ما الذي تريده الأقليات في سوريا؟
عندما يكذب البطريرك
بقلم : ابتسام تريسي
عندما دخل “الرئيس الشرع” حلب فاتحًا وقف العالم على قدم واحدة، ثمة هجمة مرتدة جعلت الجمهور يقف مشدوهاً، وانطلق معظم المحللين الاستراتيجيين في القنوات الإعلامية يؤكدون عدم قدرته على تجاوز خط المنتصف، لكنّه خطف الكرة وانطلق بها منفردًا، ليسكنها بكلّ هدوء في المرمى الدمشقي في شباك قصر الشعب.
كان الجمهور ما يزال يعيش الصدمة، كيف؟ ومن فتح له الطريق؟ تَنزَّلت الفرحة في قلوب الأكثرية كأنّها هبة من الله، خاصة وأنّ الأمر تمّ بأقل الخسائر البشرية الممكنة.
وعندما استيقظ الجمهور من صدمته، بدأت الأصوات تتعالى في غرب البلاد وشرقها وجنوبها، “التقسيم قادم” قال الاستراتيجيون. “سيحولها إلى أفغانستان”. قالها العلمانيون. “نريدها مركزية فيدرالية” قالها القسديون، والشيخ حكمت. “ماهر راجع” قالها العلويون.
الشرع والدولة المدنية
ومع تقدم خطاب الشرع ببناء دولة مدنية حديثة، ومع حرصه على حرمة الدم، ومحاولاته الحثيثة لترسيخ شكل جديد للدولة، بدأت علامات الرفض تتنامى لدى الأقليات، ولدى المتضررين من هذا التحرير، وباتت آليات الرفض تلبس لبوس حق يُبطن باطلاً. إذ لم يستطع فلول النظام احتمال فكرة خسارتهم لمكتسباتهم، حتّى إنّهم لم يستطيعوا تخيّل أن يحكمهم رجلٌ من الأكثرية، فكيف برجل قادم من فكر مُصنَّف عالميًا بالإرهاب! ولم يستطع الكثير من رجالات اليسار استيعاب فكرة أن يتغير الإنسان، ويراجع أفكاره السابقة، حتى وإن صرح بذلك مسؤولون أمريكيون. ولعل المتتبع والمتابع للأحداث يكتشف بسهولة، كيف أنّ هذا الرجل قد تجاوز الكثير من طروحاتهم التي قرؤوها في الكتب، وزاد الأمر شدّة على قلوبهم، أنّه همّش كلّ المعارضين السابقين من جماعة الائتلاف، بالإضافة إلى بقية الشخصيات التي كانت تطمح بمناصب خاصة، متناسين القاعدة الثورية التي يؤمن بها كلّ ثوار العالم، والتي تنص على ضرورة إسقاط المعارضة التقليدية مع إسقاط النظام؛ كي يولد نظام جديد بفلسفة جديدة، وكي لا تعيد المعارضة التقليدية إنتاج النظام ذاته.
محاولة لجعل سوريا دولة موحدة
استطاع الشرع تحييد فلول النظام في الساحل، وكان لا بدّ من وقوع خسائر بشرية حاولوا استثمارها لصنع مظلومية تستدرُّ عطف المجتمع الدولي، لكنّها باءت بالفشل. ومايزال يحاول جمع الأسلحة المُخبَّأة في قرى كثيرة. ويستطيع أيّ متابع اليوم أن يرى نهايات تلك الحركة الانقلابية، وكذلك نستطيع القول إنّ مشكلة قسد تسير إلى نهايتها وكذلك مشكلة المجلس العسكري في السويداء، فالضوء الأخضر الأوربي، والعربي، والأمريكي ينير طريق الحكومة لتوحيد سوريا، وبات التقسيم في خبر كان.
كارهو الشرع
احتاج كارهو الشرع لستة أشهر كانت فيها أحلامهم بالتقسيم أشبه بالحقيقة في أذهانهم، إلى أنّ قرّر الرئيس ترامب رفع العقوبات، فابتلع الكارهون غيظهم، وبدؤوا مرحلة جديدة في محاولةٍ لكسب أكبر قدر ممكن من كعكة السلطة، وفي القريب العاجل سيرفرف العلم الأخضر فوق كلّ شبر من سوريا، لتبدأ معركة الدولة مع الفقر.
لماذا هذه الكراهية؟ ببساطة شديدة يمكن القول إن خسارة المكتسبات تأتي في أولوية الأسباب، فقسد المحكومة بحزب العمال الكردستاني الذي تسلم مواقع الجيش السوري في الجزيرة بكلّ آلياته بأمرٍ من بشار سنة 2012، وعاث فسادًا بالكرد والعرب على السواء، وتاجر بأرزاق الناس قبل أن يتاجر بالنفط، هذا الحزب مُني بخسارة فادحة. وكذلك فلول الأسد، بعد أن كانت البلد تحت سطوتهم وجدوا أنفسهم بلا أسد، وهو ما حصل مع حكمت الهجري الذي آوى كبار مجرمي الأسد، وكبار تجار الكبتاغون، وظنّ أن إسرائيل وإيران سيمدانه بأسباب القوة، لكنه وجد نفسه اليوم محاصرًا، ومهمشًا، فلكلّ منهم أسبابه في الكراهية
ومع بدء الانسحابات الأمريكية من الشمال السوري، وإصرار أمريكا وتركيا والحكومة السورية على تنفيذ الاتفاق الموقع بين قسد والحكومة، بدأ تنظيم قسد يشعر بالخوف الشديد من أن يفقد مكتسباته، وهو الذي يرتكز في شرعيته على محاربة داعش، فأعلن أن داعش تعيد ترتيب نفسها، وتتهيأ لتنفيذ ضربات موجعة في المدن السورية وخاصة دمشق. لم يمض الكثير من الوقت على هذا التصريح حتى حدث التفجير الإجرامي في كنيسة مار الياس في الدويلعة، وذهب ضحيته عشرات السوريين بين قتيل وجريح، بعد يومين فقط استطاعت الحكومة السورية القبض على الخلية المنفذة، وأعلنت أن اثنين منها كانا من المحتجزين في مخيم الهول الذي تسيطر عليه قسد.
بعد التفجير ألقى البطريرك يوحنا اليازجي كلمته التي أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي لما فيها من أكاذيب واضحة، وعبارات طائفية، ولغة استعلائية، فقد ادّعى أنّ هذا التفجير هو الأول من نوعه منذ سنة 1860 متناسيًا أربعين كنيسة مهدمة كلياً أو جزئياً بفعل القصف الأسدي، وموثقة بالاسم، وبحكم علاقته الوطيدة مع بشار الأسد ومجرمي الدفاع الوطني خلال سنوات الثورة، فقد صبَّ جام غضبه وانفعالاته على الحكومة، وعلى
الأكثرية السنية متناغماً مع الكثير من الأصوات الأقلوية من الطوائف الأخرى. ومحملاً الحكومة المسؤولية الكاملة.
لقد بات واضحاً جداً لكلّ متتبع حصيف أنّ المشكلة في سوريا مشكلة سياسية مؤسسة على رفض فطري لدى الكثير من الأبواق الطائفية لحكم السنّة. ربّما ساهم في ترسيخها خلال السنوات السابقة تصريح لوزير خارجية روسيا الذي قالها صراحة وأكثر من مرة، بأنّ روسيا ترفض أن يحكم السنة سوريا، فكيف والحكومة انطلقت من إدلب المحافظة التي وُصمت بالتخلف، والجهل، وبشكل مبرمج خلال حكم الأسدين، حتى بات الأمر مسلمًا به على المستوى الشعبي في كثير من المحافظات السورية. تماشياً مع الرعب المخابراتي خلال خمسة وخمسين عامًا
وتفرقت المصالح ! 🇮🇱 .. 🇮🇷 .. 🇺🇸 ..
من بعد زواج متعة ثلاثي الأضلاع دام 46 سنة وقع خلاف لم تحسب له طهران حساب ولم تضع في اعتبارها خط الرجعة ..
إن حلف الغدر : ( إيران وإسرائيل وأمريكا ) ، ثلاثيٌّ يتقن الخيانة بكافة صورها .. واتفقوا على تقاسم النفوذ في المنطقة العربية ....
في عام 2007 صدر كتاب بالغ الأهمية للباحث الأمريكي من أصل إيراني ( تريتا بارسي ) بعنوان :
“Treacherous Alliance: The Secret Dealings of Israel, Iran, and the United States”
ترجمته الدقيقة ( التحالف الغادر ) الذي يجسد الصفقات السرية بين كل من إسرائيل وإيران والولايات المتحدة ...
( بارسي ) هذا ليس مجرد باحث أكاديمي فحسب ، بل كان مستشاراً في السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ، كما أنه مؤسس ومدير المجلس الوطني الإيراني الأمريكي ( NIAC ) ... وقد استعان في كتابه إلى أكثر من 130 مقابلة شخصية مع مسؤولين سياسيين وأمنيين من الأطراف الثلاثة ، إضافة إلى وثائق دبلوماسية وسجلات رسمية لم تُنشر سابقاً ...
[ العدو الظاهر والحليف الخفي ] ...
... يرى (بارسي ) : أن العلاقة بين إيران وإسرائيل لم تكن يوماً علاقة عداء مطلق كما يُروَّج لها في الإعلام ... بل علاقة قائمة على ( الندية الحذرة والمصالح المشتركة ) ... فخلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات ، كانت إسرائيل هي المزود الأكبر لطهران بالسلاح .. رغم أن الخطاب الإيراني في العلن كان يصِف إسرائيل بـ( الشيطان الأصغر ) ، بل وثّق الكتاب أن 80٪ من الأسلحة التي استخدمتها إيران في الحرب تمّ الحصول عليها عبر إسرائيل ، بتنسيق أمريكي مباشر ، فيما عُرف لاحقًا بفضيحة :
( إيران - كونترا ) ، ليس ذلك فحسب ، بل يشير الكتاب إلى أن إيران في بداية الثمانينات عرضت على إسرائيل استخدام مطاراتها ( وتحديداً في طَبَريز ) في حال قررت شنّ غارات جوية على المفاعل النووي العراقي ، وهو ما يعكس طبيعة العلاقة العملية الوثيقة بين (إسرائيل وإيران ) ، وإن كانت تُغلّف بالعداء الظاهري ،
قواسم طائفية ونفس سياسي مشترك !
يشير ( بارسي ) بوضوح إلى أن إيران وإسرائيل كيانان طائفيان وأقليّان في البنية الثقافية والسياسية للمنطقة ، ويشتركان في هاجس واحد يتركز على تفكيك البنية السنية العربية التي كانت دوماً مركز ثقل للإسلام السياسي والحضاري ...
فالصهيونية والصفوية كلاهما يعاديان الإرث العربي الإسلامي ، وكلاهما يعيد قراءة تاريخ الفتح الإسلامي بوصفه ( خطأً استراتيجياً ) ينبغي تصحيحه .. ولو بعد قرون وذلك بتسخير كافة الوسائل والأدوات المتوفرة والمتمثلة في
( الدولار ، والميليشيات ، والعقوبات ، والصفقات الخفية ) ...
ولهذا فإن العدو الحقيقي بالنسبة لهذين الكيانين يتجسد دونا في ( المشرق العربي بهويته السنية ) ...وهو ما يفسّر الحروب التي أشعلتها إيران في كل من العراق ، وسوريا ، ولبنان ، واليمن ، بدعم ضمني ومباركة أمريكية إسرائيلية في جميع مراحله وتطوره ..
[ ليس عداء بل غدر مؤقت ] ...
حين تُطلق إيران صواريخ على إسرائيل ، لا يُنظر إلى ذلك داخل دوائر القرار باعتباره إعلان حرب وجودية ... بل يُقرأ على أنه ( رسالة تفاوضية خشنة ) ...
وهذا ما يفسّر طبيعة المواجهات بين حزب الله وإسرائيل مثلاً والتي لم تتجاوز حدود ( الضربات الظرفية ) ، وأن التفاهمات بين الطرفين كانت دوماً أسرع من نار القذائف ... فكلّما انسدّت قنوات التفاوض ... اشتعلت الجبهات ... وحين يُعاد فتح القنوات ... يعود الهدوء ولو مؤقتاً ... فالخريطة ليست ثنائية ( عدو - صديق ) ، بل مثلثة الأضلاع : كل طرف يرى الآخر نِدّاً وشريكاً مؤقتاً أو دائماً في إقتسام ( الكعكة ) ..
الغاية المشتركة : تصحيح التاريخ وإعادة تشكيل المنطقة ...
يرى (بارسي ) بوضوح شديد ... أن كلًّا من إيران وإسرائيل تسعيان بطرق مختلفة إلى تصحيح ما تعتبرانه ( خللاً تاريخياً ) وقع في القرن السابع الميلادي ، حين زحف العرب من صحرائهم ، وأسقطوا عرش كسرى وقيصر ، وأقاموا حضارة جديدة نقلت البشرية من عبادة البشر إلى عبادة الله ...
هذا ( الخلل ) حسب المنظور الصهيوني والصفوي ... يجب أن يُصحّح ... لا بالسيوف كما كان في السابق ... بل بالتحالفات الدولية والغدر .. وتفكيك الجيوش العربية ... وتحويل الشعوب العربية إلى شعوب خائفة يائسة ... تبحث عن الخبز لا الكرامة ، وعن الكهرباء لا السيادة ...
الخلاصة :
العداء بين إيران وإسرائيل ليس حقيقياً ... بل غطاء لحلف مصلحي غادر ... يديره الأمريكي ويتقنه الطرفان ...
فالخلاف بينهما ليس على المبادئ ... بل على الحصص ... والمشكلة ليست في سقوط صاروخ هنا أو هناك ... بل في سقوط البوصلة لدى من ظنّ أن ما يجري هو حرب ( حق وباطل ) ... بينما هو في حقيقته مجرد لعبة مصالح لا مكان فيها للصدق ولا للوفاء ،
لا تصدّقوا المسرحية ... فالمشهد أعمق من الدخان .. ( إن العدوّ لا يمد حليفه بالسلاح وقت الحرب ... ثم يُظهر عداوته له في نشرات الأخبار ...)
( مقتبس من كتاب حلف الغدر )
MF 28 / B / 12 _ 3


