الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

تنمية الريف.. ضرورة مجتمعية

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

حرصت الدساتير المصرية المتعاقبة منذ عام 1971م على تقرير التزام الدولة بتنمية الريف باعتبار ذلك أحد «المقومات الأساسية للمجتمع». فوفقاً للمادة 16 من الدستور المصري الملغي لعام 1971م، «تكفل الدولة الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية، وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية في يسر وانتظام رفعاً لمستواها». وبالنظر للارتباط بين تنمية القرية والنهوض بها وبين حماية الفلاح ورفع مستواه الاقتصادي والاجتماعي، تنص المادة 37 من ذات الدستور على أن «يعين القانون الحد الأقصى للملكية الزراعية بما يضمن حماية الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال وبما يؤكد سلطة تحالف قوى الشعب العاملة على مستوى القرية». وتجدر الإشارة إلى أن المادة السادسة عشرة من هذا الدستور هي إحدى مواد الفصل الأول من الباب الثاني من دستور 1971م، والمتعلق بالمقومات الاجتماعية والخلقية، بينما المادة 37 تندرج ضمن الفصل الثاني من الباب الثاني من هذا الدستور، والخاص بالمقومات الاقتصادية.

 

أماالمادة 15 من الدستور المصري الملغي لسنة 2012م،فتنص على أن «الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني، وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتعمل على تنمية المحاصيل والأصناف النباتية والسلالات الحيوانية والثروة السمكية وحمايتها، وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير متطلبات الإنتاج الزراعي وحسن إدارته وتسويقه، ودعم الصناعات الزراعية. وينظم القانون استخدام أراضي الدولة؛ بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحمي الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال». وتضيف المادة 16 من ذات الدستور أن «تلتزم الدولة بتنمية الريف والبادية، وتعمل على رفع مستوى معيشة الفلاحين وأهل البادية». وبالنظر إلى موضع هاتين المادتين، يمكن القول بأن دستور 2012م ينظر إلى تنمية الريف باعتبارها إحدى «المقومات الاقتصادية» للدولة والمجتمع، والتي ورد النص عليها في الفصل الثالث من الباب الأول من الدستور.

 

وبدورها، تنص المادة 29 من الدستور المصري الحالي لعام 2014م على أن «الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني. وتلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتجريم الاعتداء عليها، كما تلتزم بتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه وحمايتهم من المخاطر البيئية، وتعمل على تنمية الإنتاج الزراعي والحيواني، وتشجيع الصناعات التي تقوم عليهما. وتلتزم الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني، وشراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح، وذلك بالاتفاق مع الاتحادات والنقابات والجمعيات الزراعية، كما تلتزم بتخصيص نسبة من الأراضي المستصلحة لصغار الفلاحين وشباب الخريجين، وحماية الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون». وقد ورد هذا النص ضمن «المقومات الاقتصادية»، والواردة في الفصل الثاني من الباب الثاني من الدستور.

 

وهكذا، يمكن القول بأن تنمية الريف تشكل التزاماً دستورياً على الدولة، ينبغي عليها أن تتبنى التشريعات وتتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لتنفيذه.ونود أن نلفت النظر هنا إلى أن فلسفة دستور 1971م تفضل نظرة كل من دستور 2012م ودستور 2014م إلى تنمية الريف. إذ يكشف مكان النص على تنمية الريف في دستور 1971م عن النظرة الشمولية لهذه التنمية باعتبارها أحد المقومات الاجتماعية وأحد المقومات الاقتصادية للمجتمع، بينما اكتفى كل من دستور 2012م ودستور 2014م بالنص عليها ضمن المقومات الاقتصادية فحسب.

 

في المقابل، جاء دستور سنة 1923م خلواً من أي نص يقرر التزام الدولة بتنمية الريف. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة لم تكن غائبة عن أذهان صانعي القرار آنذاك، حيث عمدوا إلى تنمية المحافظات الريفية ونشر الثقافة في مختلف ربوع الدولة المصرية. وللتدليل على ذلك، نرى من الملائم الإشارة إلى دار أوبرا دمنهور، والتي تم تشييدها في الثامن من نوفمبر سنة 1930م، على غرار أوبرا القاهرة. ويعد مسرح وأوبرا دمنهور تحفة معمارية تقوم على المزج بين الطراز الأوربي وبين العناصر المعمارية الإسلامية.ولكن، وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، تدهورت حالة المسرح خاصة من الناحية الإنشائية، فقد أدى عدم إجراء أعمال الصيانة والترميم الدورية للمسرح مع سوء الاستخدام إلى ظهور العديد من المشكلات الإنشائية أهمها تدهور وتحلل الخرسانة المسلحة لأسقف المسرح، وانهيار جزء كبير من قبة صالة المسرح، كما أن ارتفاع منسوب المياه الجوفية وتسرب المياه إلى ممرات المسرح قد أثر على حالة الأساسات بالكامل.وإزاء هذه الحالة المزرية التي كان عليه المبنى، أغلق المسرح وتوقفت جميع انشطته التي كانت تمارس عليه وأصبح المسرح في حالة يرثى لها، إلى أن قامت وزارة الثقافة بترميمه وتزويده بأحدث وسائل العرض والإضاءة ليواكب أحدث مسارح مصر والعالم، وأعيد افتتاح دار أوبرا دمنهور في 7 مايو 2009م. من ناحية أخرى، شهدت سنوات الستينيات من القرن الماضي انتشار قصور الثقافة في كافة أقاليم مصر، وكان حضورها طاغياً من خلال تبني العديد من المواهب في الأدب والشعر، وقدمت لمصر الكثير من الفنانين والأدباء وأثرت الحياة الثقافية. ولكن، حدث مؤخراً أن تحولت هذه القصور إلى بيوت أشباح.

 

والواقع أن تنمية الريف يشكل ضرورة مجتمعية ومفترضاً أساسياً لفكرة الأمن القومي. فالتفاوت الشديد بين الريف والحضر يسهم في زيادة حجم الهجرة من الريف إلى المدن، الأمر الذي يشكل عبئاً إضافياً عليها. كذلك، فإن التفاوت الثقافي بين الريف والمدن قد يخلق نوعاً من الصراع الثقافي بين أهل الريف وساكني المناطق الحضرية. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نشير إلى التفاوت الكبير في اتجاهات التصويت بين المحافظات الريفية والمحافظات الحضرية في أول انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. كذلك، يشير علماء الإجرام إلى تنازع الثقافات باعتباره أحد العوامل المفسرة للظاهرة الإجرامية.

 

وتنمية الريفلا يمكن أن تتم من خلال التنمية الاقتصادية فحسب، وإنما ينبغي أن تمتد إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية، من خلال نشر قصور الثقافة ودور المسرح والمكتبات. وفي هذا المقام، أود التأكيد على ضرورة تفعيل المادة 48 الفقرة الأولى من الدستور الحالي لعام 2014م، والتي تنص على أن «الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك. وتولي اهتماماً خاصاً بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجا».

 

وفي الختام، وإذا كانت النصوص الدستورية آنفة الذكر تعبر عن مدى اهتمام الدولة المصرية بتنمية الريف، إلا أن تفعيل هذه النصوص ووضعها موضع التطبيق الفعلي يستلزم تدخل البرلمان من خلال إصدار القوانين التي تتناول بالتفصيل آليات ووسائل التنمية الريفية. وفي هذا الصدد، نرى من واجبنا أن نلفت النظر إلى بعض التشريعات المقارنة، مثل القانون البريطاني بشأن المجتمعات الريفية والبيئة الطبيعية لسنة 2006م، والقانون الجزائري رقم 08-16 بشأن التوجيه الفلاحي والصادر في 3 أغسطس 2008م.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 132 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2015 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

154,638