هال الأب ما تعيشه بناته الطالبات في المدرسة والجامعة من حال في البيت، فكل واحدة تمسك بهاتفها النقال وتحملق وتتلاعب بالأزرار ما بين مُفَسْفِسَة و"مُفَسْبِكة" و"موتسسة" ، وما زاد الطين بلة زوجته التي لم تكف عن "الزَن" حتى حصلت على الهاتف المراد، إذ كانت من سيدات الطبخ، وها هي اليوم تتربع صدارة الصالة "تُوتْوِتُ" وتُفَسْفِس و"تُفسْبِك" طوال الليل، وتنام أطراف النهار، واستقالت من المطبخ، فيلقي محاضرة عليهن، فيستمعن بينما تتابع أصابعهن العزف، وتنتهي المحاضرة بلا شيء. لم يعد الأمر يطاق، قررت الأسرة استدراج الأب إلى عالم "الوتسسة" والفسفسة" فأهدينه جهازاً وسحبن رجليه إلى عالمهن، وبذلك انزاح الهم عن كاهلهن، وكف الأب عن تقريعهن وبهدلتهن يومياً. والفِسْفِسة لغة في الفِصْفِصة، وهي الرَّطْبَة، والفَسْفاسُ : الأحْمَقُ، وفِسْفَسَ الرجل إِذا حَمُق حَماقةً مُحكَمَة. ما نشهده اليوم من تطور تقاني ومعلوماتي، يصعب مجاراته على كثيرين أمثالي ممن عاشوا وأدركوا أيام القرن الماضي القرن العشرين، مهما حاولوا إلى ذلك سبيلا، وبالتأكيد الاختراعات الجديدة من الهواتف النقالة مثلاً وسيلة ذات حدين، ونعمة أحياناً ونقمة أحياناً، والسر يكمن في كيفية توظيف الوسيلة، ونمط التفكير وثقافة المستخدم. كانت الخنساء من أشهر الشاعرات أنشدها حسان بن ثابت قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـــا
ولدنا بني العنقاء وابن محــــرق
فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنمـــــا
فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأبرزته في ثمانية مواضع.
قال: وكيف؟ قالت : قلت لنا "الجفنات" والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت "الجفان" لكان أكثر.
وقلت: "الغر" والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت أبيض لكان أكثر اتساعاً. وقلت: "يلمعن" واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت "يشرقن" لكان أكثر ، لأن الإشراق أدوم من اللمعان.
وقلت: "بالضحى" ولو قلت "بالعشية" لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: أسيافنا والأسياف دون العشر، ولو قلت سيوفنا كان أكثر. وقلت: "يقطرن" قد دللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر، لانسياب الدم.
وقلت "دماً" والدماء أكثر من الدم. وافتخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك.
الخنساء :
يا عَينِ جودي بدَمعٍ منكِ مَسكُوبِ
كلؤلؤٍ جـــــالَ في الأسْمـاطِ مَثقوبِ
انّي تذكَّرتـــــهُ وَالَّليــــلُ معتكـــــرٌ
ففِي فــــــؤاديَ صدعٌ غيرُ مشعوبِ
نِعْمَ الفتى كــــانَ للأضْيافِ إذْ نَزَلوا
وسائـــــــِلٍ حَلّ بَعدَ النّوْمِ مَحْرُوبِ