الشاعر "ماهر مهران" له العديد من الدواوين الشعرية منها "هفهفات النخيل" و"عزيزة" و"أغانى أشجار السنط" و"الخدامة" و"أوجاع متوحشة" و"تعليم مجانى" و"إيه ده" و"الترنج الأبيض" وآخرها "يقول عبد الصبور"، وله أيضا روايتان، الأولى "قاو أسطورة الدم" والثانية "بنات قبلى"، والكتابات جميعها يربط بينهما خيط دقيق من حيث المشروع الممتد الذى قصد من ورائه ماهر مهران تقديم صورة عن الصعيد الحقيقى، وليس الذى يُقدم فى الإعلام، ذلك المملوء بالمبالغات والتزوير، فهو يكشف من خلال الدواوين المتعددة والروايتين عن الكامن فى النفوس الصعيدية، أى الذى يعرفه الناس ولا يبوحون به، يقصُّونه فى حكايات ليلية على أبنائهم الصغار كى يعرفوا بهذه الحكايات أصدقاءهم من أعدائهم، لكن هذه الحكايات عندما تقع فى قلب أديب شاعر مثل ماهر مهران فهو يصيغها فى شكل أدبى، لذا هى بجانب دورها فى الإبانة والكشف عن نمط الحياة الحقيقى فى الصعيد هى تملك آليات فنية جيدة وقدرة تشويقية عالية.
وفى روايته الأخيرة "بنات قبلى" الصادرة عن قصور الثقافة، يرصد ماهر مهران لظروف المجتمع من خلال نسائه اللواتى يمثلن البوابة التى يدلف منها الروائى المهموم بقضايا مستمرة لا يمكن الفكاك منها، فقط يمكنه الكتابة عنها.
وعلى هذا يصيغ ماهر مهران تجربته من خلال أطر معينة، هذه الأطر تتجاوز دورها الكتابى والفنى وتعمل مثل حزام ناسف يحيط بالشخصيات وبالمكان والحكاية، ومن هذه الأطر:
- إطار الحكاية، والتى لم يحدد لها المؤلف زمنا محددا، لكنه وضع مجموعة من الإشارات يمكن من خلالها تحديد الفترة تقريبا وليس تماما، لأن هذه الإشارات خادعة، فالذى يحدث فى قرية فى الصعيد ربما يكون حدث فى بلدة أخرى قبله بعشر سنوات، وبالتأكيد حدث فى القاهرة منذ خمسين عاما، فوجود سيارة عبود لتركبها العروسة ودخول البنات إلى المدارس فى قرية جبلية فقيرة ربما يضعنا صعيديا فى بداية الثمانينات أو قبل ذلك بقليل، ومن جانب آخر يتم بناء الحكاية على عدة تيمات منها واقع معيش ومنها تاريخ كان للروح الشعبية والسارد الشعبى دور كبير ومؤثر فى تشكيله.
- إطار آخر، هو ذلك الرجل الدموى الذى يبدأ الحكاية ثم يعود لينهيها، وهو الإطار الصعب والمستمر، والذى يتم فى حركة دائرية، فدوره لا ينتهى أبدا، والملاحظ أنه دور مقدَّر على هذا المكان الجبلى الصعب وعلى النفوس التى تعانى من قسوة المكان ومن قسوة الآخرين، وليس مهما الشخص الذى يقوم بهذا الدور الدموى سواء أكان شيخا (فهيم العقيلى) أم طفلا (عبد العزيز)، المهم هو الدور الذى يقوم به، والبندقية المستعدة أن تفرغ ما فى جوفها فى قلبك، يحدث ذلك لأسباب تراها تافهة ويراها هو صلب الموضوع وجوهره، والتناقض بين القسوة المفرطة التى يملكها والرحمة الواسعة التى يخجل من أن يسردها، حيث إنه يفعل الخير سرا كى لا يُتهم بالضعف، هذا التناقض يضع إطارا عاما للتناقض المجتمعى الواسع.
- إطار ثالث يمكن من خلاله متابعة الحكاية وهى شخصية "السعفاء" البطلة التى تحرك الأحداث وتدفعها دفعا ناحية الاشتعال، وهى من أول وجودها الأسطورى الذى تمثل فى حلم رآه الأب، والذى يفسر التسمية الغريبة "السعفاء" ونهايتها الأسطورية المفتوحة المتعلقة بالضياع فى الصحراء، وماهر مهران استغل هذه الشخصية الغرائبية التى ترتبط بالتفكير الأسطورى الذى يمكن أن يجد له صدى فى قرى الصعيد كى يمرر من خلالها الذى يريده من وجع عام، ويمكن ملاحظة أن غرائبية شخصية "السعفاء" تكمن فى تقدميتها، فكل الذى تريده هو أن تقرر مصيرها فى ظل مجتمع متربص بأبنائه.
- إطار رابع يرتبط بالنساء الضعيفات المظلومات، وهذا الإطار يجمع بين الخالة "نعمة" التى مثلت النموذج الجمالى للراوى، والتى فشل زواجها الأول نتيجة تسلط أخت الزوج، لأن "نعيمة" لا تنجب، ثم أصابها الفشل الكلوى فى عز شبابها، لدرجة أن "أطباء المستشفى الجامعى فى أسيوط رفضوا دخولها المستشفى بحجة أن أمرها قد انتهى، وعليها أن تموت على حصيرتها، وفى بيتها، ووسط أهلها بدلا من البهدلة على حد قول الطبيب".. وامرأة أخرى "حسنية بنت عبد النعيم" التى أدانها المجتمع وأقر قتلها، وفى الوقت نفسه لم يسأل عن الفاعل الذى أودى بها لهذا الطريق، وماهر مهران يدين المجتمع الذى يرسم مصائر أبنائه، لكنها ليست إدانة مباشرة بل هو يصبغ هذه الشخصيات بدائرة من التعاطف.
- الإطار الخامس من خلال الرؤية التى يقدمها "الراوى الطفل" والتى يركز خلالها على سمات المهمشين من خلال المكان الفقير والشخصيات الضائعة، وبداخل هذه الرؤية نلمح الآخر الأسطورى فى مقابل الأنا العادى، ففهيم العقيلى فى مقابل الأب، والأم فى مقابل الخالة "نعمة"، والسعفاء فى مقابل الأنا الراوى، فعلى الرغم من روح السعفاء التواقة للفعل، والتى تصنعه أيضا، نجد الراوى المتلقى المشارك فى دور المراقب، حتى ما حدث لحسنية عبد النعيم لم يكن له دور رغم أنه كان يعرف الحكاية، لكن دوره السلبى ظل لم يتغير رغم الأحداث التى تطورت، كانت السعفاء بنت بـ100 راجل فى مواجهته هو الذى قال عنه شيخ الخفر: "دا ولدك باين عليه خواف"، أو كما قال هو عن نفسه "لكن كلما حاولت أن أجرب ذلك كنت أفشل، فعودى نحيل، وذراعاى ضامرتان، وجلدى مكرمش، وقواى خائرة، وحرقان البول يصر على أن يلازمنى، كل ذلك كان يكتب الفشل على محاولاتى".
هذه الأطر هى مجرد مفاتيح يمكن من خلالها الدخول إلى عالم "بنات قبلى" وهذا العنوان بدوره يحمل دلالة مزدوجة، ربما قصد بها بنات "الشق القبلى" من قريتهم، وربما قصد منه بنات الصعيد على الإطلاق، وهى رواية مستمرة لا تنتنهى، لأنها لا تعبر عن مرحلة محددة لكنها تقصد إلى عرض شخصيات ومشكلات قائمة، وهى تمثل حلقة مهمة فى مشروع ماهر مهران الكتابى