ثمة عوامل ارتبطت بالمناخ الاقتصادي في دول العالم ساهمت في ظهور مفهوم حوكمة الشركات إلى العلن ، منها المتطلبات الجديدة التي فرضتها مظاهر العولمة وما صاحبها من تطورات على الصعيدين القانوني والاقتصادي، و مع انفجار الأزمة المالية الآسيوية عام1997 التي عصفت بأسواق المال في الولايات المتحدة وغيرها من الدول و هددت العالم بأسره بالوقوع في فترة كساد لم يشهدها منذ عام 1928 م وذلك بسبب وجود خلل في آليات الرقابة والمتابعة سواء على مستوى الشركات أو أسواق رأس المال، لهذه الأسباب و غيرها تعاظم الاعتقاد بأهمية نظم الحوكمة باعتبارها أداة الرقابة والمساءلة وجدارا للحماية من مثل هذه الأزمات ومما زاد من الاهتمام بتطبيق مبادئ الحوكمة تلك الانهيارات المفاجئة لعدد من الشركات العالمية مثل World Com و Enron فدق أجراس الخطر لدى المهتمين وصناع القرار إلى ضرورة وضع هذه المبادئ قيد التنفيذ لتفادي مثل هذه الكوارث.

فما المقصود بالحوكمة ؟

    الحوكمة ليست فقط مصطلحا، لكنها نهج ومبادئ تطبق كاملة وبحذافيرها، كما أنها ليست لفظا جديدا أو كلمة تردد، بل هي معان ومعايير تنقل الواقع الاقتصادي من درجة إلى أخرى ومن مقام إلى آخر وباتت حوكمة الشركات من الموضوعات المثيرة جداً، خصوصا بعدما وجدت الدوائر الأكاديمية والسياسية والاقتصادية العالمية فيها وسيلة فعالة للتدخل في اقتصاديات الدول النامية تحت عناوين برامج الإصلاح ومتطلبات إعادة الهيكلة والاهتمام بالجودة والبحث عن عوائد اقتصادية مرتفعة حسب ما يراه صندوق النقد والبنك الدوليين.

هذا اللفظ قدم من قِبل البنك الدولي وصندوق النقد تحت اسم  corporate governance، وهو ما تم ترجمته للعربية واتفق على تعريفه بالإدارة الرشيدة سواء للشركات تحديدا أو الاقتصاد بصورة عامة، و الحوكمة هي مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف الشركة وبمعنى أخر هي نظام شامل يتضمن مقاييس لأداء الإدارة الجيد، ومؤشرات حول وجود أساليب رقابية تمنع أي طرف من الأطراف ذات العلاقة بالمؤسسة داخليًا،    أو خارجيًا من التأثير السلبي على أنشطتها، وبالتالي ضمان الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة بما يخدم مصالح جميع الأطراف بطريقة عادلة تحقق الدور الإيجابي للمؤسسة و ملاكها وللمجتمع ككل، و هي الممارسة الرشيدة لسلطات الإدارة من خلال الارتكاز على القوانين والمعايير والقواعد المنضبطة التي تحدد العلاقة بين إدارة الشركة من ناحية، وحملة أسهمها وأصحاب المصالح أو الأطراف المرتبطة بالشركة من ناحية أخرى.

وفي تعريف آخر لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(OECD)  هي" النظام الذي يوجه ويضبط، أعمال الشركة، حيث يصف ويوزع الحقوق والواجبات بين مختلف الأطراف في الشركات مثل مجلس الإدارة، المساهمين ذوي العلاقة، ويضع القواعد والإجراءات اللازمة باتخاذ القرارات الخاصة بشئون الشركة كما يضع الأهداف والاستراتيجيات اللازمة لتحقيقها".

هذا، تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى البعيد وتحديد المسئول والمسؤولية، كما أنها الإطار الذي تمارس فيه الشركات وجودها، وتركز الحوكمة على العلاقات بين الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة والمساهمين وأصحاب المصالح وواضعي التنظيمات الحكومية ، وكيفية التفاعل بين كل هذه الأطراف في الإشراف على عمليات الشركة، إذ تعد الآلية التي يتم من خلالها تحديد إستراتيجية الشركة وأهدافها ومن ثم الوسائل المناسبة لتحقيق هذه الأهداف.

وأصبح الحديث عن "حوكمة الشركات" من أجل الكفاءة الاقتصادية ومعالجة المشكلات الناتجة عن الممارسات الخاطئة من قبل الإدارة الخاصة بالشركات والمراجعين الداخليين أو الخارجيين أو من قبل تدخل مجالس الإدارة، بما يعوق انطلاق هذه الشركات.
لماذا الحوكمة؟

   لقد اكتسبت قضية حوكمة الشركات أهمية كبيرة نظرا: 1- لدورها الحاسم في تجنيب الشركات مخاطر التعثر والفشل المالي و الإداري، فضلا عن دورها في تعظيم القيمة السوقية للشركة بما يضمن لها عنصر النمو والاستمرارية.

2- توفر الحوكمة معايير الأداء الكفيلة بالكشف عن حالات التلاعب والفساد وسوء الإدارة بقدر يؤدي إلى كسب ثقة المتعاملين في أسواق المال والعمل على استقرار تلك الأسواق .

3- كما تلعب دورا هاما في تجنيب الشركات من الانزلاق في مشاكل محاسبية تؤدي إلى انهيارات فيها و انهيارات لاحقة في الأجهزة المصرفية وأسواق المال.
4- الاكتشاف المبكر لانخفاض مستويات الأداء التشغيلي والمالي و اﻹداري بالشركات وعلاجه فور اكتشافه.

5- تعتبر أحدث توجه عالمي ﻹحكام الرقابة على ﺇدارات الشركات لمنعها من ﺇساءة استعمال سلطاتها، وحثها على حماية حقوق المساهمين وغيرهم من أصحاب المصالح ، وتحسين أدائها وممارساتها المحاسبية.

بالإضافة، فإن غرس ممارسات الحوكمة يؤدي إلى تعزيز ثقة الجمهور بنزاهة عملية الخوصصة بدرجة كبيرة، و يساعد على ضمان تحقيق الدولة لأفضل عائد على استثماراتها، مما يؤدي بدوره إلى زيادة العمالة والنمو الاقتصادي.

مبادئ و قواعد حوكمة الشركات:

  إن التطورات العالمية المتسارعة وتوالي الإخفاقات في مؤسسات مختلفة حول العالم في السنوات القليلة الماضية أبرز الحاجة إلى مؤسسات عالمية متخصصة لتعمل على تطوير آليات ودلائل عمل قابلة للتطبيق في مجال الحوكمة، و قد تبنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) هذه المهمة على الصعيد العام، و حرصت العديد من المؤسسات الدولية في العديد من الدول على تناول هذا المفهوم بالتحليل والدراسة وإصدار مجموعة من المبادئ على رأسها كل من صندوق النقد والبنك الدوليين إلا أن منظمة (OECD) كانت السباقة لوضع مبادئ الحوكمة عام 1999 ولقد تم مراجعة هذه المبادئ مرة أخرى بموجب تكليف من الدول الأعضاء في المنظمة عام 2002 لتخرج إلى النور مبادئ منظمة (OECD) للحوكمة المؤسسية المعدلة عام 2004 ، حيث شارك في دعم هذه المراجعة كل من البنك وصندوق النقد الدوليين وبنك التسويات الدولية ومنتدى الاستقرار المالي ولجنة بازل للإشراف المصرفي والمنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية.

و قد أكد الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن هذه المبادئ هي أداة فعالة تقدم معايير غير مقيدة وتطبيقات جيدة يمكن تبينها في ظروف معينة للدول والأقاليم، كما قامت العديد من الدول بوضع مجموعة من المبادئ المتعلقة بتطبيق مفهوم الحوكمة بها، وذلك عن طريق بورصات الأوراق المالية أو عن طريق حكوماتها و خلال السنوات الأخيرة أخذ عدد من البلدان العربية في الاهتمام بتطبيق المبادئ و القواعد الأساسية للحوكمة التي صاغتها منظمة التعاون الاقتصادي (OECD)والتي تلخصت في الآتي:

* ضمان إطار فعال لحوكمة الشركات: و ينص هذا المبدأ المتعلق بحقوق الشركات على أنه "ينبغي على إطار حوكمة الشركات أن يشجع على شفافية وفعالية وكفاءة الأسواق وأن يكون متوافقا مع أحكام القانون وأن يحدد بوضوح توزيع المسئوليات بين مختلف الخبرات الإشرافية والتنظيمية والتنفيذية".

* حقوق المساهمين والوظائف الرئيسية لأصحاب حقوق الملكية: و نصه "ينبغي على إطار حوكمة الشركات أن يوفر الحماية للمساهمين وأن يسهل لهم ممارسة حقوقهم"

* المعاملة المتساوية للمساهمين: و هو المبدأ الثالث من مبادئ حوكمة الشركات و ينص على أنه:

"ينبغي على إطار حوكمة الشركات أن يضمن معاملة متساوية لكافة المساهمين بما في ذلك مساهمة الأقلية والمساهمين الأجانب، وينبغي أن تتاح الفرصة لكافة المساهمين للحصول على تعويض فعال عن انتهاك حقوقهم"

* دور أصحاب المصالح: و مفاده أنه  "ينبغي على إطار حوكمة الشركات أن يعترف بحقوق أصحاب المصالح التي تنشئ القانون أو تنشأ نتيجة لاتفاقيات متبادلة وأن يعمل على تشجيع التعاون النشط بين الشركات وأصحاب المصالح في خلق الثروة وفرص العمل واستدامة الشركات السليمة ماليًا".

* الإفصاح والشفافية: ينص المبدأ الخامس على أنه:" ينبغي على إطار حوكمة الشركات أن يضمن القيام بالإفصاح السليم والصحيح في الوقت المناسب عن كافة الموضوعات الهامة المتعلقة بالشركة بما في ذلك المركز المالي والأداء وحقوق الملكية وحوكمة الشركات".

* مسؤوليات مجلس الإدارة: و ينص المبدأ الأخير على أنه: " ينبغي أن يشمل إطار الشركات دليلا استراتيجيا للشركة ومراقبة فعالة للإدارة التنفيذية مجلس الإدارة من خلال مساءلة المجلس أمام الشركة

والمساهمين"

مقومات فاعلية قواعد حوكمة الشركات:

   يحتاج كل نظام إلى ركائز قاعدية يقوم عليها، ونظام الحوكمة بدوره يقوم على مجموعة من الركائز تكفل للشركة تحقيق أهدافها، باعتبارها شخصية معنوية مستقلة تسعى للمنافسة، و النقاط التالية توضح أهم هذه المقومات:

§ وجود قوانين وتشريعات تعنى بحقوق المساهمين، كحق التصويت وانتخاب مجلس الإدارة ، وتعنى كذلك بتنظيم مجلس الإدارة ببيان صفاته من حيث التأكد على استقلاليته، وبيان مهامه ومسؤولياته، وكذلك بيان مسؤوليات الإدارة التنفيذية، وحقوق أصحاب المصالح و واجباتهم.

§ وجود لجنة تدقيق داخل الشركة يتمتع أعضاؤها بالاستقلالية وبمؤهلات عالية وخبرة جيدة، بحيث تقوم اللجنة أولا بالتأكد من وفاء الشركة بالمتطلبات المتعلقة بالإدارة التنفيذية، والتدقيق الخارجي، وإجراءات الإبلاغ المالي من حيث الأمانة والجودة.

§ وجود عمليات حوكمة فعالة داخل الشركة تعمل على تنظيم الاجتماعات والاتصالات

بين الإدارة والإدارة التنفيذية والموظفين.

§ وجود أنظمة إدارية داخلية على درجة عالية من الكفاءة، والفاعلية مثل نظام شؤون

الموظفين، و نظام الإفصاح الذي يهتم بتوفير المعلومات اللازمة لأصحاب المصالح.

§ تحديد صلاحيات ومسؤوليات كل عضو في الشركة، وإجراء المراجعة الدائمة وتعديلها

إذا اقتضى الأمر ذلك، مما يسهل على جميع المتعاملين داخل الشركة معرفة حدود عملهم

وما هو مطلوب منهم، من أجل خدمة الشركة وتحقيق أهدافها.

خصائص الحوكمة الجيدة في الشركات

  ذكر جون كولي في كتابه حول حوكمة الشركات، إن نموذج الحوكمة للشركات الناجحة

يجب أن يشمل الخصائص التالية:

· مجلس إدارة قوي وفعال ينفذ مسؤولياته بشكل سليم.

· رئيس تنفيذي مؤهل يتم اختياره من قبل مجلس الإدارة و له صلاحيات لإدارة أعمال الشركة.

· الأعمال التي يتم اختيارها من قبل الرئيس التنفيذي يجب أن تتم بموافقة مجلس الإدارة.

· إفصاح كافي وملائم عن أداء الشركة للمساهمين والمجتمع المالي.

ويرى جونثان شاركهام أنه من الصعب التعرف من داخل الشركة عما إذا كان نظام

الحوكمة يعمل بشكل حقيقي، غير أن هناك أدلة وقرائن تشير إلى مدى توفر متطلبات هذه

الحوكمه، وذلك من خلال الوقوف على العديد من الأحكام والتقديرات التي من الممكن أن يكون لها تأثير على أوضاع الشركة وديناميكية العمل فيها.

حوكمة الشركات في بيئة الأعمال الدولية

    من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في تطبيق قواعد الحوكمة حسب النظام المعمول به

في كل دولة، حيث تتباين ممارسات الحوكمة بين الشركات، و تختلف تبعا للظروف، إلا أنه رغم تلك الاختلافات يجب أن تكون قواعد حوكمة الشركات مرنة ومتطورة إلى جانب إتاحتها مجالا يمكن فيه للقطاع الخاص التحرك اختياريا لإدخال التحسين والتطوير.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال أظهر مفهوم الحوكمة بعض نقاط الضعف في ممارسات تطبيق قواعد حوكمة الشركات في كثير من المناحي مثل أزمة شركة إنرون  Enronو أزمة شركة ورلدكوم وأخيراً الأزمة المالية التي تضرب الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعصف بالعالم لارتباطه بالاقتصاد الأمريكي، والتي أفرزت عددَا من قضايا سوق المال التي تستحق الدراسة، وقد أوضحت الأزمات نقاط ضعف في الرقابة على الأنشطة المالية للمؤسسات غير المالية .

وفى أعقاب الانهيارات المالية لكبرى الشركات الأمريكية في عام 2002 ، تم إصدار Sarbanes-Oxley Act الذي ركز على دور حوكمة الشركات في القضاء على الفساد المالي والإداري الذي يواجه العديد من الشركات من خلال تفعيل الدور الذي يلعبه الأعضاء غير التنفيذيين في مجالس إدارة الشركات، والتركيز على ضرورة أن يكون غالبية أعضاء مجلس الإدارة من الأعضاء غير التنفيذيين، مع تحديد الشروط التي تمنح لهم المسئولية داخل مجلس الإدارة أو داخل اللجان التابعة له.

أما بالنسبة للدول العربية فقد اهتمت العديد منها في السنوات الأخيرة بتطبيق مفهوم حوكمة الشركات و ما تعلق به من قواعد و مبادئ، و تم تنظيم العديد من المؤتمرات التي تناولت الموضوع وأوصت بضرورة تطبيق هذه المبادئ و القواعد بما يتماشى مع الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لكل دولة ، حيث قامت بخطوات جادة بالتعاون مع كثير من المؤسسات الدولية لتقييم  تشريعاتها الخاصة بحوكمة الشركات.

ومن ضمن المبادرات التي قدمت لإرساء قواعد حوكمة الشركات في المنطقة ، صدر تقرير عن المنتدى الإقليمي الثاني لحوكمة الشركات ، الذي عقد في بيروت في يونيو  2004  بعنوان "حوكمة الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحسين الإفصاح والشفافية" ، تم اعتبار حوكمة الشركات المفتاح الرئيسي لتحديث الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن ضمن التوصيات التي أوصى بها المنتدى أن يتم إنشاء منتدى سنوي على المستويين القومي والإقليمي وفقا لأفضل المعايير والمستويات الدولية لتنفيذ قواعد الحوكمة، و تشكيل مجموعة عمل قومية للحوكمة في كل دولة من الدول المشاركة، وإجراء عملية مسح في كافة دول المنطقة، كما أوصى بإتباع مبادئ وقوانين ومعايير محاسبية و أخرى للمراجعة.

المصدر: بوجحيش خالدية
  • Currently 48/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 1739 مشاهدة
نشرت فى 12 ديسمبر 2010 بواسطة khaldiabouj

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

63,672