بنات قبلى «المنسحقات» يهبن الحياة

بنات قبلى «المنسحقات» يهبن الحياة- محمد رفيعنشر: 5/1/2014 2:08 ص – تحديث 5/1/2014 2:08 ص

المؤلف يقدم روايةً تزخر بالأسرار عن الريف الصعيدى.. ويعكس جميع أحداثها على لسان راوٍ «طفل»

فى روايته الثانية «بنات قبلى» الصادرة من سلسلة «حروف» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ما زال ماهر مهران يثبر أعماق قاو بلده الريفى الصعيدى آخذًا على عاتقه أن يُكمل مشواره الذى يريد فيه أن يقول «ليس الصعيد ما قالته شاشات التليفزيون، بل إن صعيد مصر ما زال يحمل الكثير من الأسرار، وما زال قادرًا على إحداث الدهشة».

اختار ماهر أن يقدم روايةً ريفيةً جديدةً تضاف إلى هذا الزخم الكبير من روايات الريف فى مصر والعالم العربى، وعمر الرواية العربية هو عمر رواية الريف ذاتها، منذ صدور رواية زينب لهيكل سنة 1911، التى صدرها بإهداء قال فيه «إلى مصر.. إلى هذه الطبيعة المتشابهة اللذيذة.. إلى هؤلاء الذين أحببت وأحب إلى بلاد بها ولها عشت وأموت»، على ما فى هذا الإهداء من دلالة على المرحة الرومانسية التى بدأت بها روايات الريف، وتوالت الروايات التى تتحدث عن الريف بعدها عابرة مرحلة الرومانسية إلى الواقعية وما بعدها وعلى ذلك فإن أى طرق على باب الرواية الريفية بعد هذا التراث الزاخر يُعد مغامرة.

فلسان الحال يقول: قدم جديدًا فى هذا المضمار أو اصمت عنه للأبد، لكن ماهر مهران كان ولا يزال يملك عن الريف الصعيدى أسرارًا لم ترَ بعد. وأخذ ذلك التحدى مطمئنًا لمشروعه وذاكرته وحسه الفنى. أما التحدى الثانى الذى خاضه ماهر فى هذه الرواية فهو اختياره الراوى المركزى «طفل» فى المرحلة الثالثة الدراسية، حيث سيضعه ذلك فى تحدٍ دائم فى أثناء السرد، وهو تقديم العمل بوعى ذلك الطفل، وعلى ذلك سيكون عليه أن يرسم شخصياته من الخارج، وإن دخل فى أعماقها فليتمهل تمهل الطفل، وليدرك إدراكه ولا يزيد عليه شيئًا، وكذلك عليه أن يفعل فى ما يخص الأحداث والأماكن، وهى مغامرة بلا شك. وعى ذلك ماهر وكان الوعى الطفولى المتسم بالنقاء والصفاء والوضوح هو ثمة السارد.

وهكذا لم يتخل ماهر عن وعى السارد إلا فى اليسير، وحسبه فى ذلك أن الوعى الطفولى نسبى، وما رأيته خرج منه إلا عندما قال «كيف يمر كل هذا الماء العذب الشهى بجوارنا ويسقوننا ماءً مالحًا طعمه لا يطاق وأصاب نصف سكان القرية بالفشل الكلوى والنصف الآخر بحرقان فى البول ومغص فى الكليتين والمثانة والحوالب»، فما حسبت عين الناقد هذه عين طفل، لكن فى المجمل الأعم التزم السارد بهذا الوعى الطفولى كما أسلفنا

وبالنظر إلى بناء الرواية ومعمارها ندرك على الفور أن الكاتب أفاد من مهنة السيناريو فى تقديم شكل أقرب إلى المقاطع وليس الفصول ولا الأبواب، وأن لغته آنية، وجل أفعاله مضارعة لتتدفق الأحداث فى شاشة مخيلته ثم تنطبع على الورق. ولم يتبع ماهر هنا الواقعية السحرية منهجًا، إنما جاءت روايته واقعية تأخذك من يدك وتضعها فى طين الأرض لتتحقق من صلابتها وملمسها الخشن المتناغم مع حياة من يقفون فوقها لتدرك من أحداثها أن حياة الفلاح الراكضة لا استراحة فيها، فالشقاء ديدنه ومصيره من مهده إلى لحده وتُدرك أن بنات قبلى المنسحقات هن واهبات الحياة على ما فيهن من وجع أبدى، فشخصيات الرواية النسائية كلها بين المتزوجة فى طفولتها المقهورة، والمنبوذة المطرودة من رحمة المجتمع، والمريضة التى يأكلها المرض، أو المضروبة، المحروقة، المجبرة على الزواج ممن لا تطيقه. غير أن الكاتب لم يترك هذا الخط الغارق فى الواقعية إلا وقد سيّجه بإطار عجائبى تمثل فى الحكاية المتقطعة المؤطرة للنص، وهى حكاية فهيم العقيلى تلك الشخصية الأسطورية قليلة الحجم عظيمة الفعل سريعة القتل غير أن التناقض بين شكلها وفعلها لا يؤسطر الشخصية بقدر ما هو التناقض الكامن فى الأفعال نفسها. ففهيم العقيلى هو قاتل رحيم يحج البيت ويحنو على الفقراء، ويمتهن القتل كمهنة أولى، ويتبرأ من أولاده لو مات واحد منهم ميتة طبيعية، فهو يسطُر طريقهم فى سطور تدفعهم من القتل وإلى القتل. وكما جاء الخط الواقعى متمثل فى بيت الراوى ومدرسته، فى الأب المكافح المسحوق والأم القاسية المسحوقة أيضًا وحسنية المنبوذة والمطرودة من رحمة الخلق حية وميتة من جراء تفريطها فى نفسها، وسعفاء الأسطورية التى رفضت اسمها الذى لا تحبه والمدرس المتحرش بها فضربته كما رفضت تزويجها من منازع الذى لا تطيقه كل ذلك جاء فى خط واقعى تراجيدى. وجاء الخط العجائبى فقط فى حكاية فهيم العقيلى.

غير أن هذين الخطين ظلا متوازيين ولم يتقاطعا إلا فى موضعين اثنين، موضع مقتل خليفة على يد أهل القرية، وموضع بداية السعفاء أخت الراوى ونهايتها العجائبية. فالسعفاء سُميت بهذا الاسم طبقًا لحلم فنتازى حلمه الأب، وقيل له فيه أن يُسمى ابنته السعفاء، ولو غيّر اسمها ستموت تلك البنت. وعلى هذا كانت بداية السعفاء نبوءة واسمها تفاحة مُحرمة. ونهايتها التى أتت فور حرق قدميها «بالمحساس» ذلك السيخ المحمى فى نار الكانون، جزاءً لتمنعها على زوجها منازع صاحب العشى اليلى. هربت بعدها السعفاء من البلدة إلى الصحراء، وظلت تبتعد وتبتعد حتى أصبحت نقطة فى الأفق، والعجيب أن أباها هرِم وشاخ فى نفس اللحظة بقدر بعدها وفرارها منه. فى هذين الموضعين السابقين فقط تلاقى الخطان الواقعى والخط العجائبى المؤطر له، ولو كان هذ الخط العجائبى مضفور داخل الواقعى لسميتها رواية واقعية سحرية، لكن الكاتب الذى يريد لنا الصدمة ويريد بنا الولوج إلى عالم الصعيد أرادها واقعية منتمية إلى الأرض داخلة بنا إلى عمق الصعيد لنرى «الدُخلة البلدى» فى مشهد قاسٍ، ونرى ما حدث لحسنية التى سلمت نفسها لمعتمد فلُعنت حية وميتة، ولم يرحم أحد حتى لحمها الميت ولحقتها اللعنات والبصقات حتى وهى مقتولة مُدرجة فى دمائها. ورأينا السعفاء التى ثارت على اسمها فسمت نفسها «صفاء»، وتمنعت على زوجها فأُذيقت صنوف العذاب حتى تلين وما لانت، رأينا الأم القاسية التى استحالت حارسًا للتقاليد.

وفى النهاية رواية بنات قبلى لكاتبها ماهر مهران تستحق القراءة لما فيها من زخم وعالم بكر كلما ولجنا إليه ازدادنا به جهلًا.

المصدر: التحرير،،، الاثنين 6 يناير2014
mahermohran

ماهر مهران

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 189 مشاهدة
نشرت فى 6 يناير 2014 بواسطة mahermohran

الشاعر : ماهر مهران

mahermohran
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

26,203

نبذه صغيرة

شاعر من شعراء العامية المصرية التي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري والانساني  الذي نعيش فيه فهو كثيراً ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يحدثها هذا الشعب المصري العظيم وبجانب شعره  بالعامية  المصرية كتب روايات تغوص في الواقع المصري وتكشف الغامض والمهمل والمهمش في صعيد مصر كما انه كتب العديد من المسلسلات الدرامية  .