(1)
قريتي التي تغرب الشمس من تحت إبطيها.. عفّرت وجهها بملح الحزن، وهي تستقبل- بقلب مفطور- الخبر:
-مات رشاد..!
بالأحرى استشهد، رحل كالحلم، لم يكن قد غادر قلب والدته بعد؛ رائحته وهو يقبل جبينها مودعاً، لم تزل عبقة تملأ روحها، وتلويحة الوداع ظلت على جدار القلب حية مفعمة بالأمل: سأعود قريباً إن شاء الله.. لا تنسي أن تبلغي خطيبتي تحياتي. يُشعرنا الموت بقوة بطشه، وهو يتجول في الربوع، ويخطف فلذات الأكباد هكذا كيفما اتفق؛ يتجلّى ذلك في خبر مفقوء العاطفة يمجّه مذيع تلفزيوني حد الغثيان: « ... هؤلاء هم شهداء الواجب، الذين اغتالتهم يد الغدر والخيانة؛ لما يُسمى بالقاعدة». في الخلفية هناك هتاف، وهتاف آخر، وموت كثير...
(2)
قريتي -المنسية في نقش حميري- استيقظت على الحزن، البكاء والمواساة، فالرضى بقضاء الله:
-كيف مات..؟!
-فجّر انتحاري سيارة مفخخة في نقطة تفتيش؛ فقتل رشاد ورفاقه.
-في زنجبار..؟
-نعم..
-لأجل من يحدث هذا..؟!
-لا أدري..
-هذا عبث.
الصمت..، وغبار يدفعه الفضول، وحزن ثقيل، وأسئلة وحقائب، وأقدام لاهثة، امتلأت بها الطرقات: إلى أين تذهبون؟! إلى صنعاء .
(3)
صنعاء التي اختنقت بالرصاص، ونقاط التفتيش، وأطماع الساسة؛ تلقفتنا متجهمة، ولم تكترث لمذاق أحزاننا. وقف والد رشاد يستقبلنا صامداً لم يشرخه الحزن. تلقى تعازينا، وغلفها بالصمت، وتركها تجف لوقت آخر:
-لا تحزن.. مات شهيداً وهو يؤدي واجبه.
-« ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً
-«.. صبّركم الله. كتب الله أجركم. ..............
(4)
أمست صنعاء في الظلام، ونحن ابتلعتنا العتمة، لم ندرِ أين نضع أقدامنا. همس صوت جاف متكسر: اجلسوا هنا، سيأتي ابني بالمصباح. وصل مصباح الجاز، واتكأ على ركن قصي، وبدأ يطارد الظلمة. في وسط الغرفة كان جثمان رشاد مسجى في تابوت، وملفوفاً بالعلم الوطني:
-متى سيدفن؟!
-غداً..، ستقام له ولرفاقه مراسم تأبين، ويدفنون في مقبرة الشهداء.
احتضنا التابوت بأعيننا، وذكرنا الشهيد بما يجب. كانت الكلمات تحترق في أفواهنا وتتحول إلى رماد، وكان التابوت رويداً رويداً يغوص في العتمة، ومصباح الجاز الضئيل- عند الزاوية- يلفظ أنفاسه مختنقاً بظلامٍ كثيف..!