جلس أحمد بن طولون يوماً في بعض بساتينه، وأحضر الطعام ومن يؤاكله من خاصته، فرأى من بعيد سائلاً في ثوب خَلَق، وحال سيئة، وهو جالس يتأمل البستان ومن فيه، فأخذ ابن طولون رغيفاً، فجعل عليه دجاجة وشواء لحم وقطع فالوذج كبيرة، وغطّاه برغيف آخر، ودفعه إلى بعض غلمانه وقال له: امض إلى هذا السائل فسلّمه إياه. وأقبل يراقب الغلامَ في تسليمه الرغيف وما يكون من الرجل، فلم يزل يتأمل السائل ساعة، ثم أمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه كلّمه فأحسن الجواب ولم يضطرب من هيبته، فقال له ابن طولون: هات الرسائل التي معك.، فاعترف له الرجل بأنه جاسوس، وأن الكتب معه ما أوصلها ليدبّر أمره في إيصالها، فوكل به حتى مضى وأُحضرت الكتب. فقال أحد الخاصة لابن طولون: أيها الأمير، إن لم يكن هذا وَحياً فهو سحر. فقال: لا والله يا هذا، ما هو وحي ولا سحر، ولكنه قياس صحيح. رأيتُ هذا الرجل على ما هو عليه من سوء الحال فأشفقتُ عليه، وعلمتُ أن مثله لا يصل إلى مثل ما بين أيدينا من الطعام. فأردتُ أن أسُرّه بما أرسلتُه إليه، فما هشّ له ولا مدّ يداً إليه. فنفر قلبي منه وقلت: «هذا عينه ملأى وفي غنى عن هذا. هو جاسوس لا شك فيه». فأحضرته أحادثه، فازداد إنكاري لأمره لقوّة قلبه واجتماع لبّه، وأنه ليس عليه من شواهد الفقر ما يدل على فقره.
ونقول: جَسَّ الخَبَرَ وتَجَسَّسه: بحث عنه وفحَصَ: وجَسُّ الخَبَرِ، ومنه التَجَسُّسُ، وتَجَسَّسْتُ فلاناً ومن فلان بحثت عنه كتَحَسَّسْتُه، وتَجَسَّسْتُ الخبر وتَحَسَّسْته بمعنى واحد.
وفي الحديث: لا تَجَسَّسُوا؛ التَّجَسُّسُ، التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر.
والجاسُوسُ صاحب سِرِّ الشَّر، والناموسُ : صاحب سرِّ الخير، وقيل: التَّجَسُّسُ بالجيم أن يطلبه لغيره، وبالحاء، أن يطلبه لنفسه، وقيل بالجيم: البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع، وقيل: معناهما واحد في تطلب معرفة الأخبار. والجاسُوسُ العَيْن يَتَجَسَّسُ الأخبار ثم يأتي بها..
◆ عنترة بن شداد:
يقولُ لـكَ الطبيــبُ دواك عنــدي
إذا مـا جـــسَّ كفــــكَ والـذراعــــا
ولـــو عــــرَفَ الطَّبيــــبُ دواءَ داء
يَــرُدّ المَـــوْتَ ما قَاسَـــى النّزَاعـــا
وفــي يــوْم المَصانـــع قــد تَركنـــا
لنـــا بفعالنـــا خبـــــراً مشــــــاعاً
أقمنـــا بالذوابـــل سُـــوق حـــربٍ
وصيَّرنـــا النفــــوس لهـــا متاعـــا
حصــانــــــي كـــانَ دلاّل المنايــــا
فخــــاض غُبارهــا وشَـــرى وباعــا
وسَــيفي كـان فـي الهيْجــا طَبيبــاً
يـداوي رأسَ مـن يشــكو الصداعـا