في البحث عن العلاقة بين موضوع اللوحة ومعالجتها, يعتقد البعض أن تكرار الموضوع الواحد في لوحتين يدفع بالحديث عن الثانية إلى الاقتصار على الجوانب الجمالية والشكلية, لأن موضوعها ليس مبتكراً.
اللوحتان اللتان نقف أمامهما هنا تؤكدان العكس. وأكثر من ذلك, فهما تظهران بوضوح الحدود التي يجب أن يتوقف عندها الحديث عن الموضوع, وبدء الحديث عن المعالجة الجمالية والفنية الخاصة بكل فنان على حدة. أو إلى أي حد يمكن للحديث عن الموضوع أن يمتد في كلٍ منهما, حتى ليطغى تلونه على كل الاختلافات الشكلية مهما عظمت. إذ على الرغم من أن اللوحتين تمثلان امرأة وحيدة في غرفة تعمل على حياكة أو تطريز قماش سبق صنعه, فمن الصعب أن نجد قاسماً مشتركاً بينهما غير هذا الموضوع العام. فاللوحتان تنتميان روحاً وشكلاً إلى عالمين لا صلة بينهما.
اللوحة الأولى هي (حائكة الدانتيل) للرسام الهولندي فيرمير (1632 - 1675م), والثانية (صورة السيدة ياتس) للأمريكي جيلبرت ستيوارت (1755 - 1825م).
اللوحة الأولى هي واحدة من مجموعة لوحات صغيرة الحجم جداً (24 * 21سم) رسمها فيرمير وتمثل كل واحدة منها امرأة واحدة تؤدي عملاً ما داخل منزلها. ولعل الميزة الفنية الرئيسة في أعمال فيرمير هذه احترامه الشديد لتقاليد الدقة الهولندية في الرسم, والتركيز بشكل أساسي على الضوء الآتي من الخارج, العزيز جداً على قلوب أبناء البلدان الشمالية, بخلاف بعض معاصريه من أمثال رامبراندت الذين ركزوا على أضواء الشموع داخل البيوت المظلمة.. ومن أبرز ما اختص به فيرمير هو تكثيف الضوء على بعض نقاط تساقطه ورسمه على شاكلة لآلئ صغيرة تتناثر هنا وهناك, من دون أن تفقد فرشاة الرسم حريتها في قولبة الخطوط والمساحات إلى كتل ملونة, كما يبدو ذلك بشكل خاص في خيوط الحياكة الظاهرة في هذه اللوحة.
بين العمل والشخص:
ولو توقفنا برهة لنتطلع إلى اللوحة الثانية التي رسمها ستيوارت, للاحظنا فوراً اختلافاً واضحاً في الموضوع يتمثل في الوضعية التي تتخذها كل من هاتين السيدتين.
فالمرأة الحائكة عند فيرمير تتجاهل الرسام تماماً, وتنكب على عملها الذي يستحوذ على كل اهتمامها وتركيزها. لا نعرف شيئاً عن الهوية الحقيقية لهذه المرأة. وحتى وإن صح ما يعتقده الكاتب الفرنسي أندريه مالرو من أنها صورة كاترين فيرمير زوجة الرسام, فإن ذلك لا يشكل فرقاً ولا يغير شيئاً في أهمية هذه اللوحة, التي يمكن القول إنها صورة للعمل, هذا الجهد الذي اعتبرته الفلسفة البروتستانتية الجديدة آنذاك فضيلة من الفضائل وكرّمته, مقابل الفلسفات الغربية القديمة التي كانت ترى في العمل عقاباً للإنسان.
قيمة العمل (التطريز) واستحواذه على اهتمام المرأة التي تقوم به, تغيب كلياً في لوحة ستيوارت, حيث نرى السيدة ياتس تتطلع إلى الرسام في وضعية تكاد تكون مصطنعة وتنتظر أن يفرغ الفنان من رسم خطوطها العامة.
 وإضافة إلى الفارق في الوضعية, فإننا هنا أمام صورة شخصية, تكمن مهمتها بالدرجة الأولى في نقل تقاسيم وتعابير وملامح امرأة محددة إلى لوحة زيتية, بخلاف ما هو الحال في اللوحة الأولى, وإن كان ذلك لا يعني أبداً أننا هنا أمام لوحة أقل قيمة من الأخرى. والحديث عن مكانة (صورة السيدة ياتس) يتقاطع مع سيرة الرسام ومسار عالمه الفني.
فعلى الرغم من الشهرة التي حظي بها ستيوارت خلال إقامته في لندن, حيث كان يتقاضى أعلى الأجور بين كل الرسامين (باستثناء جوشوا رينولدز وتوماس غينسبورو), فإن الرسام قد اضطر إلى العودة إلى أمريكا سنة 1793م, بسبب حياة البذخ التي عاشها وتراكم الديون عليه.
وفي أمريكا, أمضى ستيوارت بقية عمره (نحو 35 سنة) يرسم شخصيات الجمهورية الجديدة, وتجارها الذين يزدادون ثراءً وعائلاتهم.
قال ستيوارت مرة: (أريد أن أعرف ما تعنيه لي الطبيعة, وأن أراها بعيني وليس بعيون الآخرين). وكان من الممكن لمثل هذا المسعى الذي يتطلب خوض تجارب فنية غير مضمونة النتائج, أن يجد في أمريكا مجالاً للتطبيق, بسبب غياب كل التقاليد الفنية وعدم وجود مدارس راسخة في القارة الجديدة, عكس ما هو الحال في أوربا. وكانت السيدة ياتس, زوجة أحد تجار نيويورك الأثرياء, على استعداد للقبول بتجارب الفنان إذا كانت ستوصله إلى مشابهة حقيقة صورتها حتى أقصى حد ممكن.
في هذه اللوحة, قد تستوقفنا لوهلة البراعة في رسم قماش الساتان والموسلين الشفاف بضربات فرشاة عريضة وعفوية وسريعة, خالية تماماً من التكرار والتعديل. ولكن ما هو أهم منها, رسم الوجه واليدين. إضافة إلى رسم الخطوط والملامح بواقعية دقيقة, والأمر ليس صعباً على أي أستاذ في مستواه, يكمن التجديد المدهش في أسلوب الفنان في رسم لون البشرة.
حول هذا الأسلوب قال ستيوارت مرة: (إن لون بشرة الإنسان, يتشكل من كل الألوان. يجب عدم خلطها ببعضها البعض, بل وضع كل لون على حدة, وتركه يظهر من خلال لون آخر فوقه.. كما هو حال الدم في العروق).
ومثل هذه الرؤية لفن التعامل مع الألوان, دفعت ببعض النقاد إلى القول: (لو كان في أمريكا فنانون وتقاليد فنية كما في فرنسا, لظهرت الانطباعية بفضل جيلبرت ستيوارت, قبل ظهورها الفعلي في أوربا بنحو قرن).
هي والدنيا وما بينهما        غصصي الحرى وأهوائي العنيدة
رحلة للشوق لم أبلغ بها        ما أرتني من فراديس بعيدة
طال دربي وانتهى زادي له        ومضى عمري على ظهر قصيدة
عمر أبوريشة

المصدر: عبود عطية/ مجلة العربي، من مقال بعنوان "فيرمير وستيوارت (حائكة الدانتيل) و(السيدة ياتس)"
  • Currently 26/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
8 تصويتات / 1737 مشاهدة

ساحة النقاش

rtag

شكرلك

عدد زيارات الموقع

58,316