الحمد لله، له أسلمت، وبه آمنت، وعليه توكلت، والصلاة والسلام على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد،،،
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، «سورة الملك، الآية 15».
جاء في كتاب مختصر تفسير ابن كثير للصابوني في تفسير الآية السابقة: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا»، أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم، ولهذا قال تعالى: (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)، فالسعي في السبب لا يُنافي التوكل، كما قال رسوله الله: «لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً»، فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله عزَّ وجل، وهو المسخر المسير المسبب (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، أي المرجع يوم القيامة، قال ابن عابس ومجاهد: مناكبها: أطرافها وفجاجها ونواحيها»، (مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 3/528-529).
المجتمع الإسلامي
يوافق الأسبوع ذكرى يوم العمال العالمي، هذه الذكرى التي تأتي في الأول من شهر مايو (أيار) من كل عام، فالعالم كله يحتفل بهذه الذكرى تكريماً للعامل، ولإحياء ذكرى ثورة العمال التي قامت في أميركا عام 1887م، أي في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، حيث إن هذه الثورة كانت نتيجة للظلم الذي يعيشه العمال، والظروف السيئة المحيطة بهم، والأجر الزهيد الذي يتقاضونه، أما العمال في المجتمع الإسلامي فكانوا منصفين، وكانوا يحيون حياة كريمة طيبة والحمد لله.
الإسلام هو دين العمل، وقد حفلت آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه المسلمين للعمل وحثهم عليه، منها ما ورد في القرآن الكريم مثل قوله - سبحانه وتعالى-: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، «سورة التوبة، الآية 105».
ويقول أيضاً: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، «سورة الجمعة، الآية 10».
ويقول أيضاً: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)، «سورة النور، الآية 55». ويقول أيضاً: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)، «سورة الانشقاق، الآية 6».
كما وحثت السنة النبوية الشريفة على العمل، حيث أكَّدَ رسولنا - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في أحاديث عديدة منها: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ»، (أخرجه البخاري).
ويقول أيضاً: مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلام - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، (أخرجه البخاري).
ويقول أيضاً: «مَا مِن مُسلم يَغرِسُ غَرْسًا أو يَزرَعُ زَرْعًا، فيأكُلُ مِنه طَيرٌ أو إنسَانٌ أو بهيْمَةٌ، إلا كان لهُ بهِ صَدقَة»، (أخرجه الشيخان).
ويقول أيضاً: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ: يَعْملُ بيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ»، (أخرجه الشيخان).
ويقول أيضاً: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ»، (أخرجه الطبراني).
العمل شرف
إن العمل شرف مهما كان متواضعاً، فقد رُوِيَ أن أحد الأمراء مَرَّ على عامل نظافة وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً:
وَأُكْرِمُ نفسي إنني إن أَهَنْتُها
وَحَقِّكَ لم تكرم على أحدٍ بعدي
فقال الأمير للعامل: وأيّ إكرامٍ هذا الذي أكرمتَ به نفسك وأنت تعمل كَنَّاساً؟!
فقال له العامل بكل عِزّة: إنَّ عملي هذا أفضل مِنْ أَنْ أقفَ على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعونني.
نعم العمل شرف مهما كان متواضعاً، فالمجتمع بحاجة إلى كلِّ يَدٍ عاملة مخلصة، تخدم وطنها وَتُسْهم في بنائه، ورحم الله القائل:
النّاس للنّاس من بَدْوٍ وحاضرة
بعضٌ لبعضٍ وإنْ لم يشعروا خَدَمُ
الإسلام يُرَبِّي أبناءه على العمل، وينهاهم عن السؤال
لقد رَبَّى رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - المسلمين على عزة النفس، وعلى وجوب الاستمرار في الأعمال التي أحلها الله سبحانه وتعالى، وفتح لهم كُلَّ الأبواب التي تعينهم على ذلك، كما ونهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن تعريض أنفسهم لِذُلِّ السؤال، وأمرهم بأن يجتهدوا في أداء الأعمال التي تغنيهم عن السؤال، فالإسلام دين يحث على العمل، ويدفع إلى السعي والاجتهاد، ويكره أن يرى المسلم خاملاً من غير عمل، حيث حارب ديننا الإسلامي كلَّ من احتقر السعي والعمل، واستمرأ الخمول والكسل، مدعيًا أن ذلك هو الزهد الذي دعا إليه ديننا الإسلامي الحنيف، «فقد ورد أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى: حِلْس - كساء يُفرش في البيت - نَلْبَسُ بعضه وَنبْسُط بعضه، وقعب - إناء - نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: من يشتري هذين؟ - يعنى أجرى مزاداً عليهما - قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشترِ بأحدهما طعاماً وانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به، فشدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عودًا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وَبعْ ولا أَرَيَنَّكَ خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع - الفقر الشديد الذي يفضي به إلى التراب، أو لذي غُرم مُفْظِع - الدية الفظيعة الفادحة-، أو لذي دم مُوجع - الدية يتحملها فترهقة وتوجعه»، (أخرجه أبو داود).
لقد أدرك المسلمون الأوائل قيمة العمل فانتشروا في الأرض وعمروها امتثالاً لأوامر ربهم وهدي نبيهم - صلى الله عليه وسلم-، فالعمل في الإسلام واجب على كل مسلم، وأن تمام العبادة يكون بالطاعة والعمل والسعي إلى اكتساب الرزق، وليس الانقطاع عن الدنيا وتركها لغيره، حتى يصبح هو في حاجة، وغيره يعيش في غنى.
بقلم الشيخ الدكتور / يوسف جمعة سلامة
خطيب المسجد الأقصى المبارك