في رسالة كتبها إلى أحد أصدقائه عندما كان يعمل على هذه اللوحة، قال الرسام يوهان تيشباين: « فوق أطلال شهدت مثل هذا الكم الكبير من الأحداث العظيمة، لا يمكن للإنسان إلا أن يبدو أكبر مما هو عليه، أو كأننا نعرفه بشكل أفضل».
تيشباين هو رسام ألماني «1751 - 1829م»، يتحدر من عائلة ضمَّت عدداً كبيراً من الفنانين، ودرس الفن أولاً عند عمه الذي يدعى أيضاً يوهان تيشباين «الكبير»، ومن ثم عند عمٍّ آخر يدعى أيضاً وأيضاً يوهان «جاكوب» تيشباين. وبعدما عمل لبعض الوقت رساماً للصور الشخصية في برلين، سافر في العام 1779م إلى إيطاليا حيث بقي نحو عشرين سنة. وهناك تعرَّف إلى الشاعر الكبير جوته، ورسم صورته الشخصية التي نراها هنا.
نشاهد في هذه اللوحة الشاعر الكبير جالساً في وضع الاستراحة على حجر ضخم يبدو جزءاً من مسلة. وبعد أن يستوقفنا بياض المشلح الذي يتدثر به وما يمكن أن يرمز إليه من نقاء وسمو، تتجه أبصارنا فوراً إلى جملة الأشياء التي تحيط بالشاعر، وربما قبل أن نتمعن جيداً في تقاسيم الوجه التي تعتبر من أساسيات الصور الشخصية.
فخلف الرجل هناك جزء من منحوتة جدارية رومانية، وتاج عمود إيوني الطراز، وأطلال قناة مائية، وقبر عائلة ميتيلوس المعروف.. وقد زجَّ الرسام بهذه العناصر في اللوحة باعتبارها خلفية الرجل المثقف أو جذوره، ووسيلته لأن يعي حقيقته ويحددها.
ولكن هذه الاستشهادات "الأثرية" هي هنا أيضاً استشهادات «عاطفية»، ترفع الشاعر المرسوم إلى مستوى ما يتحدى عوامل الزمن. بدليل غموض الضوء في هذه اللوحة التي لا نعرف ما إذا، كانت رسمت صباحاً أو مساءً أو ظهراً، مادامت ظلالها وسماؤها لا تقول شيئاً محدداً. إنه الشاعر الخالد بخلود روما العظيمة أم الحضارة الأوربية.
والواقع أن هذا السرد، ورواية العظمة من خلال مجموعة أشياء، بدلاً من أن نراها على الوجه والتعابير كما عودتنا المدارس السابقة، وخاصة مدرسة النهضة الإيطالية والمدرسة الهولندية خلال القرن السابع عشر، هو ما يشكل نقطة ضعف هذه اللوحة من جهة وموضع قوتها من جهة أخرى.
فإن كان الذواقة، وربما اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا يستسيغون اللجوء إلى الديكور لإبراز حقيقة الشخص المرسوم أو مكانته، ويفضلون عليها بلاغة التعبير على الوجه وتقاسيمه، فإن تيشباين عرف كيف يصهر كل هذه العناصر المتفرقة في لوحة واحدة بفعل التناغم اللوني والضوء المميز، وشد العين إلى الشخص المرسوم ببياض يحفظ له استقلاليته البصرية عن هذا المحيط الأثري - الثقافي، من دون أن تصل هذه الاستقلالية إلى حدود الانسلاخ عنه.
إلى ذلك، لا بد من التذكير بأن هذا المذهب في رسم الصور الشخصية هو الذي كان رائجاً في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكان تيشباين أحد كبار أساتذته، فاتحاً بذلك الطريق أمام الرسامين الذين يجدون أنفسهم أمام شخصيات لا تكفي تقاسيم وجوههم لرسمهم بما يرضيهم، ليرووا لنا عظمة هذه الشخصيات «بما يرضيها» من خلال الديكور المحيط بها ومحتوياته.

المصدر: عبود عطية- مجلة العربي، من مقال نشر بعنوان "يوهان هاينرخ تيشباين.. «جوته في الريف الروماني»"
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 689 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

58,246