل المدى الروائي لهذه الرواية، من خلال المنظورين الروائيين لحكايتيها الرئيستين، المنظوران اللذان يحكمان روائية «عشى ليلي» إذ هما اللذان اعطياها عنوانها هذا، هو الغامض، للوهلة الأولى، قبل الدخول إلى عالمها.
وتبدأ «عشى ليلي» بما مفاده، ان الحياة، بقيت طبيعية، وسائرة على هدوئها ورتابتها المعتادين، في قرى صعيد مصر (ثماني قرى، أكبرها قرية «قاون» والتي هي قرية الراوي/الكاتب وحميد والوزير ومرسي ابو كرسي، هي القرية الأم للقرى المحيطة بها، والتي تجمع حدودها كلها)، وذلك إلى ما يقرب من عام كامل تقريباً، بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير في العام 2011؛ لكن وقبيل حلول الذكرى الأولى لهذه الثورة، يقع حدث مفصلي/مركزي، قوامه تسجيل صوتي، إباحي، خليع، لزوجة الزعيم (الوزير) الثانية فيفي وعشيقها رامي، ما شكل فضيحة «مطنطنة» انتشرت حكايتها في البلد كله، فوجّه الوزير اتهاماً مباشراً وصريحاً لمرسي أبو كرسي، الذي كان الصديق الحميم للوزير ثم اصبح عدوه المنافس على السلطة بعد الثورة، لكن والد الوزير نصح إبنه، بأن لا يدخل في مواجهة مباشرة مع مرسي ابو كرسي خصوصاً في هذا الوقت بالذات، لأن ذلك سيفضح نهائياً مكانتهم اي مكانة عائلة أبو الشامات التي امتد تسلطها هنا لعشرات السنين، بعد نجاح الثورة، وانهيار حكم مبارك الذي كانت عائلتهم، عائلة أبو الشامات، تستند عليه، لكن الوزير لم يعر كلام أبيه أدنى اهتمام ما عجّل في انهيار مكانته ومكانة عائلته بشكل سريع ومريع، وأدى هذا الانهيار ما أدى إليه.
وعلى هذا فإن أحداث رواية «عشى ليلي»، تدور زمانياً في فلك زمن الثورة، ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتدور مكانياً في قرى صعيد مصر، والمتخيّل الروائي لـ»عشى ليلي» تنهض مفاصل بنيته، على تصوير تجليات أصداء ثورة الخامس والعشرين من يناير، في قرى صعيد مصر، اي في هذه البقعة ـ النائية من الارض المصرية، وعلى ذلك فهي رواية تجليات أصداء هذه الثورة وما مثلته من تداعيات خطيرة، في هذه الرواية، على المجتمع الصعيدي/الريفي/المهمش رسمياً، وهي تداعيات سياسية وإجتماعية وأمنية.. هي من صلب هذه الأصداء. وتنتهي رواية «عشى ليلي» والتي هي رواية المكان بتحولاته، تنتهي بما تمثله ـ عادة ـ المأساة ـ المهزلة، وذلك بسبب الهستيريا التي اصابت حميد رزق السقا، نتيجة فجيعته الخاصة بزوجته هي التي ماتت ميتة لا إنسانية، إذ انه فضلاً عن انه وجدها جثة هامدة مرميّة على الارض، في إحدى زوايا مستشفى القصر العيني في مدينة اسيوط، جثة غارقة بالدم الأزرق، مُنع من ان يأخذها ويدفنها، إلا بعد ان سلبوا منها العينين والقلب وبعض الأعضاء الأخرى، ثم سلموه إياها ملفوفة في كفن أبيض أخذوا منه ضعف ثمنه، وعندما أخذها ليدفنها في القرية، رفض اللحّاد أن يدفنها لأن حميد لا يملك أجرة الدفن، هو الذي لم يبقِ معه مرض زوجته الخبيث بالكبد، فلساً واحداً، فاضطر لأن يدفنها بنفسه، على ان هستيريا حميد المعلنة، تقابلها هستيريا مضمرة اصابت أطراف الصراع على النفود في صعيد مصر (في الرواية)، ما ابقى مصير الفقراء والمهمشين في هذا المكان المنسي اصلاً من قبل الجهات الرسمية، مصيراً ضبابياً، فباتوا ضحايا فساد نوعي آخر، وبكل أنواعه بمجيء سلطة أعتى وأشرس في البطش والتسلط والتحلل من القيم الأخلاقية أيضاً، ما جعلهم ضحايا مضاعفين تتقاذفهم رياح المجهول مرة أخرى، هم الذين كانوا يرون ثورة يناير هذه «طوق نجاة لهم من يأس وفقر وظلم وجهل وتهميش واستبعاد عاشوا فيه». لذلك نرى إلى خاتمة الرواية وقد جاءت على هذا النحو المؤلم ـ وكما يصوره الراوي/الكاتب: يصعد حميد إلى أعلى نقطة في الجميزة العجوز، أمام بيته، ثم يقف ويفتح صدره، وينظر إلى الذين تجمعوا بكثافة اسفل الجميزة، وهو يضحك ضحكاً هستيرياً، ويصم أذنيه عن كلامهم، ثم يرفع حجر جلبابه الواسع إلى أعلى، ويضع يده السمراء العفيّة الصلبة، داخل سرواله القطني المتسخ، ويخرج قضيبه الطويل الأسود المرتخي.. ويحركه إلى أعلى واسفل، مرات عديدة، وهو يبوّل على الناس، ويقطر عليهم، ماء بوله الأصفر في كل الجهات، وهو يضحك، ثم ينظر إلى أعلى حيث الغربان السود غطت سماء القرية، غير مكترث بالرصاص الأحمر الذي انتشر غزيراً، والأصوات المرتفعة التي تعالت، وهي تقول إن الحكومة ومرسي وعائلة ابو الشامات، يضربون بعضهم بعضاً، بالأسلحة الثقيلة، ضرباً مبرحاً، جعل سماءنا الصافية ناراً وسعيراً، لا يحتملهما العقلاء ولا الأنقياء ولا الطيّبون ولا الفقراء والمهمّشون في الجنوب المنسي منذ عقود طويلة. رواية: عشى ليلي للكاتب المصري ماهر مهران عن دار الساقي ـ بيروت في طبعة أولى 2014