بقلم /محمد سعيد أبوالنصر
توجد مجموعة من المصطلحات لها علاقة بالتطرف مثل : التشدد، والتعصب، والعنف، والإرهاب ، وتوجد علاقة بين هذه المصطلحات وبين التطرف لتبين لنا أنَّ ثمة مساحة كبيرة من تلك الدوائر مشتركة بينهم جميعًا ، ثم تختص كل منها بأجزاء خاصة بها، وما خرج عن الوسط هو ألصق بأي معنى مِن هذه المعاني ،ولما كان موضوعنا هو التطرف ووجدنا أنَّ ثمة علاقة بين التطرف ،والتشدد ، والإرهاب ، والتعصب ، والعنف، قمنا بشرح هذه المصطلحات التي لها صلة بالتطرف ليتضح الأمر تمام الوضوح ،وهذه الألفاظ على النحو التالي :
1-الإفراط:
تأتى كلمة الإفراط في اللُّغَةِ على عدة معاني منها: الإسراف والإشطاط والتعدّي والتقدّم ومجاوزة الحدّ .قال ابن فارس: "يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يقولون: إيَّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته " وقال الجوهري: "وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ " وفي لسان العرب: " الإفراط: الإعجال والتقدّم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدَّم، وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط، وأمر فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ، والفُرطة - بالضم -: اسم للخروج والتقدّم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاك عن الفُرْطَة في البلاد، وفي رواية: نهاك عن الفُرْطَة في الدّين، يعني السّبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ، "{ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)} [سورة طه: الآية، 45]ويُقال أفرط الأمر إذا نسيه، فهو مفرط، أي منسيّ، وبه فسّر مجاهد وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي منسيّون والذي يعنينا في هذا أنَّ الإفراط خروج عن "الوسطيَّة" فكل أمر استحقّ وصف (الإفراط) فليس من الوسطيَّة في شيء.
الإفراط مهلكة للفرد والمجتمع:
الإفراط يؤدّي إلى الغلوّ والإسراف والتّطرّف في الأمور كلّها، وقد يحسب هؤلاء المفرطون أنّهم يحسنون صنعًا، إذ يشدّدون على أنفسهم وعلى غيرهم، ولا يجنون من وراء ذلك إلّا كما يجنيه المنبتّ الّذي يهلك دابّته ولا يصل إلى تحقيق غرضه، وقد حذّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا عندما قال: «إنّ هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق". وقد يحسب هؤلاء المفرطون أنّهم بتسرّعهم وتشدّدهم يقدّمون لأنفسهم ولأمّتهم الخير ، وأنّى لهم ذلك وهم يخالفون صريح ما جاءت به الآيات والأحاديث التي تنهى عن الإفراط ، وتدعو إلى التوسط والاعتدال؟! وكم من فورة أعقبتها حسرة، وعجلة تبعتها ندامة، والواجب على كل مسلم ومسلمة أن ينأى عن التفريط، وأن يبعد نفسه عن الإفراط حتى يكون من هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143] وليعلم أن الفضائل كلها منوطة بعدم التفريط والإفراط في الأمور كلها مثال ذلك أن الشجاعة هي المنزلة الوسط بين الجبن والتهور، والجود وسط بين التقتير والإسراف. .
نماذج من تحذيرات الإسلام من الإفراط :
1- الإسلام يحذر من الإفراط في الاعتقاد
الإفراط في الاعتقاد من أخطر أنواع الإفراط وهو الذي أنتج لنا الصراعات السياسية والجماعات المتناحرة مثل الخوارج والشيعة فالإفراط في الحب أو البغض يؤدي الى التطرف والإرهاب ولذا يقول علي- رضي الله عنه- معلقًا على المفرطين في محبته وبغضه : يهلك فيّ رجلان: محب مفرط يقرظني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني أي بغضي وكرهي على أن يبهتني "والبهتان أشد الكذب.
2-الإسلام يحذر من الإفراط في العبادة
عبادة الله مطلوبة في كل وقت لكن لا تعنى أن أنقل ما هو سنة إلى الفرض أو ما هو مندوب أو مستحب إلى ما هو واجب فكل عمل من الأعمال له مرتبته ووزنه الذي لا ينبغي أن يتعداه إلى غيره من الأوزان والمراتب ، فلا يصح نقل ما هو سنة إلى الفرض يتضح ذلك من هذا المثال
عن الْمُخْدَجِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بِالشَّامِ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْوَتْرَ وَاجِبٌ، فَذَكَرَ الْمُخْدَجِيُّ، أَنَّهُ رَاحَ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَذَكَرَ لَهُ: أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: الْوَتْرُ وَاجِبٌ. فَقَالَ: عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ "وقد ذكر ابن الجوزي أمثلة متعددة يقوم بها بعض الناس لنقل السنة الى مرتبة أعلى والتهاون في أداء الفرائض وهذا ناتج عن قلة الفقه بمراتب الأعمال ، قال ابن الجوزي :" وقد لبس إبليس عَلَى جماعة من المتعبدين فأكثروا من صلاة الليل وفيهم من يسهره كله ويفرح بقيام الليل وصلاة الضحى أكثر مما يفرح بأداء الفرائض ثم يقع قبيل الفجر فتفوته الفريضة أَوْ يقم فيتهيأ لها فتفوته الْجَمَاعَة أَوْ يصبح كسلان فلا يقدر عَلَى الكسب لعائلته "إن الواجب على المسلم أن يضع كل أمر شرعي موضعه، ولا يخلط بين أنواع الأحكام فلا يجوز أن يُسوّى بين الواجب والمندوب لا في القول ولا في الفعل ولا في الاعتقاد ، ولا يُسوّى بين الحرام والمكروه، ولا بين المباح وبين المندوب والمكروه
يقول الشاطبي: " الْوَاجِبَاتُ لَا تَسْتَقِرُّ وَاجِبَاتٍ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُتْرَكُ وَلَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهَا أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَسْتَقِرُّ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا لَمْ يُسَوَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا تُفْعَلُ وَلَا يُسَامَحُ فِي فِعْلِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ"
فالمسلم مطالب بمعرفة منازل الأعمال " وَمَرَاتِبِهَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنَازِلِهَا فِي الْفَضْلِ، وَمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِهَا، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ عَالِيهَا وَسَافِلِهَا، وَمَفْضُولِهَا وَفَاضِلِهَا، وَرَئِيسِهَا وَمَرْؤسِهَا، وَسَيِّدِهَا وَمَسُودِهَا، فَإِنَّ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَيِّدًا وَمَسُودًا، وَرَئِيسًا وَمَرْؤسًا، وَذُرْوَةً وَمَا دُونَهَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» الْحَدِيثَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «الْجِهَادُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْأَمْرِ» وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ " إِنَّ الْأَعْمَالَ تَفَاخَرَتْ " فَذَكَرَ كُلّ عَمَلٍ مِنْهَا مَرْتَبَتَهُ وَفَضْلَهُ، وَكَانَ لِلصَّدَقَةِ مَزِيَّةٌ فِي الْفَخْرِ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يَقْطَعُ هَذِهِ الْعُقْبَةَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ وَالصِّدْقِ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، السَّائِرِينَ عَلَى جَادَّةِ التَّوْفِيقِ"
خطر غياب فقه الأولويات:
إذا لم يهتم المسلم بتعلم هذا الفقه الجليل ينتج عن ذلك عدة آثار شديدة الضرر عليه في الدنيا والآخرة ومن تلك النتائج:
1- سوء فهم الشريعة: إن الجهل بمراتب الأعمال يؤدي إلى فوضى فكرية عارمة ، تشوه الشريعة وتخل بتوازنها، والإسلام وضع توازنا بين المأمورات والمنهيات لا يجوز الإخلال به ، تماما كنسب الدواء الواحد، الذي قد يؤدي تغييرها إلى إفساده وإلغاء خصائصه ،إن لم ينقلب إلى سم قاتل، وعلى هذا فالمسلم مطالب بالحفاظ على هذه المراتب والتوازنات .
2-ضياع الأجر: فالجاهل بمراتب الأعمال يهتم بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر ، ويضيع الجهد الكبير للحصول على حسنات قليلة. وتروي لنا السنة من ذلك أمثلة كثيرة فعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ بَعْضٌ فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ - قَالَ - فَقَالَ فِي ذَلِكَ « ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ ».وقد يصل الأمر إلى حد تضييع أصل الأجر نفسه :فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا ، وَصِيَامِهَا ، وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا ، وَصَدَقَتِهَا ، وَصَلاَتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ ، وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ. وبعد أنْ تبينَّ لنا معنى(الإفراط) لغة وشرعًا، وما يتعلَّق به من معانٍ ، وخطره على الفرد والمجتمع، ونماذج من تحذيرات الإسلام من الإفراط في الاعتقاد والعمل والعبادة موعدنا في المقال القادم مع الغلو لنشرحه ونبين صلته بالإفراط والتطرف والإرهاب
نشرت فى 16 يوليو 2017
بواسطة janjeel