<!--
<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
رواية نجع الخوالف والغوص في تاريخ المكان
دراسة عبدالجواد خفاجى
في طريق تلمس المداخل إلى تجربة زكريا عبدالغني المتسعة تأتي روايته الفذة "نجع الخوالف" كما جاءت روايته الثلاثية " حكايات الأيام القديمة" غوصا في تاريخ المكان والإنسان وتجسيداً للمجتمع الصعيدي وإنسانه بإخلاص، لتعكس كثيرًا من قضاياه المجتمعية التاريخية ومن ثم كانت الرؤية بانورامية مستوعبة لتاريخ علاقة الإنسان بالمكان ووضعيته عبر مسيرة حياته التاريخية في صعيد مصر ومجسدة قدرة الكاتب على الغوص في المحلية، ليجسد من خلالها إخلاصه للصعيد وإنسانه مدافعا عن قيمه وعن حقه في الحياة، طارحا رؤية سياسية في الأساس وإن كانت لا تخلوا من نقد للمدينة العاصمة / المركز الذي يهيمن بقيمه على أطراف الخريطة ومن ثم فإن رؤيته السياسية تظل خاضعة لرؤيته الفلسفية للحياة في عمومها.
جاءت روايته "نجع الخوالف" محاكمة ضمنية لتاريخ طويل من حكومات متعاقبة على مصر، وأحداث جسام متوالية منذ رمسيس الثاني ساهمت في ضياع نجع الخوالف (الصعيد) ضياعا مفتوحا باتجاه المستقبل، ومثير في نفس الوقت لكثير من الأسئلة الباحثة عن إجابات.
حيث يعرض السارد (الراوية) صورة الصعيد كبيئة وعادات وشخوص ولهجات وطرق تفكير وفلكلور، مركزاً على وضعية إنسانه التي بدت إلى حد كبير مزرية، وكان فيما عرض واسع الثراء المعرفي بالصعيد وإنسانه الذي يعاني الجهل والمرض والتخلف والفقر الخدمي والتخلف والبدائية في الفترة التي تزامنت مع قيام ثورة يوليو 1956م في مصر، مستعرضاً بعض جهود الثورة للنهوض بها الإنسان الذي بدا رازحاً تحت جبل من هموم متراكمة غير قابلة للتزحزح، فيما بدا إنسان الصعيد الذي صدَّر الحضارة إلى العالم غير نادم يوم أن كانت طيبة عاصمة مصر، بدا إلى حد كبير مُسخة البشرية، فيما بدت مهمة زحزحة تخلفه وبدائيته أعظم من قدرة أية ثورة، وأية حكومة.
وفي إشارة رمزية يأتي العنوان (نجع الخوالف) مستخدماً الصيغة العامية "خوالف" كجمع لـ"خلََفٌ" وهم أهل الصعيد/ الخلف الضائع لأجدادهم أصحاب الحضارة، فيما أتت كل الأحداث مؤكدة ضياع النجع والخوالف نتيجة إهمال تاريخي مركب، وفيما أتت الأحداث مؤكدة حدوث اتصال حقيقي بين بطل الروية والقاهرة سواء عن طريق لقمة العيش التي يبحث عنها أهل النجع في القاهرة، أو عن طريق المصاهرة، فقد تم زواج "أبوالمجد" الشخصية الرئيس في الرواية ـ بكل ما يحمله هذا الاسم من رمزية باعتباره وريث المجد ـ من "جمالات" القاهرية العرجاء، بكل ما يحمله اسمها وعرجها من دلالات رمزية، ولولا عرجها هذا لما وافق أهلها على مثل هذا المصاهرة، التي بدأت بعدها كافة التفاعلات الدرامية التي تؤكد تعارض منظومة القيم بين الصعيد والعاصمة من جهة، ولتستمر أيضاً المفارقات المشفة عن الهوة الحضارية بين إنسان الصعيد وإنسان العاصمة من جهة أخرى، ومن خلال هاتين الركيزتين الدراميتين يتضح موقف السارد الفاضح لتخلف الصعيد وبدائيته، ولتتضح المعاني الضمنية التي تحملها رؤية هذا السارد الذي يحاكم التاريخ قبل أن يكون معنيا بالسخرية من إنسان الصعيد أو فضحه.
ولعل أبرز ما اتكأت عليه الرواية هو إبراز التعارض بين منظومتي القيم بن الصعيد وإنسانه من جهة والعالم المتمدين والحكومة من جهة أخرى.
في المقابل من هذا بدت صورة النقيض من نجع الخوالف (الصعيد) وهي صورة العالم المتمدين، متمثلاً في صورة جمالات القاهرية، والممرضات والأطباء الذين يعملون في مستشفى جرجا، والطيارين الروس الذين يهبطون بطائراتهم التي جاءت لترش محصول القطن بالمبيدات، والشباب القاهريين المختلطين بالأجانب حول تمثال رمسيس.. هؤلاء جميعا اتسموا شكلياً بالرخاء، والعري، والبياض، والنظافة، والصحة البدنية .. فيما اتسموا أخلاقيا بالتعالي، والميل إلى السخرية من الآخرين .. مثلما نقرأ (ص 19) عن الطبيب "هذا الكائن الأبيض النظيف الذي يقعد بعينيه الخضراوين خلف نظارة رقيقة، يتكلم قليلا ويؤشر على التذاكر تأشيرة يتحدد بها مصير المريض" وفي (ص15) نقرأ : "أوعى يا ولد .. وسَّع .. عربية الحكيمباشي .. يلتصق أبو المجد بالحائط ويميل على الحكيمباشي في عربته، يمد إصبعه ويلمس العربة وهي تنساب .. انزلق إصبع على سطحها الناعم الأملس، يندهش ويرفع إصبعه ينظر إليه..." وفي (ص 36) يرجو أبوالمجد الممرضة الجديدة أن تكون رحيمة " الرحمة يا ست .. تنهره بعنف : "اسكت يا بقره" .. تقدح عيناه شرراً .. فترمه بعينيها وتقول: " إيه ؟! تعال اضربني !! ".. يبتلع غيظه ويلملم الشال حول كتفه، تصيح : "اللى بعده يا بهايم".
وفي الوقفة أمام رمسيس (ص 39): "شاف الرجال منهم يلبسون سراويل قصيرة والنساء عاريات كاسيات، فعاود الحملقة في أخته كفأر.. داست أخته على شفتيها التحتانية، وقالت: أجانب .. لم يفهم شيئاً وعاود النظر إليهم، رذاذ الماء المتصاعد من النافورة يلطف من حرارة جسمه؛ فيستنيم ..... همس أجنبي في أذن الشاب الأسمر وهو يبص إلى أبي المجد .. تقدم الشاب من أبي المجد وهو يقول مشيراً إلى رمسيس: "هذا جدك". وفي (ص 160) تتحدث جمالات إلى أبي المجد: "إنت كنت عاوز واحدة معفنة من نجع لخوالف .. واحدة من توبك " وهكذا هي تظل متعالية على الحياة في النجع .. ترفض حلب الجاموسة كما ترفض الخبيز .. تقضي سحابة نهارها في غرفتها، تفتح الراديو وتستمع إلى التمثيليات، والأغاني .. تغني مع الراديو أحياناً وتستغرق في الاستماع حتى تنسى نفسها ( ص 34) .. تظل وفيَّة لصورة حبيبها القاهري، تلصق صورته فوق المرآة وتدَّعي أنها صورة عبدالحليم حافظ، وعندما يعجز أبوالمجد عن فعل الجنس تضربه على صدره وتقول: " يا أختي !! .. بلا نيلة" .
ثمة تعارض إذن بين عالمين، وبين منظومتي قيم، أحدهما يبدو متمديناً والآخر بدائي متخلف، هذا التعارض بين منظومتي القيم كان أساساً من الأسس التي ساهمت في أن يبدو العالم الروائي بالكيفية التي بدا بها، وربما أن هذا التعارض نفسه كان وراء الأحداث والصراع كمحرك خفي يوجه أنظار الشخوص نحو وجهة بعينها؛ فأبو المجد ظل كثيراً ـ رغم علاته ودمامته وتخلفه ـ يحلم بالاتصال بالعالم المتمدين، وكانت الوسيلة التي يظنها مناسبة هي المرأة القاهرية .. لقد ظلت المرأة البندرية هاجس أبي المجد وحلمه، وقد بدأ هذا الهاجس يتصاعد مع الأيام في صدره كلما سمع أحاديث أخته "روض" أثناء زياراتها النجع، وهي تتحدث عن البنات في مصر، وعن إمكانية أن تجد واحدة ترضى بالزواج به، لذلك ظل يحلم بالصعود إلى "الوابور" (القطار) الرابطة الوحيدة التي تربطه بالعالم الآخر الجميل.
وها هو أبو المجد تتفلت من صدره الهواجس بعد ما يقرب من عشر سنوات على تحقق حلمه من جمالات .. يقول قبل أن يركب القطار للمرة الثانية راحلا بزوجته وابنه عن النجع: " جمالات نبات من غير جذور، تعيش في أي مكان وتنتمي لأي مكان "(ص 16) لقد فهم أبوالمجد هذه الحقيقة مؤخراً، ومن ثم كان لسان حاله ينم عن ندم كبير، وشعور بالغ بالخيبة، فيما يقول السارد: " لم يعد في البيت والرهبة غير جمالات، تعرج في مشيتها كالفقر" .
هكذا تنتهي الأحلام التي راودت الشخصيات بالتشاؤم، والزهد في علاقات لم يكن لها ما يبررها في الأساس، غير ما تنطوي عليه من تعارض كبير في منظومات القيم.
لقد أدركت شخصيات نجع الخوالف متأخرة أن الحياة ليس لها، وقد سوغت لها نظرتها القاصرة عن إدراك الحقائق أن بمكنتها أن تكون، وأن تُمثِّل نفسها وأن تكون فاعلة في الحياة باتصالها بالمركز / المدينة / القاهرة، وأن هذا الاتصال يمكن أن يكون مهادها إلى الجنة، وأنها سوف تضع حداً لوضعيتها المزرية بهكذا اتصال .. هكذا بدأت العلاقات بتوهم الجنة، وانتهت بالجحيم والندم، واجتثاث نهائي من النجع/ الجذور، وربما التخلص من آخر بادرة وفاء للنجع يمكن أن ترف في الصدور.
لعل الجانب الآخر من تصعيد التعارض بين منظومتي القيم كان بين النجع والحكومة، وقد بدا ـ من خلال الإشارات النَّصِّية ـ أن الزمن المرجعي للقصة التي انبنت عليها الرواية، هو فترة حكم "عبدالناصر" ومما يشير إلى ذلك انعدام الكهرباء في النجع، والطيارون الروس الذين يقودون الطائرات التي ترش المبيدات فوق حقول القطن، وظهور عبدالحليم حافظ على هامش الأحداث.
وقد بدت الحكومة عبر الأحداث متدخلة في الأحداث كطرف متسلط جاء لدهس الملامح القيمة للصعيد تحت سنابك خطط مركزية، مما يشي بتسلط الخطاب الرسمي للمدينة / المركز على أطراف الخريطة.
ومن الواضح أن إنسان الصعيد لم يكن ممثَّلاً في الخطاب الرسمي، ولم يكن غير مفعولٍ فيه على طول الخط، ولم يكن يستشار فيما يخصه، ولم يكن أكثر من فاعلٍ وفق خطط مركزية لا تخدم مصالحه، الحكومة في كل ما فعلته لم تكن أقل وطأة على إنسان الصعيد من الفقر ومن الإقطاع الذي عملت الثورة على القضاء عليه.
فالحكومة هي التي سلبت "الكحول" قراريطه التي تعد على أصابع اليد لتوسيع الجسر بمقدار قصبتين من كل جانب " (ص112) مقابل تعويض مجحف يصلح معه المثل "حشف وسوء كيل؟!" الأمر الذي اضطر معه "الكحول" إلى الرحيل عن النجع، وقد انقطع رزقه فيها، خاصة أن أمه قد ماتت حسرة على القراريط التي تمثل بالنسبة لها الرابطة الوحيدة التي تربطها بالمورث (زوجها) .. إنها القيمة الممتدة في الزمن التي تحتفظ بتاريخ وعبق الأجداد، هي الثابت الثاني بعد القبيلة الذي يصبح التفريط فيه عاراً وشناراً في صعيد مصر، و لقد استولت عليه الحكومة بفعل إجرائي.
نفس ما حدث مع الكحول حدث مع أبي المجد، عندما استولت الحكومة علي قراريطه (صـ162 ) و هكذا تبدو مشاريع الحكومة مساهمة في " تطفيش " الفقراء من أمثال الكحول وأبي المجد والمفترض هو العكس من ذلك .
والأمر يبدو علي هذا النحو انفصالاً تاماً بين خطط الحكومة وتوجهاتها وبين وضعية الإنسان الصعيدي وذاتيته ومصلحته المباشرة. ويبدو هذا التعارض في صورته العظمي عندما قررت الحكومة هدم المسجد القديم الذي يمثل قيمة دينية وتراثية، يندفن تحته" الشيخ مرزوق الكبير "صاحب الكرامة، تهدمه الحكومة لتقيم بناء جديدا بالمسح بدلا منه، الأمر الذي أدي إلي موت الشيخ مرزوق الصغير مأذون النجع كمدًا وغمًا" صـ129
وعموما كل خطط الحكومة بدت شؤماً لأهالي النجع، وكانت سبباً مباشرًا في موت بعضهم وهجرة بعض آخر عن النجع، فيما حاول السارد أن يساوي بين الحكومة وأفعالها والسقا الذي اغتصب زوجة الكحول " صـ115"
وعلى ما كشفت الأحداث برز التعارض بين منظومتي القيم .. قيم القاهرة / جمالات / الحكومة / المركز من جهة وبين أهالي نجع الخوالف / أبي المجد/ الصعيد / أطراف الخريطة .. يقف هذا التعارض متحكما في توالد الأحداث واستمرارها وبوأرتها، كاشفاً في ذات الوقت عن موقف السارد وتوجهاته السياسية الرؤيوية الفاضحة للقرارت المركزية المتعالية، والمتجاهلة لخصوصية الصعيد واحتياجاته الحقيقية، والكاشفة عن تجاهل تاريخي لمطالب الصعيد واحتياجاته، والإصرار على التعامل معه كمزرعة للقطن طويل التيلة ليس إلا.
*************
نجع الخوالف ـ رواية صادرة عن دار الكتب العلمية بالقاهرة عام 1999


ساحة النقاش