مقام الخضر
هاشم غرايبة
الراصد لنشوء التجمعات البشرية الأولى يلاحظ تلازم ثلاثة مرتكزات مكانية يتكرر حضورها في كل تجمع حضري تقريبا، وهي: 1- مصدر الماء مثل بركة ماء، أو نبع ماء ''العين''، أو البئر الكبيرة.. 2- المقدس مثل قبر ولي أو شيخ، أو شجرة مقدسة، أو مغارة ناسك متعبد.. 3- الساحة العامة مثل ميدان السباق، أو ساحة الأفراح، أو تل مميز.. في مدينة اربد على سبيل المثال ''التل'' الذي يكتنز في جوفه طبقات من الأثار وعبق التاريخ أقيم على بعض أنقاضها مبنى البلدية الحديث، وكان هناك بركة رومانية كبيرة أقيم فوقها مجمع باصات الأغوار، وكان فيها ''ساحة الأفراح''، التي صارت سوقا للخضار ''الحسبة''، وكان فيها ''مقام الشيخ خليل'' الذي سمي مجمع باصات عمان القديم باسمه ''مجمع الشيخ خليل''. في حواره كما في كل قرية أردنية ثلاثة معالم رئيسية، هي ''مقام الخضر''، و''البركة''، و''الساحة''.. ''الساحة'' زحف عليها العمران، وقضمها الجيران بالتراضي عندما ثبتت دائرة الأراضي سندات ملكية ''جدر البلد''. ''البركة'' طمرت وأقامت وزارة الاتصالات على أرضها مكتب البريد الذي آلت ملكيته إلى القطاع الخاص.. وبقي ''مقام الخضر'' قائما بحجارته البازلتية الضخمة، ونقوشها الجميلة، وظلت ''الحجة نعمة'' رحمها الله توقد سراجه بزيت الزيتون كل ليلة، وترعى كسوته الخضراء كل سنة. عند الخضر كنا نلعب دون أن يزجرنا أحد.. عند الخضر كانت تنتهي مسيرات الغيث، ونحن ننشد: '' يالله الغيث يا ربي تسقي زريعنا الغربي''، وعلى بابه كنا نحن الأطفال نغرس راياتنا المبلولة بالماء، زارعين رجاء أهلنا على عتبته.. كان قوس بوابته يخضب بالحناء في ''ليلة الحناء'' لكل عريس وعروس في حواره، وإلى ''مقام سيدنا الخضر'' كان يلجأ ذوو الحاجات ليعلقوا على حجارته أمانيهم شرائط من ملابسهم، وينثروا حفنات قمح هدية من غلتهم للطيور التي تأوي لحمى ''مقدسهم''، وإلى سراجه كانوا يحملون حفنة من زيتهم ليتبارك موسمهم. توفيت ''الحاجة نعمة''، ولم يعد الأطفال يخرجون في مسيرات طلب الغيث، ولم يعد العرسان يحفلون بالحناء، وغابت حبات القمح عن ساحته، وانطفأ سراج الخضر، ولم يعد أهالي حواره يتوقفون للسلام على سيدنا الخضر عليه السلام، وهم في طريقهم إلى المقبرة القديمة لقراءة الفاتحة على أرواح الأجداد صباح كل عيد.. ونمت بين حجارته الأشواك، وأحاط به الصبار والقريص.. لكن ذلك كله لا يبرر قيام البلدية مؤخرا بتجريف حجارته الضخمة، وإزالة كل أثر لمقام الخضر من ذاكرة أهالي حواره! كان الأحرى بالمسؤولين الحفاظ على مقام الخضر ودراسة آثاره، قد لا تجد الدراسات علاقة بين الخضر عليه السلام وهذا الأثر التاريخي..
لكنه في كل الأحوال ثروة من ثروات الوطن التي ربما حملت حجارته ونقوشها الجميلة سرا ولو صغيرا من أسرار إقامة البشر على هذه البقعة من الأرض! عندما أتحدث عن مقام الخضر في حواره أتذكر مقام الشيخ ارشيد في الرمثا، ومقام العنقي في الصريح وشجرة القينوسي على طريق دير أبي سعيد، وشجرة الصفاوي في الصحراء الشرقية، ومقام أبي النمل في أم قيس.. وغيرها من الأماكن التراثية، و''المقدسات الشعبية'' التي شكلت حضورا هاما في حياة أجدادنا وذاكرة أجيالنا.. في الذاكرة الشعبية مخزون حقيقي لأماكن لها أهميتها التراثية، أو التي لها قداستها الشعبية، وشكلت مزارا، أو معتقدا شعبيا في وقت من الأوقات، لكنها ما عادت اليوم تشكل تأثيرا حقيقيا على جوهر الدين.. وإن صحت الرواية بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع شجرة الرضوان، فإن من حقنا الاجتهاد كما اجتهد عمر، خاصة وأن ذات الأسباب لم تعد قائمة، ومن واجبنا استنهاض الهمم من أجل الحفاظ على موروثنا الشعبي وأماكننا التراثية، والعمل سريعا على حمايتها من الذين يطلقون نيرانهم على الماضي القريب بلا تبصر، و إصدار تشريع خاص لصيانتها من سطوة القرارات المتعجلة والجائرة.
ساحة النقاش