ميــــزات الكتــــابة العـربيـــة 


أولاً: الكتابة العربية كتابة (فونيــمية)، ولا بد لفهم هــذه الميـــزة أن نفـــهم أولاً فهــمًا مختصرًا وميسرًا المقصود بالفونيم ( phoneme). 

لو استمعنا إلى الصاد في كلمة مثل (قَصْدُهُ)، للاحظنا أن الغالب في نطقها أن تكون مشبهةً للزاي المفخمة، فهي -إذا صح التعبير- مزيج بين الزاي والصاد، ومرد ذلك إلى تأثير الجهر في الدال المجاورة للصاد المهموسة. ولا يستبعد أن يتأنّى المتكلم عند نطقه لهذه الكلمة بحيث يجعلها صادًا خالية من أي جهر بتأثير الدال. ولو نظرنا إلى كلمتين أخريين تحويان الصاد أيضًا، وهما (صاحَ) و(صان)، فسنجد أيضًا اختلافًا يبن هاتين الصادين والصاد في كلمة (قصده).. ففي حين تخلو الصادان في (صاح) و(صان) من الجهر، نجد في الصاد في (صان) شيئًا من الغُنَّة بتأثير النون، ولا نجد تلك الغنة في (صاح). 

ويمكنــــنا أن نـــذهب إلى أبعــد من ذلك، فهــذه الصادات لا تتأثر بالأصوات المجاورة لها فحسب، بل تتأثر أيضًا بالناطق من حيث جنسهُ أو سنه، أو تعجله أو تباطؤه في الكلام، وكونه غاضبًا أو متعبًا... إلخ

تتضافر إذاً عوامل عدة تفعل فعلها في تغيير الصوت الواحد (وكانت الصاد مثالنا ههنا)، بيد أننا نعد هذا الصوت صوتًا واحدًا، بالرغم من الاختلافات في نطقه. هذا الصوت (الذي نعــده في ذهنـــنا واحــدًا) صــوت مجـــرَّد أو مُسْتَـــخْلَص من هذه الأشكال المتعددة المختلفة في نطقه، إنه بعبارة أخرى (الجوهر) الكامن وراء (المظاهر) المتعددة، فهو -إذا صح التعبير- (صوت رئيس) وليست هذه الأشكال المختلفة لنطقه إلا (أصواتًا فرعية). 

وتبــرز هويـــة هذا الصوت الذهني، المجــرد، وقيــمته إذا وازينا بين كلمتين متساويتين في أصواتهما جميعًا باستثناء صوت واحد، كقولنا (صالح) و(طالح). فهاتان الكلمتان لم تختلفا إلا في الصوت الأول، غير أن هذا الاختلاف جرَّ إلى اختلاف في المعنى

يصطلح علماء اللغة على تسمية هذا الصوت المجرد بالفونيم، وفي وسعنا أن نقدم تعريفًا مبسطًا له بأنه: الصوت الذي يؤدي استبداله بصوت آخر إلى تغيير في المعنى، شريطة بقاء البيئة الصوتية (أى: الأصوات السابقة واللاحقة للصوت المعني) ثابتة. ففي مثالنا السابق (صالح) و(طالح)، الفرق الوحيد هو حلول الطاء محل الصاد، ومن ثم يمكن القول: إن الطاء والصاد فونيمان متصلان في العربية، لأن إحلال أحدهما محل الآخر (ضمن البيئة الصوتية نفسها) أدّى إلى تغيير المعنى.. ولو جئنا بالصاد في كلمة (قَصْد) وفيها شبه بالزاي، وأحللناها محل الصاد في (صالح) لاستشعرنا نوعًا من الشذوذ في النطق، وكذلك لو جعلنا الصاد ذات الغُنَّة في (صان) محل الصاد في (قصد) لأحسسنا أيضًا بقدر من الشذوذ، ولكن المعنى في الحالتين كلتيهما، لم يتأثر

نخرج من ذلك كله بأن الفونيمات هي الأصوات الرئيسة، والمهمة في اللغة، وهي القادرة على تغيير المعنى.. والمعنى -كما نعلم- جوهر النشاط اللغوي

ولو تأملنا الكتابة العربية لوجدنا أنها قد وضعت لكل فونيم عربي حرفًا يدل عليه، لم تهمل من ذلك شيئًا. وإذا كنا قد أشرنا إلى أمثلة كان موضع اهتــمامنا فيها هو الصوامت consonants فإن هذا لا يعني إهمال الكتابة العربية لفونيمات أخرى هي الصوائت vowels الطويلة (الألف والواو والياء) والقصيرة (الفتحة والضمة والكسرة)، لأن هذه الصوائت فونيمات من شأنها تغيير المعنى، كما في بَرْد وبُرْد وبَرَد وبارِد، ووَرْد ووِرْد وورود، وقَلْب وقَلَبَ ... إلخ

ولو نظرنا إلى هذه الكتابة في علاقتها بالفونيمات، لوجدنا أن عنايتها توجهت إلى الفونيمات دون غيرها. أما الأصوات الفرعية (الألفونات allophones) الناتجة عن تأثر الصوت بالأصوات الأخرى المجاورة (كهمس الباء في (ابتسام) وجهر السين في (أَسْدَل)، وغير ذلك مما مر بنا) فلم تعطِها الكتابة العربية رموزًا منفصلة، لأنها غير ذات شأن في تغيير المعنى

ولعل من النـتائج المهمة التي نستطيع تلمسها في هذا الخصوص، أن الكلمة العربية المحرَّكَة كافية وحدها لإرشاد القارئ إلى كيفية نطقها. بعبارة أخرى، لو وجد القارئ العربي أمامه كلمة مثل (مُنْقَلَبُ)، فلن يتردد أو يتلكّأ في قراءتها قراءة صحيحة، حتى لو لم يكن قد سمع بها من قبل، من غير الاستعانة بوسيلة أخرى. وقل الشيء نفسه فيما إذا أراد الكاتب أن يكتب تلك الكلمة (أو غيرها) حتى لو لم يكن على معرفة سابقة بها

في مقابل ذلك، لا يستطيع القارئ الإنجليزي أو الفرنسي أن يقرأ كلمة في لغته قراءة صحيحة ما لم يكن قد سمعها من قبل. وإذا صادف أنه لم يكن قد عرفها من قبل، فلا بد له أن يستعين بالكتابة الصوتية Phonetic Transcription التي ترافق الكلمات في معظم المعجمات الحديثة في تينك اللغتين. فكلمة مثل ( book ) نجد في جانبها رسمًا آخر، مثل: [ buk] ، فالأول هو الرسم المستخدم عادة في كتابة الكلمة، والثاني هو كيفية نطقها(2). 

وعلى هذا نجد رسمين لكل كلمة، لإرشاد القارئ أو المتكلم إلى كيفية النطق. ذلك أن قواعد الإملاء في الفرنسية والإنجليزية تبلغ في ضآلتها وقلتها حدًا تسعف فيه صاحبها مرة، وتخذله مرات

ومن الطريف أن نشير في هذا الخصوص إلى أن طريقة الكتابة الصوتية التي استخدمنا ههنا واضعين إياها بين معقوفتين، هي واحدة من عشرات الطرائق المستخدمة في المعجمات لتبيان كيفية النطق الصحيح للكلمات، مما يستدعي من مصنف المعجم أن يذكر في بداية معجمه النظام الذي سيتبعه في معجمه مع ذكر مثال أو أكثر على كل صوت

فالكتابة العربية (مكتفية ذاتيًا) بعلاقة كتابتها بأصواتها، وهذا ما يجعل تلميذًا لا تعدو ثقافته الدراسة الابتدائية أن يكتب كلمة لا معنى لها مثل (دَيْز) كتابة صحيحة، مستندًا في ذلك إلى هذا الانضباط الموجود في العلاقة بين فونيمات اللغة العربية وكتابتها. بيد أن الفرنسي لا يستند إلى أي قدر من الانضباط عندما يكتب كلمة monsieur (بمعنى سيِّد وتنطق: مسيو، بإمالة الواو مع غُــنَّة) وإنما يستـــند إلى ذاكرته، لا إلى قواعد

ثانيًا: لا يعبِّر الحرف المكتوب في العربية إلا عن الصوت نفسه في الأحوال كلها. فأينما نجد الرمز (ب) فلن يحتمل تفسيرًا صوتيًا غير تفسيره بفونيم الباء. ولا يمكن إعادة استخدام هذا الحرف (أو غيره) للتعبير عن أصوات أخرى. في حين يحتمل حرف ( c ) أكثر من قراءة، وقد لا يقرأ أصلاً

ثالثاً: لا يكتب الفونيم الواحد في العربية إلا برمز أو رموز محددة سلفًا، وقليلة العدد، يتراوح عددها ما بين (1-4) أشكال. وهذه الأشكال في عمومهامتقاربة، فالتاء مثلاً في ترك، ويترك ونبت، وبات، يقترب شكل بعضها من بعض. فإذا سمعنا كلمة (قَلَم) وأردنا كتابتها، فإن صوت القاف، مثلاً، لا يحتمل في التعبير عنه كتابيًا إلا وجوهًا معينة. واختيار وجه دون آخر، أي استخدام قـ بدلاً من ــقـ ، أو ــق، أو ق، إنما يكون ضمن ضوابط وقواعد معروفة سلفًا

وقبل أن نمضـي في ذكر الميـــزات الأخرى للكتـــابة العربية، لا بد أن نوضح أن الميزات الثلاث التي سلف ذكرها ليست مفصولة على نحو مصطنع، كما قد يُظن. فالميزة الأولى تبين التزام الكتابة العربية بالفونيمات العربية، لا تهمل منها شيــئًا ولا تزيد ما ليس منها (مع ملاحظة الميزة السادسة)

أما الميزة الثانية فتشير إلى اقتصار الحرف العربي على تعبيره عن صوت معين دون غيره، بحيث لا يحتمل أكثر من تفسير (في حين يحتمل الحرف في الإنجليزية والفرنسية في كثير من الأحيان تفسيرات عدة، كما ذكرنا في الفقرة الخاصة بنواقص في الكتابتين الفرنسية والإنجليزية في الفصل السابق).

وتوضح الميزة الثالثة انحصار أو تقييد التعبير عن الفونيم العربي الواحد بعدد محدود جدًا من الأحرف

ويبدو أن أُلفتنا بالعربية وعدم اطلاع كثير منا على مزالق الكتابات الأخرى، تجعلنا ننظر إلى هذه الميزات على أنها مسلّمات تستلزم إحداها الأخرى، غير أن افتقار لغات أخرى إليها ينبهنا إلى وجودها في الكتابة العربية

رابعًا: لا تختلف الكتابة العربية تبعًا للطائفة، أو النحلة، فهي كتابة واحدة عند العرب جميعًا، من غير تأثر بالجغرافيا أو التاريخ. في حين أننا نجد لغة كالسريانية تستخدم ثلاث كتابات (الشرقية، والغربية، والخط السطرنجيلي) كما هو موضح في الملحق رقم "1". 

خامسًا: تخلو الكتابة العربية عمومًا من شواذ الكتابة، باستثناء كلمات قليلة جدًا (مثل: عمرو، مائة، داود،...إلخ)، ينحصر معظمها في أسماء الأعلام، بحيث أمكن تعداد تلك الشواذ وإحصاؤها. وعلى العكس من ذلك، لسنا مبالغين إذا ما قلنا: إن عدد الشواذ في العربية يقارب عدد القواعد في اللغتين الإنجليزية والفرنسية

سادساً: تخــلو الكتابة العربيـــة من ظــاهرة الحروف التي تُكتب ولا تقرأ، أو ما يسمى بالحروف الصامتة (silent letters) إلا بضوابط وقواعد معروفة ومقررة سلفاً، علاوةً على إفادتها شيئًا ذا قيمة. فالألف الثانية في كلمة (قاتِلوا) غير مقروءة، ولكنها لحقت هذه الكلمة لأنها فعل، في مقابل الاسم (قاتلو) الذي هو جمع مذكر سالم لـ (قاتِلُ). 

ونجد في الإنجليزيـــة والفرنسية تسيـــبًا في معرفة ما يقـــرأ وما لا يقرأ. فمن يواجه كلمة في تينك اللغتين لا يستطيع أن ينطقها نطقًا صحيحًا مستندًا إلى رسمها، ولذا يتوجب عليه إما أن يسمعها منطوقة وإما أن يجد ملاذه في المعجمات التي تشير إلى الكتابة الصوتية المرشدة إلى كيفية النطق الصحيح

سابعًا: لا تؤلف كتابة العربية الحالية عقبةً لمن أراد قراءة المخطوطات العربية القديمة.. بعبارة أخرى، يستطيع العربي، حتى لو كان ذا حظ يسير من العلم، أن يقرأ آلاف المخطوطات التي كتبت قبل مئات السنين، ولا يستدعي منه ذلك إلا الإلمام بمسائل قليلة جدًا (مثل تسهيل الهمزة في المخطوطات القديمة، فكلمة (قائل) -مثلاً- تكتب: (قايل))، وتلك المسائل كانت من مواصفات النساخ

فالعربي ليس مطالبًا بدراسة نظام كتابي جديد وإتقانه كي يتمكن من قراءة المخطوط القديم، لعدم وجود فجوة كتابية بين كتابتنا الحالية والكتابة العربية قبل أكثر من ألف سنة. وهذا يعني أن الكتابة العربية ليست جسرًا يوصل القارئ إلى مرحلة زمنية قصيرة ثم يتوقف، بل يمتد إلى عمق الثقافة العربية والتراث العربي، وهذا ما يعطيها قيمة وميزة على الكتابات المُنْبَتَّة عن ماضيها

وهذه الميزة التي ذكرناها، صرح بها المدافعون عنها، وأقرّ بها ضمنًا منتقدوها الداعون إلى تغييرها حينما ذكروا أن من مشكلات تغيير الكتابة العربية ما يستدعيه ذلك التغيير من إعادة كتابة المخطوطات القديمة. فلو لم تُفِد الكتابة الحالية في كونها مفتاحًا للمخطوطات القديمة لما اضطر أحد إلى ذكر مسألة المخطوطات أصلاً

ثامنًا: حافظت اللغة العربية، بفضل القرآن الكريم أساسًا، على أرفع درجة ثبات في القيمة الصوتية لأصواتها، مما جعل الكتابة العربية تحافظ، تبعًا لذلك، على المقدار نفسه من ثبات القيمة الصوتية لحروفها

ولتبيان ذلك نستطيع أن نقول: أن نطقنا الحالي للأصوات العربية متطابق تطابقًا كبيرًا مع النطق العربي للأصوات نفسها قبل أكثر من 1400سنة، بدليل أن قراءة القرآن الكريم، وهي أفضل مصادرنا لتمثيل النطق العربي القديم، لا تحوي أصواتًا غريبة علينا، ولا تسقط أصواتًا نستخدمها الآن مما لم يكن له وجود في الماضي

فالكتابة العربية إذاً ليست فونيمية في علاقتها بالنطق الحالي فحسب، وإنما تستبقي سمتها الفونيمية حتى في النطق القديم للأصوات العربية

وقد تمنعنا أُلفتنا بالعربية من التفكير في هذه الميزة، ولكننا لو تأملنا في احتمال افتقار العربية إلى هذه الميزة، لاتضحت المشكلة كل الاتضاح. فمن المحتمل أن يحافظ الحرف على شكله، ولكن قيمته الصوتية (أي: طريقة نطقه) لم تكن مساوية لقيمته الصوتية الحالية. ولعل من الأمثلة البارزة على ذلك حرف الراء الفرنسي، فإنه ما زال يكتب راء، ولكنه لم يعد ينطق راء كما في الماضي، بل بات ينطق غينًا

ومن أمثلة ذلك أيضًا وجود كلمات في اللغة الإنجليزية تتضمن الحرفين (gh ) غير منطوقين، مثل ( night, right, light ... إلخ) إلا أن هذين الحرفين كانا يومًا ما ينطقان خاءً -كما هو الحال في الألمانية الحديثة- فبقي الحرفان في الكتابة، ولكن قيمتها الصوتية اختلفت، وسنشير في الفقرة الخاصة بمكانة الكتابة العربية، إلى أمثلة أخرى من لغات أخرى، على هذه الظاهرة

تاسعًا: أشرنا ضمنًا في هذا الفصل والفصل السابق إلى كون الكتابة العربية منضبطة بأحكام وأصول، تعصم من يلم بها من الخطأ الإملائي. ولكننا لو تساءلنا عن القاعدة التي كُتِبت وفقها الكلمتان الإنجليزيتان principal (وتعني: المدير، أو الرئيسي) و principle (وتعني: القاعدة، المبدأ) فلن نجد قاعدة، ولو وُجِدت لما كتبت كلمتان تنطقان نطقًا واحدًا بشكلين مختلفين

شرُفت الكتابة العربية وقبل ذلك اللغة العربية نفسها، بهذه المزايا، وصمدت صَمْداً في مواجهة معاول من شأن كلٍّ منها وحده أن يثلمها ويلويها ليّاً، كما حدث فعلاً في لغات قديمة وحديثة. ومن تلك العوامل التي كان يمكن أن تضرّ بالعربية وكتابتها ما يأتي

1.
بُعد الشقة الجغرافية للعرب، فالمسافة بين الناطقين بالعربية تمتد إلى آلاف من الكيلومترات. وبالرغم من ذلك نجد العربية الفصحى موحَّدة وموحِّدة. في حين أن المسافة الجغرافية بين الإنجليزتين البريطانيــة والأمريكية خلفت فروقًا كتابيــة (وغير كتابية) مثل ( labor, labour) و ( goal, jail) وغير ذلك كثير

2.
العمق التاريخي للكتابة العربية، وقبل ذلك للغة العربية. فنحن نتحدث عن كتابة عريقة فاقت في عراقتها معظم اللغات الحية (كما سنبين في الفقرة الخاصة بمكانة الكتابة العربية). في حين نجد الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (1596-1650م) مثلاً، أول من كتب باللغة الفرنسية، حيث كــان الفرنسيـــون يكتبـــون قبل ذلك باللغـــة اللاتيــنيـــة. أي أن القرون الطويلة لم تفعل فعلها في العربية وكتابتها، في الوقت الذي انقرضت فيه لغات، وتشعبت لهجات قسم منها إلى لغــات منفصــلة، كتحــول الفرنسيــة والإيطاليـــة والأسبانيــة والبرتغاليــة والرومانيــة الحديثــة، من لهجـــات لاتيــنيــة إلى لغات منفصلة

3.
الغزوات الأجنبية للأراضي العربية، التي قام بها أقوام اختلفت أعراقهم ودياناتهم وحضاراتهم، من مغول وفرنسيين وإنجليز ... إلخ

وليس ببعيد عنا ما حدث من إحلال لغة المستعمِر محل اللغة الأصلية في بلدان مثل هاييتي (التي تتكلم الفرنسية الآن)، وجامايكا وسيراليون (اللتين تستخدمان الإنجليزية في الوقت الحاضر)

4.
طائفة من المثقفين العرب المُحْدَثين أعملت قدراتها العقلية وأقلامها ووزنها الفكري في البحث والتنقيب عما عدوه معايب في العربية. فهذا يدعو إلى نبذها وتخلفها، وذاك ينادي بأنها تحدث نوعًا من الأمراض النفسية (!) وثالث يدعو إلى تبديل حروفها.. صحيح أن الدوافع كانت مختلفة ما بين شخصٍ يريد أن يجعل من جماجم العربية جسرًا له ليدخل إلى التاريخ بوصفه القائل بكذا أو المنادي بكيت، وشخصٍ آخر يشعر بأن ما قام به (مصطفى كمال) من تبديل الكتابة التركية عمل بطولي وعظيم ينبغي على العرب أن يقتفوا أثره، وغير ذلك من الغايات والدوافع. بيد أن اختلاف الدوافع -حتى ولو كانت مخلصة- لا يعني ضرورة اختلاف النتيجة

وقد كان لهذه الطائفة أثر خطير في هذا الميدان، لأنها زرعت في أذهان الكثيرين أن الكتابة العربية أسوأ (أو في الأقل واحدة من أسوأ) الكتابات. ونجحت في تثبيت مُسَلَّمة خلاصتها أن الكتابة العربية معيبة. وقد اتُّخذت هذه المسلمة نقطة انطلاق للبحث عن الحلول، بحيث وصل الأمر إلى مجمع اللغة العربية في مصر، حيث خصص مكافأة لمن يتقدم بأحسن حل لهذه المشكلة

وغريب حقًا أن يعمد بعض مثقفينا إلى تناسي أو تجاهل حقيقة مهمة في التاريخ الحديث للحضارة الغربية، وهي أن المثقف الغربي سعى إلى التنبيه إلى المشكلات الحقيقية لمجتمعه، وتقديم الحلول الناجعة لها، لا أن يختلق مشكلات لا وجود لها، ليسطع نجمه في حلِّها

كان كل عامل من العوامل الأربعة المذكورة، كافيًا وحده لتكبيد العربية جروحًا قد تكون قاتلة، فكيف إذا تضافرت كلها جميعًا؟ لا معدى للمرء إلا أَنْ يشير إلى أن القرآن الكريم أبقى هذه اللغة مبرَّأَةً معافاة، في حين ثُلمت لغات أخرى بتعرضها لعامل واحد لا غير كما رأينا.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 893 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

244,028