هدير الصمت

هذا الموقع معني بـ: قصص ، رواية، نقد ، مقال سياسي ، مقال فلسفي ، شعر

<!--

<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

 

البناء الملحمي وتأثيرات الأدب الشِّفاهي

دراسة لمسرحية "دياب ملكا" لمحمد نصر ياسين

عبدالجواد خفاجي

 

من المعروف أن المسرح الأرسطي يقوم أساساً على فكرة المحاكاة والتوهم، حيث يجد المشاهد أمامه عالما من الوهم، يتحد معه، منصرفا عن التفكير في القضايا السياسية والاجتماعية والسياسية مكتفيا بالمشاهدة، وهو يعيش حلما مؤقتاً لا يتحرك نحو الحياة وقضايا الواقع بشكل موضوعي.

وعلى الرغم من أن المسرح الأرسطي يهدف إلى تقديم صورة لما يحدث في الواقع  من خلال ما يقدم من موضوعات إلا أنه لا يهدف إلى منح المشاهد فرصة للتفكير فيما يُعرض عليه على خشبة المسرح وهو يعرض عليه صورة أمينة لواقع الحياة؛ ليوهمه بأن ما يراه إنما هو حقيقة، بقدر ما يهدف إلى أن يثير في نفس المشاهد مشاعر الخوف أو الشفقة على بعض الشخصيات متعاطفا معها واضعا نفسه موضعها أو متوحدا معها، فيخرج مرتاح النفس متجدد النشاط وقد تطهر، وهو يرى شخصياته التي توحد معها قد انتصرت أو نجحت وانكسر أو انهزم ما كان يهددها أو يقهرها من شخصيات أخرى نقيض.

ولذلك ينبني المسرح الأرسطي على عرض حدث متنامٍ، ممنطق، مترابط، من خلال سلسلة أحداث متتابعة في تطورها تتخذ خطاً مستقيماً له ذروة، يقوم به أشخاص هم جوهر ثابت في بناء المسرحية إذ يعتمد الحدث أساساً على الشخصية ودوافعها ومراميها.

على النقيض من ذلك يأتي المسرح الملحمي ليجْهِز على فكرة التطهير تلك، هادفاً إلى كسر الإيهام ، بغرض خلق مسافة بين المشاهد والشخصية، والحيلولة دون توحده بها، وهو يعيد تصوير العلاقة بين الشخصيات على أساس أن كل شخصية ما هي إلا وحدة متناقضات، كما أن الحدث لا يقدم دائما من خلال الشخصيات، فكثيراً ما يحل الراوي على المسرح وتختفي الشخصيات ليقوم الراوي بسرد تفاصيل حكائية كثيرة قبل أن يجلب الشخصيات مرة أخرى، غير أن الشخصيات نفسها لا تتوالى الظهور بشكل متتابع، فكثيراً ما تختفي شخصيات لتحل أخرى مقدمة أحداثا أخرى تبدو منفصلة عما سبقها، ومن ثم لا يجد المشاهد فرصة للتوحد مع شخصيات المسرحية الذين يختفون نهائيا ليحل غيرهم، أو ليظهروا مرة أخرة فيما بعد بشكل غير متوالي.

إن الشكل الملحمى لا يكشف عن شخصيات ولا يعقد عقدة مسرحية، بل يروى ويسرد قصة تتطور في منحنيات أو دوائر ، تمثل كل دائرة قفزة في الزمن، ولذلك ليس من الضروروري أن يكون عنصر الزمن ممنطقاً ومتواليا ومتتابعا، وليس بالضروروة أن يكون العرض مترابطاَ، بل يأتي مفككاً ليقوم المشاهد بإعادة تجميعه، بيد أن القصة هى التى تستلفت النظر وهى التى يتحتم عليها أن ترشد الممثلين وتهديهم كما ترشد المشاهد وتهديه. من ناحية أخرى لا تبسط المسرحية الملحمية حدثا كبيرا واحدا، بل تحبك عديدا من الأحداث الصغيرة التى تلقى الضوء على موقف ما، ومن زوايا مختلفة، ومن خلال تلك الشكلية البنائية ينكسر الإيهام أو يحدث التغريب بين المشاهد والمعروض ، ومن ثم لا مجال لمطالبة المؤلف بوحدة الموضوع أو الحدث أو البناء الدرامي الموحد للمسرحية، أو الصراع المركز بين طرفيه أو الشخصيات المحددة الأبعاد.

ولعل الغرض من كسر الإيهام هو إثارة فكر وعقل المشاهد بحيث يظل على مسافة من الأحداث والشخصيات لكي يمكنه التفكير فيها، وإعادة إنتاجها والربط بين إجزائها وفق تصوراته ، وكأنه شريك مساهم في إنتاجها، من جهة أخرى فإن السمافة الفاصلة بينه وبين الشخوص والأحداث تسمح له بممارسة التفكير النقدي فيها، ومن ثم يتحول المشاهد السلبي المتوحد، إلى مشاهد بناء يساهم في النقد البناء والتفكير النقدي، ليتحصل المدلول السياسي للحكاية المطروحة.

ولعل من أهم عناصر المسرح الملحمي: البناء المفكك للمسرحية أو تقطيع العمل الدرامي إلى أجزاء، والتأرخة، وتوظيف الأدب الشعبي الشفاهي، والراوى والبنية غير المركزية للشخصية والاستعانة بالكورس والقناع والموسيقى والإضاءة والقناع وغير ذلك، في محاولة لخلق حالة التغريب أو كسر الإيهام الذي يعني به المسرح الملحمي بغرض هدم الجدار الرابع الذي يفصل الجمهور عن المسرح.

 

********

 

 

وانصياعا لهذا الشكل الفني أتت مسرحية "دياب ملكاً"  منبنية على عرض قصة، منبتة من سيرة"بني هلال" في حروبها مع "الخليفة الزناتي" ملك تونس، ولعل إحادث عودة دياب ومواجهته الخليفة الزناتي وإعلان انتصار بني هلال بعد مصرع الزناتي وتنصيب دياب ملكا على تونس هو خاتمة سيرة بني هلال.

ولعل اعتماد المسرحية على سيرة بني هلال يتجاوز التاريخ والأحداث إلى لون آخر فني هو الأداء اللغوي نفسه، أو بالمعني الاعتماد على نفس الأداء الفني الشعبي للسيرة الهلالية، حيث الشاعر الشعبي الذي يعتمد على الأداء الشفهي الشعري، ليقوم بأدوار مختلفة منها  رواية الأحداث والتعليق عليها من خلال السرد الذي يعتمد على المربعات الشعرية ، أو النثر المسجوع بغرض إحداث التطريب، أيضاً استحضار الشخوص وتقديمهم للجمهور والنطق بما نطق به الشخوص أثناء حواراتهم وسجالاتهم.

مسرحية "دياب ملكاً" تعتمد على نفس الأدوات الفنية لدي الشاعر الشعبي من حيث اعتمادها على الرواية كأساس في بناء المسرحية، ليقوم الراوي بوظيفة الشاعر الشعبي من حيث الأدوار، أو من حيث الأسلوب المتنوع بين المربعات والنثر المسجوع أحياناً، الفارق الوحيد أن الراوي هنا يسمح للشخوص بالتواجد أحيانا والتعبير عن أنفسهم أمام الجمهور بدلا من نقل الحوارات عنهم، وإن اتسمت طريقته بالدكتاتورية التي أهلته لأن يكون راوية مستبداً يعطي للشخوص مساحة ضئيلة أو فرصاً قليلة للتواجد بعيداً عن الفعل الدرامي ـ كما سنرى ـ ليبقى وحده مهيمنا على الأدوار ليحولها إلى سرد، وليتحول الحدث إلى لغة تماماً على طريقة الشاعر الشعبي وهو يحول الأحداث إلى لغة سمعية سردية تعتمد على أسلوب الشعر.

ولعل السيرة الهلالية توفر لوحدها عنصرين من عناصر المسرح الملحمي، ففضلاً عن كونها أدباً شعبياً يسير عبر الأجيال المتوالية ، إلا أنها تتوفر على بعد تاريخي بجسد مرحلة من مراحل الصراع بين الخلافة الفاطمية والعباسية في فترة ضعف الخلافتين معاً، كان بني هلال مع بعض القبائل العربية الأخرى من بني سليم ورباح والأثبج ودريد محطة تتلاقي عندها رغبتان ، أولاهما رغبة هذه القبائل في هجرة موطنها في نجد نحو تونس خروجا من حالة قحط تمر بها ممتثلة لدوافع اقتصادية ملحة، ومنصاعة ـ في نفس الوقت ـ  لدوافع دينية تبرر غزو تونس التي استجاب حاكمها لرغبة ثورة شعبية هناك وأعلن الخروج عن المذهب الشيعي والتنصل من الولاء للقيادة الفاطمية في مصر، وإعلان ولائه للخلافة العباسية السُنيَّة، ليس هذا ما أغضب القبائل الحجازية تحديداً، بل قتل العرب الأشراف الذين يعلون من فكرة الولاية والولاء لآل البيت.. أما ثاني الرغبتين فهو رغبة الخلفة الفاطمي في القاهرة في تأديب حاكم تونس وأهلها لخروجهم عن الدولة الفاطمية والانضواء تحت لواء الخلافة العباسية في بغداد وتنصله من المذهب الشيعي وقتل العرب الأشراف في تونس.

تحرك القبائل الحجازية إذن كان وراؤه أهدافا اقتصادية ودينية وسياسية ، ومحققا لطموحات ورغبات كل من القبائل الحجازية والخلافة الفاطمية التي سمحت لها بالعبور إلى تونس بل وشجعتها على التحرك من موطنها نجد، وأمدتها بالعون المادي واللوجستي لتحقيق أهدافها.(1)

 ليتحول هذا التاريخ إلى سيرة تنمو وتسير مع الزمن وتتناقلها الأجيال، ولتحتفظ الذاكرة الشعبية بجزء عزيز من تاريخها، ولتعاود تذكره وهي تصغي إلى سير الأبطال وقصص البطولة والفداء ولتستعيد الذاكرة الشعبية القيم الاجتماعية التي حكمت الصراع السياسي والديني والحربي التي مهدت للانتصارات.

  مسرحية دياب ملكاً تعتمد بشكل أساسي على أخر محكات الصراع ، مع القيادة التونسية بزعامة الخليفة الزناتي، حيث تنتهي القصة بانتصار الهلالية والزغابة، على خليفة الزناتي مصروعاً  على يد "دياب ابن غانم الزغبي" الذي عاد من منفاه ليواجه خليفة الزناتي الذي حقق انتصارات متوالية على بني هلال وأفشى فيهم القتل مستغلا غياب أبي زيد الهلالي الذي حال المرض بينه الاشتراك في الحرب .. يعود دياب بن غانم ليحول الهزيمة إلى نصر، ويقتل خليفة الزناتي محققا حلم العرب في الانتصار على عدوهم والثأر لقتلاهم، وليدخل الهلالية تونس، ويعلن دياب نفسه ملكاً على تونس.

   المسرحية بهذه الكيفية القصصية تثير أسئلة مبدئية سوف تكون الدراسة معنية بالإجابة عنها في مسيرة تحققها: هل نحن أمام شكل من أشكال توظيف التراث، أم أنه استدعاء التراث لأغراض فنية ورؤيوية؟، أم أن الأمر بعيد عن هذا وذاك، لنقل إننا أمام لون من ألوان إعادة ضخ التراث كما هو وإن تلبس شكلية جديدة؟

في يقيني أن الأمة بحاجة إلى إحياء فكرة البطولة من جديد، خاصة مع توالي هزائمها، على غرار ما حدث مع بني هلال في صراعهم مع خليفة الزناتي، مع تولى زعامة الأمة زعماء ليس بمقدورهم صنع النصر، وصون الكرامة، وحماية الأمة، والثأر لشهدائها الذين ضحوا بأرواحهم في مضمار البطولة أو الذين راحوا غدرا على أيدي الأعداء.

إن السيرة الهلالية سيرة غنية بنماذج البطولة والفداء والتضحية، وقد برز فيها أبوزيد الهلالي بطلاً قادراً على صنع انتصارات قومه، لولا أنه سقط مريضاً في آخر محكات الصراع، ليتوالى بعده الأبطال واحداً إثر آخر مستعدين ومحاولين لكنهم كانوا يسقطون غدرا أو هزيمة، تحت قيادة رجل لم يشارك في الحرب ولم يواجه عدوه مكتفيا بالحزن على القتلي وممارسة التحسر والحيرة، غير أنه لسبب أو لآخر ينفي البطولة ويستبعدها عن الحرب، فدياب لم يكن منفيا إلا بأمره، لكن تدارك بني هلال أمرهم في الوقت المناسب من تاريخ الصراع، وأمام حالة من الحزن والخوف الشديدين ، تتحرك الهمم والقرائح ويُجمع أهل الرأي والمشورة على ضرورة عودة البطولة المستبعدة إلى مسرح الأحداث لتقود الأمة إلى النصر، ثم ليحكم المنتصر هذه الآمة ويتنحى العاجزون والفشلة.

 إن مصير الأمة ليس مجالا لرهانات الخاسرين والفاشلين والعاجزين من الزعامات المكذوبة أو المتوهة، فالزعامة ليست عماً أو إدعاءً ، وليست هبة وليست وراثة وليست اغتصابا، إنها صناعة يدوية تتجسد في صنع النصر لهذه الأمة المهدرة كرامتها، وما أحوجنا إلى نموذج البطل المخلِّص، وإلى قيادة قوية منتصرة، وما أحوجنا إلى أن نسأل أنفسنا: ما هي اشتراطات الزعامة الحقيقية، ومن هو الزعيم الحقيقي الأحق بالحاكمية؟.

في تلك الأجواء الرؤيوية يمكننا أن نتلمس نصاً مسرحياً ينتهي بنا عند عودة البطل الأجدر بكرسي الحكم، ولكن ومع تقديرنا العظيم لهذا المضمون، هل حافظ النص الذي بين أيدينا على هذه الفكرة أم حطمها في الطريق؟

وإذا كان النص الذي أمامنا يعيد إلى أذهاننا فكرة البطولة والحاكمية وارتباطهما في قيادة واحدة متمثلة في شخصية دياب، فما الذي أضافه إلى السرة الهلالية التي تحفظ لنا نفس الفكرة وتجسدها أمامنا في أدبيات شفاهية متوارثة، هل هناك إضافة في يطرحها المؤلف أم أن الأمر اكتفاء بالتذكير وإعادة ضخ نفس الفكرة من جديد في ثوبها القديم، أم أن الأمر اكتفاء بإعادة مسرحة جزء مهم من السيرة الهلالية لتقفز من فم الشاعر الشعبي الجوال إلى خشبة المسرح؟

ثمة اسئلة من هذا النوع تنطرح في طريق الدراسة، وأرى أننا ملزمون بالإجابة عنها.

 

********

 

 

البنية المسرحية:

                 لا تعتمد المسرحية على تجسيد أحداث القصة فقط، بل تعتمد التجسيد والرواية معاً، فتارة يسرد الراوي الأحداث، وهذا هو الغالب في النص، وتارة تعتمد على تجسيد الأحداث من خلال الشخوص وهذا هو المتنحي في النص أمام سطوة الراوي السارد، ومن أجل عرض تلك القصة ـ التي سبق الإشارة إليها ـ أتى الشكل المسرحي مجزءاً وفق الترتيب التالي:

 

أولا: ديوان الحرب ، ويشمل:

1 ـ مجلس الخفاحا عامر

2 ـ مجلس القاضي بدير

3ـ مجلس الزغابة

 

ثانياً: ديوان الانتصار، ويشمل:

1 ـ مجلس سُعدى ومرعي

2 ـ مجلس العلاَّم

3 ـ مجلس الخليفة الزناتي.

 

ثالثاً : ديوان الملك ، ويشمل:

1ـ مجلس اليتامي

2 ـ مجلس المنفى

3 ـ مجلس دياب بن غانم

 

فالملاحظ أن المسرحية مجزأة إلى تسعة مجالس هي على التوالي مجلس الخفاجا عامر ، مجلس مجلس القاضي بدير ، مجلس الزغابة ، مجلس سعدي ومرعي، مجلس العلام،  مجلس الزناتي خليفة،  مجلس الياتامى ، مجلس المنفى، مجلس دياب بن غانم .

 وإن كان الكاتب قد قسم هذه المجالس إلى ثلاثة دواوين على أساس موضوعاتي هي: ديوان الحرب، وديوان الانتصار، وديوان الملك، ويختص كل ديوان بثلاثة مجالس على التوالي، وكأنه يلفت إلى تدرج القصة من الحرب إلى الانتصار إلى تنصيب دياب ملكا على تونس.

ولعل هذه الاستدراج الموضوعاتي ينطوي على خدعة لأننا في الحقيقة أمام حرب وانتصارين لأن الديوان الأخير هو أيضاً ديوان انتصار لبني هلال، كما أن الديوان السابق له هو ديوان انتصار للزناتي خيلفة، ومن ثم فإن المسرحية كلها تنطوي على حرب بين أهل تونس بقيادة الزناتي خليفة وقد انتصر أولاً، وبين بني هلال بقيادة السلطان حسن الهلالي، ومع ذلك لا تبدو المسرحية ذات بنية درامية متصاعدة نحو ذروة ما بل نحن أمام بناء مفكك يمكن إعادة تجميعة في إطار موضوعاتي وقصصي من خلال عقل المشاهد.

 فإذا كان المجلس الأول هو مجلس توالي الحرب بين الزناتي وبني هلال والزغبة بما يصح معه إعادة تسميته بيوميات الحرب، فإن الديوان التالي له يخلو من التراتبية الزمنية، بل ومن ترتيب الأحداث وتراتبيتها ، لينهدم تماما عنصر الزمن الطولي الذي حكم الصراع في الديوان الأول إلى بناء زمني أخر يعتمد على القفز في الزمن. من جهة أخرى نلاحظ أن الديوان الثاني( ديوان الانتصار) ومهما بدا أنه مترتب على نتيجة الحرب في الديوان الأول، إلا أنه يبدأ بمجلس سعدى ومرعي وكل واحد منهما ينتمي إلى معسكر من المعسكرين المتحاربين، وهما يتبادلان مشاعر الحب ويهجسان معا بالمستقبل ويحلمان بالسلام والوفاق بين المتحاربين حتى يتمكنا من الارتباط ببعضهما في علاقة زواج كأي زوجين متحابين، وكأن الديوان الثاني يصرفنا تماما عن الحرب والصراع الدائر وينسفه من مخيلتنا وهو يحطم توقعاتنا بأننا سوف نشاهد تطورا للصراع الحربي الدائر.

كيف انتهى مجلس الحرب بالانفتاح على مجلس الحب في الدديوان الثاني؟ ثم ينتهي مجلس الحب لينفتح المشهد على مجلس العلام الطامع في سعدى وفي السلطة والقصر وأموال الخليفة. ورغم أنه يوسط العَمَّة بينه وبين أخيها الزناتي لتكشف العمة عن نواياها هي الأخرى وتبدأ في مساومة العلام والاتفاق معه على نصيبها من السلطة والثروة حال نجحت مساعي العلام. لنكتشف أننا أمام تراتبية جديدة هي: (الحرب .. الحب .. الطمع )، وليأتي الحب محاصراً بين شهوة القتل والانتقام من جهة وبين الطمع والرغبة في السلطة من جهة أخرى.

لعلها محاولة تحويل سير المعارك والانتصارات والزهو بها إلى معادلة جديدة تلفت إلى النفس الإنسانية التي تزخر بالحب مثلما أنها تزخر بالكراهية والبغضاء والشر، وإمكانية أن نختار الحب ليكون بديلا عن العلاقات الشريرة، هذا الحب الذي لا يعرف الحدود والمحددات العرفية والسياسية وما تفرضه من حروب وعداوات، لقد نشأت علاقة الحب بين قلبين أحدهما قلب مأسور من بني هلال، والآخر قلب ينتمي إلى المعسكر المعادي الآسر.. ترى لو نجحت هذه العلاقة بين سعدى ومرعي، كيف كانت ستؤثر إيجاباً في معادلة الصراع بين المعسكرين؟ وهل كانت العداوة والحرب ستستمران؟

ترتيب المجالس إذن يمكن أن يفتح إذهاننا على معادلات أخرى وعلاقات أخرى تسير عكس سير الحروب والانتصارات وتطورها، وتفتح أمامنا ممكنات إنسانية بديلة مناسبة للحياة الإنسانية.

وقبل أن نعرف أو نتوقع نهاية للعلاقات والنزعات والأهواء عند كل من سعدى ومرعي والعلام، ندخل إلى مجلس الزناتي وطقس الانتصارات والتهانئ والزهو والفخر لنودع معسكر الهلالية تماماً حيث خلا الديوان الثاني من بني هلال وأحلافهم تماماً فيما عدا مرعي الأسير، وكأن الحرب انتهت تماماً واندحر بني هلال . إلا أن الديوان الأخير وهو ديوان استعادة الكرامة والتحضير للحرب النهائية التي ينتصر فيها بن هلال يبدأ باليتامي ، ولا يبدأ بالحرب أو الاستعداد لها، وإنما يبدأ بمشاعر الأسى وما خلفته الحروب من مآسٍ إنسانية حيث الآرامل والثكالى والأيتام والمناحات تعبئ المشهد أمامنا. لكأن المَشاهد تجرفنا بعيدا عن الصراع إلى نتائج الصراع وآثاره السيئة، وتبعدنا عن أي تطور درامي للصراع الحربي وما ننتظره على صعيد الحرب لتدخل بنا في معادلة نقيض لذلك الذي نتوقعه.

غير أننا ومن خلال ديوان الحرب وما شاهدناه من غلواء في القتل من جانب الزناتي، مع ظهور الرغبة في الحب والسلام في معسكر الزناتي نفسه عند ابنته، ومع رفض الزناتي مباركة هذه المشاعر النبيلة واستهجانها تنكشف الحاجة إلى وضع نهاية لهذا الزناتي الذي تحول من عدو لبني هلال إلى عدو للحب وللطفولة وللنساء ومخلفا لمآسي إنسانية يحتفل بأنه صانعها ويفتح قصره لاستقبال المهنئين له.

تراتبية المجالس إذن تسير بنا في اتجاه إنساني لتصنع مسارها في اتجاه مغاير لما يمكن أن نتوقعه ونحن نبدأ في مشاهدة مسرحية أساسها الصراع الحربي لنجد أنفسنا أمام حضور إنساني يصنع خيطا موازيا آخر لقصة الحرب، وكل مجلس ينفتح في ديوان من الدواوين بدلا من إذكاء صراع الحرب إلى الأمام نحو عقدة درامية مفترضة نجده يسير عكس هذا التطور ليهدمه في الاتجاه المضاد.

 

بنية الشخصية:

            يعتمد البناء المسرحي في نقل الأحداث و تجسيدها على الشخصيات التالي:

ـ الراوي: وهو متواجد بصفة أساسية في الدواوين الثلاثة وفي كل المجالس التي اشتملت عليها، ويتمتع بصلاحيات واسعة وأدوار عدة، منذ البداية وحتى الخاتمة، إذ يبدأ بمهمة أولى وهي التمهيد لظهور الشخصيات والأحداث، والتعليق واستخلاص العبرة وإطلاق الحكمة، وتقديم الشخوص ، والسماح لهم بالتواجد والحركة، مبتدئاً على عادة الشاعر الشعبي الذي يروي السيرة الهلالية، بالصلاة على النبي، والتسبيح لله وحمده، والتذكير بعظمته وقدرته ومشئته، منوعا أسلوبه بين الشعر الشعبي الذي يعتمد اللغة العامية أساساً له، أو الأسلوب النثري المسجوع الفصيح الذي يقترب من مستوى اللغة العامية من حيث في الصيغ والأساليب والمفردات، مثلما نقرأ في بداية النص:

أول كلامي أسبح الرحمن ** خلق الســــما والأراضي

نوره في الســـــما بـــــان ** وحكمه ع الخلق مـاضي

وأصلي على نبيّ الهــدى ** محـمـــد بــــن عـبـــدالله

ضميني يــوم الـفـــــــــدا ** مـالـــي شـــــفيع ســــواه

ثم ينتقل إلى النثر:

" يا ليل يا عين أه ، اشكو لمن رفع السما بلا عمد العزيز العالي في سماه. هو الواحد الأحد له السلطان والجاه، يا ليل يا عيني آه . لما دقت طبول الحرب، التقى الفريقين بين الطعن والضرب . برز الزناتي في الميدان، وطلب مبارزة الفرسان، فبرز له حسن السلطان، والتقوا البطلين كأنهم جبلين ... إلخ"

 وسوف نفرد جزئية لدراسة الراوي وتجلياته والإشكاليات التي تنطرح جراء وضعيته.

ولعل لغة الراوي وانتقاله من مستوى لهجي شعري إلى مستوى فصيح مسجوع هو لون من ألوان التغريب يحول بين المشاهد وبين الخضوع للنمط الواحد الذي يمكن أن يخلق حالة من الثبات والتوحد مع الشصيات والأحداث بما يوقعه في الوهم.

 

ـ الزناتي خليفة : وهو من الشخصية المهمة في بناء المسرحية لأنه يدير الصراع مع بني هلال دفاعاً عن ملكه وبلده، وهو الذي ينازلهم أبطالهم في معظم ما جرى من نزال، وهو أول من استحضره الراوي في العرض ليتحدث بصوته، وتنتهي المسرحية بمصرعه على يد دياب بن غانم الذي نُصِّب ملكاً على تونس بعدها.

الزناتي خليفة يظهر في الدواوين الثلاثة كرابطة مهمة، كان أول ظهور له في ديوان الحرب في مجالسه الثلاثة منازلا أبطال الهلالية والزغابة واستطاع أن يقتل منهم عددا من الأمراء كان على التوالى: عامر الخفاجا، والقاضي بدير، والأمير زيدان بن غانم الزغبي، والأمير بدر بن بن غانم ، ليظهر بعد ذلك في يدوان الانتصار محتفلا بنصره، ومع ذلك يختفي عن المجلس الأول والثاني من الديوان الثاني  (ديوان الانتصار) كما تخفى عن الظهور في المجلس الأول والثاني من الديوان الثالث والأخير (ديوان الملك) ليظهر في المجلس الثالث منه (مجلس دياب بن غانم) ليواجه الهزيمة فالموت، وكان تواجده محصورًا في مشاهد الحرب ثم الانتصار ثم الموت.

ـ السلطان حسن الهلالي: هو زعيم بني هلال، ومن الشخصيات المهمة لأنه يقود الصراع ضد الخليفة زناتي، وإن لم ينازله ولو مرة واحدة، يظهر في الديوانين الأول (ديوان الحرب) والديوان الأخير (ديوان الملك) وإن غاب عن  "مجلس المنفى" ليظهر في المجلس الأخير ليشهد مصرع الخليفة الزناتي.

ـ الأميردياب بن غانم: زعيم الزغابة، كان منفياً بأمر السلطان حسن الهلالي، ربما لذلك تأخر ظهوره حتى الديوان الأخير (ديوان الملك) في مجلسي "المنفى" و"الملك" ، ونصَّب نفسه ملكا على تونس بعد انتصاره على الخليفة الزناتي وقتله. هو البطل المخلِّص الذي أخذ بثأر قتلى الهلالية والزغابة.

ـ أبوزيد الهلالي: كان مريضاً ولم يشارك في حروب قومه ضد الزناتي خليفة، ولذلك تأخر ظهوره حتى الديوان الأخير (ديوان الملك)، حيث ظهر في "مجلس اليتامي" بصحبة السلطان حسن ، والأمير غانم بن رباح، وهم يدخلون على مجلس اليتامي والأرامل والثكالى من النساء ليشاركوهم الحزن ويتدبروا أمرهم ويطلبون من النساء الذهاب إلى دياب في منفاه ليطلبن منه العودة من منفاه لمواجهة الزناتي خليفة. كما ظهر في المجلس الأخير (مجلس دياب بن غانم) ليساهم في فض النزاع بين السلطان حسن ودياب بن غانم حول من يتولى ملك تونس.

ـ العَلاَّم: يبدأ ظهوره في الديوان الثاني  (ديوان الانتصار) ويقتصر ظهوره على المجلسين الأخيرين منه: "مجلس العلام" و"مجلس الزناتي خليفة" ، وهو من أهل تونس يمت بصلة قرابة للخليفة الزناتي، حيث كان ينادي أخت الخليفة الزناتي بـ "العَمَّة" .. لم يذكر الراوي تعريفاً  عنه، وإنما من خلال حواراته مع العمة، ومع الزناتي نستشف أنه شخص طامع في السلطة والمملكة وسعدي ابنة الزناتي، ويعمل بدهاء للوصول إلى مراميه، غير أن سعدى ابنة الزناتي لا تحبه وتفضل عليه شخصاً آخر يدعى "يونس" من بني هلال يقع مأسوراً في قصر أبيها.. زوتنتهي المسرحية دون أن نعرف له دوراً أبعد من هذا الذي ظهر به.

*******

ثمة شخصيات منذورة للموت من رجال المعسكرين، هم :

أولا في معسكر التونسيين:

ـ الأمير مطاوع : ظهر حول الخليفة الزناتي كمعاون رئيس في القتال، وله دورين محددين، الأول هو خداع الأبطال الذين يحاربون الزناتي والإيقاع بهم ، أو الخروج لمبارزة أبطال من بني هلال أو الزغابة.

ظهر في المجلس الثاني (مجلس الأمير بدير) من الديوان الأول (ديوان الحرب) ليستمر في المجلس التالي له (مجلس الزغابة)، نازل الأمير مفضل الهلالي وتغلب عليه وقتله في مجلس الأمير بدير، لكنه في مجلس الزغابة نازل أولاً الأمير "عقل بن بدر بن غانم الزغبي" وقتله، ثم نازل أخيه "بدر نصر بن بدر بن غان" واستطاع الأخير التفوق عليه، ليموت الأمير مطاوع على يد بدر بن نصر.

ثانيا: من معسكر بني هلال والزغابة:

ـ الخفاجا عامر : ويظهر في المجلس الأول فقط (مجلس الخفاجا عامر) من ديوان الحرب، ويذكر الراوي أنه ملك العراق ، وكان ضيفاً على بني هلال، أما سبب مجيئه ، وتفصيل علاقته ببني هلال فلم يذكرها الراوي مخلفاً مساحة من الفراغ والإبهام حول هذه الشخصية، التي ما كان لها ـ بحكم كونها ضيفاً ـ أن تشارك في الحرب والدفاع عن مُضَيِّفها، لولا إصرار عامر على ذلك، ليكون أول من تطوع لمحاربة الزناتي، وأول المقتولين غدراً على يد الزناتي. أظهر فنونا قتالية عالية ومراساً لم يستطع الزناتي هزيمته في اليوم الأول، مما اضطره إلى أن يرسل له رسوله (ظريف)، طالبا مساومته بالذهب مقابل أن يتخلى عن بني هلال، إلا أن عامر يرفض ويصر على القتال، ليموت في اليوم التالي.

ـ القاضي بدير من بني هلال، ويظهر في المجلس الثاني (مجلس القاضي بدير) من ديوان الحرب ليموت في نفس المجلس مقتولاً على يد الخليفة الزناتي.

ـ الأمير مفضل شقيق القاضي بدير، يظهر في المجلس الثاني من (مجلس القاضي بدير) ليواجه الأمير مطاوع من معسكر الزناتية، ليتفوق الأخير عله ويقتله ليلحق بأخيه.

ـ الأمير زيدان بن غانم الزغبي الذي ظهر في مجلس الزغابة ومات مقتولاً على يد الزناتي خليفة.

ـ الأمير بدر ابن غانم الزغبي، وابنيه: عقل ونصر الذين ظهروا ثلاثتهم في مجلس الزغابة وماتوا مقتولين على يد الزناتي خليفة ما عدا عقل الذي مات على يد مطاوع.

 

*****

وهناك شخصيات أخرى منذورة للحب في مقابل الحرب، إحداهما نسائية هي سعدى بنت الزناتي التي ظهرت في المجالس الثلاثة  لديوان الانتصار، ثم لتظهر في نهاية المسرحية في مجلس دياب بن غانم، لتشهد مصرع أبيها وزوال ملكه. والآخرى شخصية مرعي المأسور في سجن الزناتي، وقد ظهرا كلاهما في المجلس الأول (مجلس سعدى ومرعي) من الديوان الثاني (ديوان الانتصار) ولم يبرح مرعي مكانه، ولم يظهر بعد ذلك، ولم يذكر لنا الراوي أية تفاصيل عن سبب أسره ، ولم تكشف لنا الأحداث كذلك شيئاً عن سبب أسره ومنذ متى هو أسير ، لينجم عن ذلك فراغ وإبهام حول هذه الشخصية وملابسات أسرها، ولعل مرعي هو الوحيد من بني هلال الذي ظهر في الديوان الثاني مقيداً بالسلاسل وهو يحاور سعدى التي بدت مشفقة عليه معزية له، وهي تبادله مشاعر الحب.

ونفهم من حديث مرعي مع سعدى أنه ابن أخت أبي زيد الهلالي، وأن ما يهمه هو وسعدى أن تنتهي الحرب بين المعسكرين بسلام حتى يتمكنا من الفوز بحبهما في علاقة زواج.

******

غير أن وسط هذا الصراع الحربي تظهر شخصية مثيرة للجدل هي شخصية الأمير غانم بن رباح، الذي لم يظهر طوال الحرب الدائرة في ديوان الحرب بمجالسه الثلاثة مع أنه من الأمراء، واقتصر ظهوره على المجلس الأول ( مجلس الأيتام) من الديوان الثالث (ديوان الملك)، حيث ظهر مع أبي زيد الهلالي والسلطان حسن مشاركاً بأربع جمل حوارية، معزيا اليتامي ومعززاً  الرأي مع أبي زيد الهلالي والسلطان حسن. ومواسياً أبي زيد على محنة مرضه وابتعاده مرغماً عن الحرب، غير أن الراوي لم يذكر لنا أية معلومات عنه، ولم تشفْ لنا الأحداث شئيا عن هذه الشخصية التي بدت هامشية جدا مع أنه من الأمراء ويسير في معية السلطان.

*****

وسط خضم حضور الرجال من الأبطال والصناديد ووسط احتدام المعارك يبرز حضور المرأة العربية كحضور مهم ليس لممارسة النواح والندب على الموتى، وقص الشَّعر ولبس السواد حزناً على فقدهم ، أوليس لرعاية الأيتام فقط، بل للمارسة دور أكبر من ذلك على المستوى السياسي والحربي، فمن أدوارها هذه شحذ همم الأبطال لمواجهة العدو، وتحفيزهم على الثأر للقتلى، والتحرك الجدِّي نحو النصر، بل تعدت هذا الدور إلى ما هو أكبر حيث المشورة واتخاذ القرار ورسم السياسيات المستقبلية. ومن هذه الشخصيات التي لعبت هذه الأدوار:

ـ الجازية الهلالية: رغم أهمية هذه الشخصية إلا أنها لم تظهر إلا في الديوان الأخير (ديوان الملك) وتكشف لنا الأحداث أنها صاحبة مشورة في قومها بما يساوي الثلث، فكان الأمر يتم بموافقتها هي وأبي زيد الهلالي والسلطان حسن .. وللأسف لم يقدم لنا الراوي أية معلومات عن الجازية ونسبها وصلة قرابتها بالآخرين حولها ولا جزء من سيرتها يضيء لنا ويكشف عن هذه الشخصية المهمة، ولم يسمح لها حتى بتقديم نفسها، ولعل هذا التجاهل خلَّف فراغاً معلوماتياً عن أهم شخصية نسائية لعبت أدوراً مهمة، بداية من تَزَعُّم نساء الزغابة والهلالية، والاجتماع بأصحاب الرأي والمشورة لاتخاذ تدابير الحرب، والاجتماع بالنساء وطلبها منهم قص شعرهن فيما يعد استعدادا للقتال، والاجتماع باليتامى والثكالى ووأد جراحهم وتعزيتهم، وحتى قيادة وفد النساء إلى "دياب" في منفاه والتأثير فيه وإقناعه بالعودة ومحاربة الزناتي، ثم أنها من رفضت الصلح عندما عرضه الزناتي على بني هلال والزغاية، وقامت بتجميع النساء وطلبت منهم حمل السيوف ومواصلة القتال في حال دخول الرجال في الصلح، الأمر الذي اضطر معه الرجال إلى رفض الصلح ومواصلة القتال.. كان لديها إصرار على مواصلة الحرب مع الزناتي حتى قتله وتبديد ملكه.

ـ هولا: من نساء الزغابة، وتكشف لنا الأحداث أنها زعيمة نساء الزغابة وزوجة الأمير بدر بن غانم وأم ابنيه الآميرين عقل ونصر، فقدت زوجها وابنيها في الحرب.

بدأ ظهورها في المجلس االثالث (مجلس الزغابة) ثم عاودت الظهور مع الجازية وبقية النساء في الديوان الثالث (ديوان الملك) في مجالسه الثلاثة وقد شاركت في وفد النساء الذي ذهب لإقناع دياب بالعودة.. كان لها دورها في تحميس الرجال ، وتذكيرهم بالقتلى . كانت من أكثر النساء ابتلاء وأضهرت حزنا شديدا بدا لنا من خلال العديد والبكاء المتواصل .

وهناك شخصيات نسائية أخرى شاركن في الأدوار النسائية مع هولا والجازية، هن:

ـ  فتنة بنت بدر ابن عامر وابنة هولا، شاركت أمها الحزن وقص الشعر وظهرت معها أينما ظهرت.

 ـ  وطفة: بنت دياب بن عامر بدأت ظهورها مع هولا وفتنة، وشاركتهن نفس الأدوار وتوالت الظهور معهن.

ـ دوابة : ابنة العامر خفاجا، كانت أسبق من غيرها ظهورا منذ المجلس الأول بالديوان الأول، حيث سقط والدها عامر الخفاجا؛ فظهرت لتمارس الندب واختفت تماما لتعاود الظهور في مجالس الديوان الأخير ممارسة نفس الأدوار مع هولا وابنتها، وشاركت الجازية في وفد النساء إلى دياب في مجلس المنفى.

 

*******

من الشخصيات النسائية في معسكر الزناتية تبرز شخصية العمة أخت الزناتي وقد استنكف الراوي عن تقديمها لنا باسمها أسوة بنساء العرب ، بدأت ظهورها في المجلس الثاني (مجلس العلام) من الديوان الثاني (ديوان الانتصار) ثم لتختفي لتظهر مرة أخرى في المجلس الأخير من المسرحية. ظهرت أول ما ظهرت محاورة للعلام الذي طلب منها مساعدته في ما يبتغيه من وراثة لعرش الزناتي والزواج بابنته سعدى، وبدت مثل العلام طامعة فيما يطمع فيه العلام من مجد وثروة وسلطة، ولذلك بدأت تساوم العلام على نصيبها من الثروة والسلطة.

اقتصر ظهورها في المجلس الأخير من المسرحية على جملة حوارية واحدة تشارك بها الزناتي فرحته بالانتصار قبل المواجهة الأخيرة مع دياب، وفي رأيي أن ظهورها في هذا المجلس كان مقحماً ولو غابت العمة عن الحضور ما حدث خللا في البناء وما تاثر سير الأحداث، الأمر الذي نتأكد معه أن شخصية العمة شخصة عائمة يبحث لها الراوى عن فرصة للظهور في مواقف لا تستدعيها، وربما أن ذلك يتعلق بوضعيتها في القصة كشخصية باهتة بلا فعالية.. رغم أن وجودها هي والعلام وسعدي كان متضافرا لإظهار العلاقات المتفسخة والأمراض النفسية داخل قصر الخليفة الزناتي ومجلسه.

 

********

ثمة شخصيات لم تبرح مكانها وكان لها دور محدد ينتهي ظهورها بانتهاء دورها المحدود هذا، مثل شخصية  "ظريف" الذي رأى عامر الخفاجى ـ فيما يرى ـ أن الزناتي أرسله إليه الزناتي خليفة ليساومه على ترك الحرب ومناصرة الهلالية. وهو شخصية وهمية حلمية لم يظهر إلا في جملة حوارية واحدة في المجلس الأول من الديوان الأول.

ومثل شخصية ظريف، هناك شخصية "العرافة" التى لم تبرح مكانها، وقد استدعتها العمة في "مجلس العلام" لتقرأ الطالع حول مستقبل العلام وعلاقته مع سعدى. ومن ثم ينتهى ظهورها بمجرد ضرب الرمل وقراءة الطالع.

هناك شخصيات لم يسمها الراوى من الممعسكرين كان يحلو للراوي أن يقدمه لنا بـ(رجل 1 ، رجل 2، رجل 3 .... إلخ) كما في ص 8 في مجلس الزغابة. وهناك شخصيات لم تستغل إلى  كظاهرة صوتية كول ساحات القتال، كان يحلو للراوي أن يشير إليها ب"نساء ورجال من تونس" و "نساء ورجال من الهلالية". وثمة شخصيات ظهرت كأسماء على لسان الراوي لها وجود في القصة وليس لها وجود في المشاهد ، مثل: يونس على سبيل المثال.

بجانب هذا هناك الشخصيات الديكور، التى تبدو صامتة كأداة تعبيرية، مثل الأطفال حول النساء في مجلس اليتامى

 

*********

 

من خلال تتبع ظهور الشخصيات وأدوارها يمكننا أن نلاحظ الترابط بين بنية الشخصية والبنية المسرحية والقيم المبثوثة في النص على النحو التالي:

1 ـ  لا يوجد شخصية مركزية، توالى الظهور والإمساك بحدث مركزي متنامٍ، وإنما هناك ظهور متقطع للشخصيات وحيلولة دون توالى ظهورها وطغيانها ساعد على ذلك تقطيع أوصال القصة التي انبنت عليها المسرحية وترتيب مجالسها بالكيفية التي تَحُول بين البناء الأفقي المتسلسل، غير أن إدخال محكات لصراعات أخرى منافسة لصراع الحرب والانتصار مثل صراع الحب والطمع ساعد على إقصاء مشهد الحرب قليلا عن الاستبداد بالأحداث.

وهذا في حد ذاته يتفق مع توجهات المسرح الملحمي الذي يسعي إلى عدم ترك الفرصة متاحة للمشاهد للتوحد مع الشخصية، وهو الذي لا يكشف عن شخصيات ولا يعقد عقدة مسرحية بل يسعي على العكس من ذلك إلى تفتيت القصة أثناء عرضها والحد من سلطة الشخصية والاستعاضة عنها بسلطة الراوي.

2 ـ المسرحية من خلال البناء ومن خلال ظهور الشخصيات وأدوارها تصرفنا عن الحرب وتتبع أخبارها وصراعها كحدث مركزي يستقطب معسكرين للتناحر، ليلفت  إلى ما خلفته الحرب من مشاهد يتم وحزن ، وتلفت إلى إمكانية نمو علاقات أخرى بديلة للحياة مثل عاطفة الحب ، كما تلفت إلى الأجواء الشريرة الأخرى غير الرغبة التي يحيا فيها شخوص يمتلئون بالحقد والطمع يعيشون حول الزناتي وكأن الراوي بترتيبه لهذه المشاهد يصرفنا عن القضية المركزية لنفكر في قضايا أخرى مصاحبة منها أسباب الحرب ونتائجها، وتمهيداً للقضاء على الشر، فليس الشر ما نصنعه فقط وإنما هو أيضاً الحوافز التي تدفعنا للشر.. في ثقافتنا وبيئتنا وضمائرنا ورغباتنا الشريرة وكلها عوامل تدفعنا للشر.. الأمر إذن ليس فتحا لصراع الحرب وإنما فتحاً للتفكير فيما يجنبنا الحرب. وهذا ما يهدف إليه الكاتب المسرحي  عموما إذ يدفعنا للتفكير في القضايا ، ولعل من ضمن وظائف المسرح الملحمي إشراك القارئ، وفتح مجالات تفكير أمامه في قضايا مجتمعه وعصره سواء في الساسة أو الاجتماع أو في القضايا الإنسانية عموما.

 

3 ـ كان ظهور الشخصيات ملفتا إلى ثقافة الشخصية وقيمها الاجتماعية والحضارية أكثر من كونه ملفتا إلى اشلخصية نفسها بأوصافا الخارجية أو مظهرها وكأن الراوي يصرفنا عن الشخصية إلى قيم الشخصية ، مثل قيم البطولة والرغبة في التضحية والفداء، وإلى الظهور الجماعي المتعاضد بين النساء وبعضهم والرجال وبعضهم، وإلى مبدأ الحوار والشورى اللذين كانا متفشيين بين الجميع ، سواء بين السلطان ومعاونيه أو بين السلطان والرعية في الجانب العربي خاصة.

4ـ ظهرت الشخصية النسائية في معسكر الهلالية كقيمة اجتماعية تمارس دورها في إذكاء البطولة والشجاعة والحث على مواجهة العدو والأخذ بالثأر منه ورفض الصلح معه، ولقد برزت شخصية الجاز كصاحبة الثلث في الرأي والمشورة مع البطل أبي زيد والسلطان حسن، وبرزت شخصية هولا كواحدة من النساء المتحمسات للأخذ بالثأر من العدو وعدم التراخي في الحرب، وظهر في المسرحية فريق نسائي يمارس دوره في إزالة الخلافات بين الأبطال وأقناعهم بتناسي خلافاتهم الشخصية من أجل القضية الأكبر التي تخص الجميع. وكأن المسرحية ـ من خلال هذه الأدوار ـ تلفت إلى أهمية المرأة ودوراً في الصراع مع العدو وصنع النصر.

5 ـ كان دور الراوى طاغيا ، ولم يقتصر دوره على تقديم الشخصية والتمهيد لظهورها بل اجتاز ذلك إلى تصميت الشخوص ووصف أداء الشخصيات، وعمل على  خلق مسافة بينه والشخصية ؛ ليتحدث عنها وهي خارج التقمص ، إضافة الى أنه  يقوم  بتغريب الأحد ا ث من خلال تضخيمها وإبراز نواقصها على طريقة الشاعر الشعبي الراوي للسيرة الهلالية .

يجدر بنا أن نتوقف عند تجليات هذا الراوي وبعض الإشكاليات التي أثارها.

 

 

تجليات الراوي وإشكاليات النَّص :

                  إذا أخذنا الخصائص التي تميز الراوي بعين الاعتبار في الكتابة المسرحية فإن السؤال المنطقي الذي يبرز هو: متى نستخدمه وما دوره وما هي أهميته؟ ..  مؤكداً أن الكثير من النصوص المسرحية العربية كان الراوي فيها حملا زائداً من الممكن الاستغناء عنه، أو الحد من طغيانه، بل إن هذه النصوص كان من الممكن أن تكون حيّة أكثر بغير وجود الراوي، قد يكون الاستعانة بالراوي كأداة ضرورة في المسرح الملحمي، لكن طغيانه لا يبدو ضرورة لهذا المسرح، ولعل ما لاحظناه من طغيان الراوي في مسرحية "دياب مكا" كان خضوعا لنمط الشاعر الشعبي الراوي الذي يطغي على النص بوصفه ممثلاً للشخوص ومتحدثا عنهم وبديلا عنهم ، وراوية للأحداث ومعلقاً عليها في ذات الوقت. إن صعود هذا الراوي من الأدب الشعبي الشفاهي إلى خشبة المسرح يستوجب موائمة جديدة بينه وبين وظيفته الجديدة بصحبة شخوص يمكنهم التعبير عن أنفسهم والقيام بأدوارهم.

 ولقد لاحظنا ـ من �

khfajy

سترون أبيضي عندما يلوح بياض الآزمنة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 123 مشاهدة
نشرت فى 15 يناير 2014 بواسطة khfajy

ساحة النقاش

عبدالجواد خفاجى

khfajy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

20,636