والإعلام، أولاً وقبل كل شيء، يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي، ولا نجافي الحقيقة إن قلنا: بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام، حيث إنه أصبح يغطي كل الجوانب الإنسانية، ويشكل نظرة الإنسان، ويمنحه المعيار الذي ينظر منه إلى الأشياء، بل يدربه على ذلك، ويقدم له النتائج، فهو يقرأ له، ويكتب له، ويروي له، ويبيع له، ويشتري له، ويخترق شخصيته القائمة، ويساهم بصنع شخصيته المستقبلية، إلى درجة أصبح يمكن معها التنبوء بردود الأفعال الممكنة، ووضع الحلول والأوعية المطلوبة لحركتها مسبقًا.
وليس أمر الإعلام كمؤسسة تربوية تعليمية بأقل شأنًا، ذلك أن الإعلام أصبح، بما أتاح من وسائل متنوعة، يغطي قطاعات واسعة وعريضة من المواطنين، باهتماماتهم واختصاصاتهم وأعمارهم، ابتداءًا من عالم الطـفولة وانـتهاء بحـالات الشيخــوخة، لـذلك فالفاقد للوسيلة الإعلامية أصبح اليوم كالفاقد لحاسة من حواسه، فهو أشبه بالمعاق.
إن هذا الاستحواذ على الناس جميعًا، في مختلف ثقافاتهم ومواقعهم وأماكنهم، أمر يصعب تغطيته بوسائل وبرامج التعليم النظامي، سواء من حيث المساحة أو الوقت، أو الأدوات، أو التقنيات، أو السويات المتنوعة، أو المواد المقررة والوجبات المطلوبة، حيث يقدم الإعلام اليوم الثقافة والتوجيه والترفيه والمعلومة، إضافة إلى أنه يتميز بالاستمرار وتراكم التأثير، والتنوع، والتطوير، والابتكار للوسائل التي لا تتوقف .
فالإعلام تعليم دائم ومستمر، ولكل الأجيال، من الأطفال وبناء خيالهم العلمي، والشيوخ، والذكور والإناث، إضافة إلى امتلاكه، من خلال الوكالات وشبكة المراسلين من مواقع الأحداث، القدرات الخارقة في الحصول على المعلومة، والوصول إلى المتخصص في الأمر المطلوب، وإبداعه للوسائل التعليمية المتميزة، وحسن استخدامها من الصوت واللون والصورة واللغة والظلال والديكور... حيث حول الإعلام بإمكاناته الهائلة ورحابته ووسائله غرف التعليم التقلـيدي، بسبورتـها وأقـلامها ومـقاعدها وكتـابها ووسائـلها، إلـى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون أو "الإنترنت " أو "الكمبيوتر ".
والذين يحاولون استشراف المستقبل يتوقعون أن يتم الإعداد والاستـعـداد لتقنـية الوسـائل التعليمـية وتأمـيـن الاتـصال عـن بـعـد بما يغني عن الذهاب إلى المدرسة، وإنما تأتي بالمدرسة والمدرس والوسائل إليه في مقعده أمامها.
أما الشأن الإعلامي ودوره في السياسة والمغالبة الحضارية، فحدث ولا حرج، فالمعلومة وتوصيلها باتت اليوم هي السلاح الأكثر فاعلية ومضاءًا، فهي أشبه بالسلاح الكاتم للصوت.. إنها حقبة المعلومة المرنة، أو حقبة الإعلام.. لقد تحولت الأمم من معلومة السلطة إلى سلطة المعلومة.
فإذا كان للمسألة الإعلامية هذه الأبعاد والآفاق والقدرة العجيبة على الاختراق لمجالات الحياة جميعًا، فإنها تتطلب أن تتحول إليها وتصب فيها جميع الجهود.. ولا نأتي بجديد إن قلنا: إن الإعلام اليوم هو ثمرة للعلوم جميعًا، ليس العلوم الإنسانية والاجتماعية فحسب، بل والعلوم التقنية والتجريبية.. وهو محصلة لشعب المعرفة جميعًا، من علم اللغة، والاجتماع، والتاريخ، والنفس، والإنسان، والتربية، والتعليم ...الخ.
إن العلوم جميعًا تتضافر اليوم لإنجاز إعلام مؤثر، فالعالم بعد اختزال الزمان والمكان والمسافات، أصبح دولة إعلامية واحدة، أو قرية إعلامية، والدول الجغرافية أصبحت أحياء وحارات في هذه القرية.. ومن هنا ندرك لماذا كانت معجزة الرسالة الخاتمة معجزة إعلامية بيانية مجردة عن ظروف الزمان والمكان.
فالتكليف الشرعي -فيما نرى- ليس بأداء العبادات من صلاة وصيـام وزكاة وحـج فقـط، وإنـما الارتـقاء بوسـائلنا النـافذة والـمؤثرة، لتكون بـمستوى الإسـلام والعصر، لتبلغ الإسلام وتظهره، وبذلك ندخل حلبة الـمغالبة الحضارية، أو المدافعة الحضارية، والحوار الـحضاري، والـدعـوة إلى كلـمة سـواء، بأدواتـها المناسبة وتخصصاتها المطلوبة.
ولـعـل اللغـة تـمثـل فـي نهايـة الـمطـاف، سواء كانت منـطـوقـة أو متكوبة أو مسموعة، الوعاء الإعلامي الأهم، على الرغم من أهمية الوسائل الأخرى.. وقد بلغت لغات الإعلام عند الأمم اليوم شأوًا بعيدًا وشأنًا مؤثرًا باختيار الأصوات الملائمة، والنبرات المؤثرة، والصورالأخاذة، والمصطلحات المأنوسة، والوجه المناسب، والشخصية الملائمة، فلكل وعاء إعلامي مواصفات في التحرير والإخراج والأداء، والصورة والصوت، والديكور، والتقديم، واللباس، وحركات الوجه والحواس، التي تمثل وسائل اتصال غير مسموعة.
وتخضع العملية الإعلامية الـجادة دائمًا لعمـليات مـراجـعـة وتقويـم وتطوير، وتـجديد وتنويع، ودراسة جدوى، وقياس الجدوى، من متخصصين في شعب المعرفة جميعًا، وتنفق عليها الأموال الطائلة لبناء إمبراطوريتها المعاصرة.
فإذا كانت اللغـة عقيمـة متكلـفـة غـير مـأنـوسـة وغـير ملائـمة، فلا تنتج سوى القيم التعبيرية القاصرة والبائسة والمعقدة التي تتحول إلى قبور للمعاني، لا تلبث أن تنقرض وتخلي المكان لغيرها.
لقد نجح الإعلام، وفي كل يوم يحقق نجاحات إضافية في توظيف التقنية الحديثة في خدمة الثقافة السياسية والاجتماعية والـحضارية وتـحديث المـجتمعات، وفــق منهجه وأهــدافه ورؤيـتـه في التحديث، التي قد تـؤدي إلى الاســتلاب الـحضاري للأمـم العاجزة والمتخاذلة.
إن شمولية القضية الإعلامية للمجالات الحياتية جميعًا، إلى جانب نقل الأخبار، وترجمتها للحياة اليومية، وتسجيلها للتاريخ المعاصر، سوف تكون له نتائج وتداعيات على المستويات كافة.
فإذا كانت العملية الإعلامية بهذه الخطورة، وكانت اللغة هي أداتها ووعاؤها، وكانت العربية وعاء المعجزة الإعلامية البيانية، فأين دور العـربـية فــي وسـائل الإعـلام الــيـوم، والوصول إلى الآفـاق الـحياتية الـمتعددة؟
إن الوضع المحزن يتمثل في أن اللغة العامية، لغة الجهل، تتقدم، والفصحى، لغة العلم والتاريخ والتراث والحضارة، تتراجع إلى المعاجم، وأن أساليب تعليمها باتت لا تشجع بل قد تنفر.. والـمشكلة الأساس في كيفية الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، ولا نعني بالارتقاء بها مجرد رصد وإحصاء الأخطاء على الإعلامي ومحاولة تصويبها.
ومـا أزال أذكر بهـذه الـمناسبة ما سمعته من بعض الباحثين من أن أحد الأدباء الكبار عندما ألقى محاضرة في بلاد الـمغرب العربـي، أحصى عليه طالب من دارسي علوم الآله (علوم اللغة ) حوالي سبعة عشر خطأً لغوياً، ومن ثم غاب هذا المحصي ولم يسمع أحد به بعد المحاضرة، وقدم ذلك الأديب الكبير مساهمات أدبية في مجال الأدب الجاهلي والإسلامي و السيرة والمقالة ما نعلمه جميعًا.
نشرت فى 20 ديسمبر 2011
بواسطة ketaba
مركز مصادر التعلم بجامعة المدينة العالمية بماليزيا
http://www.mediu.edu.my/ar/
عدد زيارات الموقع
245,754
ساحة النقاش