تشكِّل هذه اللوحة مثالاً واضحاً عن الفرق بين الرسم بالألوان الزيتية، والرسم بالباستيل «الطبشور الملون». وصاحبها هو الرسام السويسري جان-أتيان ليوتار الذي ولد في جنيف عام 1702م وتوفي فيها عام 1789م.
درس ليوتار أولاً فن المنمنمات، ثم الرسم بالميناء على المعادن، وانتقل في العام 1723م إلى باريس لدراسة الرسم في محترف جان باتيست ماس. ثم سافر في العام 1738م إلى إسطنبول حيث أقام لمدة خمس سنوات، تعلَّم فيها اللغة التركية واطلع على الحياة اليومية بأدق تفاصيلها في البلد المضيف، قبل أن يعود إلى أوربا ليجول في عواصمها ويحصد شهرة كبيرة، فرسم صوراً شخصية لبابا الفاتيكان كليمنت الثالث عشر، وإمبراطورة النمسا ماريا-تيريزا وغيرهما.. والتقنية التي ذاع صيته بسببها كانت الرسم بالباستيل، التي تكاد بحساسيتها وطراوتها أن تكون نقيض الرسم بالميناء على المعادن، الذي تعلمه ليوتار في صغره. فقد أتقن هذا الفنان استخدام الطبشور الملون بألوانه الزاهية لرسم شخصيات ومناظر طبيعية ملساء وناعمة وشبه خالية من الظلال والخطوط الحادة. رسم ليوتار «عازفة الدف» أولاً بالباستيل خلال وجوده في إسطنبول «واللوحة موجودة حالياً في مجموعة خاصة في زوريخ». ولكنه عاد ورسم اللوحة ذاتها بمقاسات أكبر قليلاً من الأولى، وبتقنية الزيت، وهي اللوحة التي نحن بصددها. فما الذي دفع الرسَّام إلى ذلك؟ وما الذي يستطيع قوله بـ «لغة الزيت»، ويعجز عن قوله بالباستيل، وهو أستاذه؟
عندما نتأمل جيداً هذه اللوحة، نلاحظ أن بياض الوجه وسلاسة الانتقال ما بين حمرة الوجنتين والظلال على العنق، يذكراننا بتقنية الباستيل. ولكننا عندما نتطلع إلى ملابس هذه المرأة وبشكل خاص إلى لمعان اللون الذهبي في تطريز القماش، ولمعان قماش الساتان في السروال، ندرك أهمية الألوان الزيتية. فهي وحدها تسمح بمثل هذا الانتقال الحاد بين الأصفر والبني في الذهبي، وبين الأبيض والأخضر - الرمادي في قماش السروال، فتقفز أمام العين، وتزيد الإحساس بوجود عمق خلفها في اللوحة، على الرغم من قلة الظلال، وبساطة الخلفية، التي ما كنا لنجزم أنها جدار وليست فراغاً، لولا ظل الغليون الطويل عليه. تبقى الإشارة إلى أن هوية هذه المرأة مجهولة. وذهب بعض النقاد إلى القول إنها امرأة فرنسية بلباس تركي، مستندين في ذلك إلى ملامح الوجه، أو ربما إلى بعض مصادر المعلومات. ولكن ما يثير الاهتمام في هذه اللوحة، ليس في هوية المرأة، بل في الزخارف الجمالية، بدءاً بالحلي الذهبية وطريقة توزع الخواتم على الأصابع «كما كان رائجاً فعلاً آنذاك» وصولاً إلى القماش في الملابس والمقعد؛ هذه الزخارف التي تؤكد أن الرسام كان متشبعاً من ثقافة الحياة اليومية في تركيا آنذاك، وأنه شاهد وسجل بدقة أكثر بكثير مما تخيل. الأمر الذي يضع لوحته ضمن باكورة الأعمال الفنية المستوحاة من الشرق وثقافته، والتي لم يصل إنتاجها إلى ذروته إلا بعد قرن كامل من تاريخ رسم هذه اللوحة.
المصدر: عبود عطية- مجلة العربي، من مقال نشر بعنوان " جان - أتيان ليوتار «عازفة الدف»"
نشرت فى 16 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,560
ساحة النقاش