العالمُ والمفكر المعروف ابن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ، في كتاب رائع سمَّاه "مداواة النفوس، وتهذيب الأخلاق، والزهد في الرذائل"،
قال في فصل "الأخلاق والسير": "كانت فيَّ عيوبٌ، فلم أزل بالرياضة، واطِّلاعي على ما قالت الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق، وفي آداب النفس، أعاني مداواتها، حتى أعان الله - عزَّ وجلَّ - على أكثرِ ذلك بتوفيقه ومنِّه".
فالكل يتعالج بآداب الإسلام وأخلاقه؛ ومن المؤسف ألاَّ تجد تأثيرًا واضحًا للإسلام على أشخاص، وهم يطبِّقون شعائر الإسلام الظاهرة، لا لشيء سوى أنهم "مرتاحون" مع طبائعهم، ويصعب عليهم التخلي عما تربَّوا عليه، ولو كان ذلك مخالفًا للإسلام، وخاصة في السلوك والمعاملة، يعني أنهم لا يطبقون ما لا يوافق "هواهم".
"فمنها: كلَفٌ في الرضا، وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك، حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام، والفعل، والتخبط، وامتنعت مما لا يحلُّ من الانتصار، وتحمَّلت من ذلك ثقلاً شديدًا، وصبرت على مضض مؤلم، كان ربما أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضا، وكأني سامحت نفسي في ذلك؛ لأنها تمثَّلت أن ترك ذلك لُؤْم".
وهو يعني بعلاج الغضب ما ورد في كتمه من أجر؛ في قوله - تعالى -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
قال: "ومنه عُجْب شديد، فناظرَ عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها، حتى ذهب كله، ولم يبقَ له - والحمد لله - أثرٌ؛ بل كلَّفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع".
يقول - رحمه الله -: "وأما مَن طُبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه، فلْييأس من أن يُصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبدًا، وليعلم أنه لا يفلح في دِين، ولا في خُلق محمود".
ويقول ابن حزم في اعترافٍ من أن الإنسان لا يكون كاملاً؛ نظرًا لنقص فيه أصلاً، ولكن يقدر أن يقلِّل من عيوبه: "لا يخلو مخلوق من عيب، فالسعيد من قلَّت عيوبه ودقَّت".
ويقول: "إذا نصحت فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح، إلا أن يفهم المنصوح بغرضك، فلا بد من التصريح له".
ويقول: "لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه، ولا ينتفع بمعرفته، فهذا فعل الأرذال، ولا تكتمه ما يستضرُّ بجهله، فهذا فعل أهل الشر".
يقول "لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بِمَحْكِ - وهو اللجاجة والمجادلة والمنازعة في الكلام - أهلِ الجهل منفعةً عظيمة، وهي أنه توقَّد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيَّج نشاطي، فكان ذلك سببًا إلى تآليفَ عظيمةِ المنفعة، ولولا استثارتُهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثتُ لتلك التآليف".
حول الغَيْرة، وأنه خُلق فاضل: "أخبرني بعض مَن صحبناه عن نفسه، أنه ما عرَف الغيرة قط، حتى ابتُلي بالمحبة، فغار،
أقول: فإن المرء إذا كره خُلقًا في شخص، فإن فيه أخلاقًا يحبها، فلا يُفْرط في الصدِّ، ولا في القرب، والمعرفة بجمال النفس وعيوبها تورث توازنًا في التعامل معها عند العاقل.
ويقول في الأخلاق السيئة: "الحرص متولد عن الطمع، والطمع متولد عن الحسد، والحسد متولد عن الرغبة، والرغبة متولدة عن الجور والشح والجهل.
ويتولد من الحرص رذائلُ عظيمةٌ، منه: الذل، والسرقة، والغصب، والزنا، والعشق، والمسألة".
و أن "الكذب متولِّد من الجور والجبن والجهل؛ لأن الجبن يولِّد مهانةَ النفس، والكذابُ مهين النفس، بعيدٌ عن عزتها المحمودة".
ويشير إلى دواء نافع لهموم الدنيا، وهو الزهد، فيذكر أن الزاهد إذا نام لا يخشى على شيء مما يملكه، أو يتنافس فيه، فلا يذكر أهلاً ولا منصبًا، ولا فقرًا ولا غنًى، كما يذكر أن من أساليب تأثير الوعظِ الثناءَ بحضرة المسيء على مَن فعل خلاف فعله.
ومما تعجَّبَ منه: قوم غلبت عليهم آمال فاسدة، لا يحصلون منها إلا على إتعاب النفس عاجلاً، ثم الهمِّ والغمِّ آجلاً، كمن يتمنى غلاء الأقوات التي في غلائها هلاك الناس، وقال بعد مزيد من الوصف: "فلو تمنى الخير والرخاء، لتعجَّل الأجر والراحة والفضيلة، ولم يتعب نفسه طرفة عين فما فوقها، فاعجبوا لفساد هذه الأخلاق بلا منفعة".
وفي "مداواة أدواء الأخلاق الفاسدة"، الذي بدأه بلزوم معرفة الشخص عيوبه، وأنه إذا لم يعرفها أو لم يعترف بها، فهو ممتحَن بالعُجب، وأنه بهذا أعظم الناس عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا، ثم ذكر أن مثل هذا ضعيف العقل، عاجز، وأحمق، وأورد أوصافًا أخرى له، تجعله في أدنى المستويات الإنسانية.
ونصح المعجَب بنفسه أن يقارن بين نفسه وبين مَن هو أفضل منه، وأنه بهذا يفيق من الداء القبيح الذي يولِّد عليه الاستخفاف بالناس، وذكَّره بأن فيهم - لا شكَّ - خيرًا منه، قال: فإذا استخففتَ بهم بغير حق، استخفُّوا بك بحق؛ لأن الله - تعالى - يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وأنه يتولَّد في نفسه بهذا أنه أهل للاستخفاف به على الحقيقة، مع مقت الله - عزَّ وجلَّ - وطمس ما فيه من فضيلة.
وركَّز على المعجَبين بعلمهم، وأنه لا ينبغي أن يسخطَ الله على هذه النعمة بهذا الخُلق السيئ، - قادر سبحانه على أن يسلبه منهم بعلَّة،
وفي متابعة لسلوك الناس ومواقفهم في هذا المجال، استنتج أنه: "كلما نقص العقل، توهَّم صاحبه أنه أوفر الناس عقلاً، وأكمل ما كان تمييزًا"، ويقول: إن في هذا شغبًا عجيبًا، فالجاهلُ الناقص يهزأ بالحكماء وأفاضل العلماء، والصبيان الصغار يتفكهون بالكهول ، والسفهاء يستخفون بالعقلاء، وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم.
وذكر أن أحسن دواء لهؤلاء هو الفقر والخمول، ولعلَّه يعني: عدم الالتفات إليهم، وعدم استعمالهم، قال: "وإلا فَدَاؤهم وضررهم على الناس عظيم جدًّا، فلا تجدهم إلا عيَّابين للناس، وقَّاعين في الأعراض، مستهزئين بالجميع، مجانِبين للحقائق".
وإذا أردت معرفة العدل والإنصاف في أمر، فينصحك أن تتوهم نفسك في مكان الخصم، فإنه يظهر لك ذلك.
وإذا كنت تريد العافية؛ و"عدم وجع الرأس"، فهو يدلك على ذلك بقوله: "كم شاهدنا ممن أهلَكَه كلامُه، ولم نرَ قط أحدًا - ولا بلغَنَا - أنه أهلكه سكوتُه، فلا تتكلم إلا بما يقرِّبك من خالقك، فإن خفتَ ظالمًا فاسكت".
ويبدو أن اللقاء بين "المتزاعلين" أفضل من ابتعاد بعضهم من بعض، فهو يقول: "اللقاء يذهب بالسخائم، فكأن نظر العين إلى العين يُصلح القلوب".
ويصنف الأشياء التي تكدر صفو النفوس وتزعجها، وتحيل الحياة إلى حزن، وقلق، ونكد، فيقول: "أشد الأشياء على الناس: الخوف - يعني فقدان الأمن - والهمُّ، والمرض، والفقر".
ويقول في حكمة – بعد كلام -: "وأشد الأمراض كلها ألمًا وجعٌ ملازم في عضوٍ ما بعينه، وأما النفوس الكريمة، فالذلُّ عندها أشد من كل ما ذكرنا، وهو أسهل المخلوقات عند ذوي النفوس اللئيمة".
ويركز على الفضائل الإسلامية باعتبارها أساسية للتكامل النفسي، والحيازة على درجة السعادة في الدارين، من ذلك قوله: إنما ينبغي أن يرغب العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر، التي يستحق مَن هي فيه الذِّكرَ الجميل، والثناءَ الحسن، والمدحَ، وحميدَ الصفة، فهي التي تقرِّبه من بارئه - تعالى.
وقال: مَن جهلَ معرفة الفضائل، فليعتمد على ما أمر به الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يحتوي على جميع الفضائل.
خاتمة:
كان ما سبق قراءة في فكر ابن حزم من خلال كتابه "مداواة النفوس"، التي ركز فيها على العلاج النفسي بالنصوص والتوجيهات الإسلامية؛ فقد بيَّن ضرورة العلاج منها إسلاميًّا، وإلا تفاقم الأمرُ فأضرَّ صاحبُها بنفسه وبالآخرين، كما ذكر في أكثر من موضع أن الاستشفاء منها لا يتأتى بسرعة؛ نظرًا لتوطنها وتمكنها من النفس، وعلاقتها بالطبيعة، وأنه لا بد في ذلك من إيمان، وصبر، وعزيمة، ومتابعة.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
<!--