ومع ذلك فإن حكومات أغلب الدول البحرية كانت تميل إلى إقرار الرأي الأول أو ما يقاربه تعزيزاً لسيادتها على البحر الإقليمي، وقد تبين اتجاهها هذا في مؤتمر لاهاي سنة 1930. حين وافقت الدول الممثلة في هذا المؤتمر بالإجماع على نص المادة الأولى من مشروع التقنين الخاص بالبحر الإقليمي؛ وقد جاء فيها أن «يشمل إقليم الدولة منطقة من البحر يطلق عليها اسم البحر الإقليمي تمارس فيها الدولة جميع أعمال السيادة وفقاً لقواعد القانون الدولي». إنما أقر هذا المشروع بعد ذلك حق المرور البريء Innocent Passage لسفن جميع الدول في البحر الإقليمي لكل منها، وهذا يؤيد من جديد ما سبق أن قيل من أن طبيعة الأمور تقتضي الاعتراف بأن سيادة الدولة على بحرها الإقليمي أقل مدى من سيادتها على إقليمها.
ويبدو أن جماعة الدول وجدت أخيراً أن من الأوفق التمشي مع طبيعة الأمور هذه، فصيغت المادة الأولى من اتفاقية البحر الإقليمي التي أقرتها في مؤتمر جنيف سنة 1958 في صورة أكثر اعتدالاً من نص مشروع لاهاي وأقرب إلى الحقيقة والواقع، إذ تقول: «تمتد سيادة الدولة وراء إقليمها ومياهها الداخلية إلى نطاق من البحر يجاور ساحلها يطلق عليه وصف البحر الإقليمي، وتكون ممارسة هذه السيادة في حدود أحكام هذه الاتفاقية الأخرى للقانون الدولي». وقد تناولت النصوص التالية بعد ذلك بيان الحدود التي تمارس الدولة الساحلية في نطاقها سيادتها على البحر الإقليمي على ما سيرد تالياً، ولاشك أن هذه النصوص وضعت حداً للجدل الذي كان يثور بشأن مدى سيادة الدولة على بحرها الإقليمي وأبرزت القواعد المستقرة في هذا الشأن في شكل واضح لا مكان معه لأي تأويل. وجاءت المادة الثامنة من اتفاقية جمايكة لعام 1982 تؤكد مبدأ سيادة الدولة المشاطئة على بحرها الإقليمي على نحو ما ذهبت إليه اتفاقية جنيف السالفة الذكر.
نتائج سيادة الدولة على البحر الإقليمي: لكل دولة بحرية استناداً إلى ما لها من السيادة على بحرها الإقليمي الحقوق الآتية:
ـ حق القيام بأعمال الشرطة في هذا الجزء من البحر، ويشمل حقها في وضع نظام للملاحة فيه ونظام للمسائل الجمركية والشؤون الصحية، كما يشمل حقها في أن تقيم فيه المنشآت اللازمة لضمان الملاحة وإرشاد السفن والمساعدة في أعمال الإنقاذ وغير ذلك.
ـ حق قصر التجارة الساحلية والصيد في حدود البحر الإقليمي على رعاياها.
ـ حق تحديد المراسم البحرية التي يجب على السفن التجارية مراعاتها في أثناء وجودها في البحر الإقليمي.
ـ حق القضاء في بحرها الإقليمي على السفن التجارية الأجنبية في كل ما يمس أمن الدولة الساحلية وسلامتها أو ما يطلب إليها التدخل بشأنه فحسب.
ـ حقها في حالة قيام حرب ليست طرفاً فيها أن تطلب، من الدول المتحاربة عدم القيام بأعمال حربية في مياهها الإقليمية احتراماً لحيادها.
قاع البحر الإقليمي: يسلم الفقهاء عموماً بجواز تملك الدولة لقاع بحرها الإقليمي وطبقات الأرض الواقعة تحته، ويرى أصحاب الرأي القائل بملكية الدولة البحر الإقليمي أن تملكها لقاع البحر هو نتيجة لملكيتها للبحر ذاته، في حين يرى أصحاب الرأي الآخر، القائل بسيادة الدولة المحددة على البحر الإقليمي، أن ملكية الدولة للقاع تستند إلى حقها في البقاء والدفاع عن كيانها، لأن مصالحها وسلامتها تتعارض مع أن تضع دولة غيرها يدها على قاع البحر الملاصق لشواطئها. وعلى أي حال فالنتيجة التي ينتهي إليها كل من الرأيين ـ كما هو ظاهرـ واحدة، وهي أن للدولة على قاع بحرها الإقليمي من الحقوق ما لها على إقليمها ذاته، وأنّها تستطيع استغلال القاع بجميع الوسائل مادام ذلك لا يؤدي إلى عرقلة المرور في مياهها الإقليمية. وقد نصت اتفاقية جنيف الخاصة بالبحر الإقليمي في مادتها الثانية على أن «تمتد سيادة الدولة الساحلية إلى النطاق الجوي الذي يعلو البحر الإقليمي وكذا قاع هذا البحر وما تحته من طبقات» وهذا ما أكدته اتفاقية جمايكة لعام 1982.
مدى البحر الإقليمي: لم يكن تحديد مدى البحر الإقليمي في بادئ الأمر خاضعاً لقاعدة معينة؛ فمن قائل بجعله ستين ميلاً، ومن قائل بجعله مئة، ومن قائل بشموله لكل الجزء من البحر الملاصق للإقليم الذي يمكن الوصول إلى قاعه، ومن قائل بامتداده حتى الأفق، وكل هذه الأقوال جزافية لا تستند إلى أساس يسوغها.
وقد انتهى الرأي بداية، إلى الأخذ بما قال به العالم الهولندي «بنكر شوك» من امتداد البحر الإقليمي إلى النقطة التي تستطيع الدولة حمايتها أي إلى آخر المرمى الذي تصل إليه المدافع المقامة على الساحل. ووجاهة هذا الرأي ظاهرة، إذ لم يكن في إمكان الدولة أن تحمي من البحر ما وراء أقصى مرمى مدافعها المنصوبة على الشاطئ. كما لم يكن في إمكان سفن العدو أن تصيب بقذائفها إقليم الدولة من وراء هذه المسافة. ولما كانت أقصى نقطة تصل إليها قذيفة وقتئذ هي ثلاثة أميال بحرية، فقد رؤي تحديد عرض البحر الإقليمي بهذا القدر، واستقر هذا التحديد مدة من الزمن ونصت عليه القوانين الداخلية لبعض الدول، كما أقرته بعض المعاهدات والاتفاقات الدولية مثل اتفاقية تنظيم الصيد في بحر الشمال سنة 1882.
على أن تحديد مدى البحر الإقليمي بثلاثة أميال بحرية لم يكتسب صفة القاعدة القانونية الملزمة إلا لأنه الحد الأدنى، بمعنى أن لكل دولة بحرية أن تلزم الدول الأخرى باحترام حقوقها المتصلة بالبحر الإقليمي في حدود هذه المسافة. أما الحد الأقصى لما يمكن اعتباره بحراً إقليمياً فقد ظل محل اختلاف. لذا لم يوفق مؤتمر جنيف سنة 1958 للوصول إلى حل لهذه المشكلة مع أن الدول التي كانت تتمسك بالأخذ بقاعدة الأميال الثلاثة أبدت استعداداً لإعادة النظر في هذا الأمر في ضوء الأحوال الجديدة. وعند مناقشة الموضوع بدا الخلاف شديداً بين الدول والاتفاق متعذراً. وكانت النتيجة أن أقر المؤتمر المذكور اتفاقية البحر الإقليمي خالية من أي تحديد لعرض هذا البحر، على أن يعاد النظر في الموضوع في مؤتمر تال عقد في عام 1960 لكنه لم يكن أوفر حظاً من سابقه. وهكذا ظل اتساع البحر الإقليمي متفاوتاً بين مجموعة وأخرى من الدول إلى أن جاءت اتفاقية جمايكة فحسمت الأمر في مادتها الثانية إذ نصت على أنه: «لكل دولة الحق في أن تحدد عرض بحرها الإقليمي بمسافة لا تتجاوز 12 ميلاً بحرياً بدءاً من خطوط الأساس المقررة وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية».
يحتسب عرض البحر الإقليمي من آخر نقطة تنحسر عنها المياه وقت الجزر لما يتصل بالشواطئ الطبيعية، ومن وراء الحواجز والأرصفة التي تحيط بالموانئ أو الأحواض البحرية في قبالة هذه الموانئ والأحواض. أما الخط الذي يعد فاصلاً بين البحر الإقليمي والبحر العام فقد اختلف في تحديده، فمن قائل إنه يوازي الشاطئ في تعاريجه، ومن قائل إنه يحدد بخطوط مستقيمة تقابل الخطوط الممتدة بين الرؤوس البارزة من الساحل، ومن قائل إنه يحدد بخط منحنٍ يقاس من أجزاء مختلفة من الساحل ومنها الأجزاء البارزة وغيرها.
ويفضل أغلب الشرّاح الرأي الأخير لأنه أيسر تحديداً لنطاق البحر الإقليمي من سابقه عند ملاحي السفن. وقد جمعت اتفاقية جنيف الخاصة بالبحر الإقليمي بين الطريقتين الأخيرتين فأشارت باتباع طريقة الخطوط المستقيمة التي تصل بين الرؤوس البارزة من الساحل حيث تكثر التعاريج وعُدّت هذه الخطوط الحد الأساسي الذي يبدأ منه البحر الإقليمي. ثم نصت على أن يكون الحد الخارجي للبحر الإقليمي الخط الذي تبعد كل نقطة منه عن أقرب نقطة من الحد الأساسي بما يساوي عرض البحر الإقليمي.
أما المياه الواقعة بين الحد الأساسي المعدود بداية البحر الإقليمي والساحل فتعد جزءاً من المياه الداخلية للدولة؛ مع احتفاظها بحق المرور البريء للدول الأخرى إذا كانت أصلاً قبل التحديد على الوجه المتقدم معدودة جزءاً من البحر الإقليمي أو من أعالي البحار.
وفي حالة وجود نهر يصب مباشرة في البحر، تعد بداية البحر الإقليمي في مواجهته خطاً مستقيماً يمتد عبر فتحة النهر بين آخر نقطة من كل من ضفتيه تنحسر عنها المياه وقت الجزر. وإذا وجدت في حدود البحر الإقليمي جزيرة، فإنها تعد جزءاً من الإقليم ويتقرر للدولة حولها منطقة إقليمية إضافية من البحر وتتبع القاعدة نفسها لمجموعات الجزر أو الأرخبيل.
ولو كان على شاطئ الدولة خليج، فيحتسب البحر ابتداءً من الخط الواصل بين طرفي فتحة الخليج إن كان معدوداً من المياه الوطنية، في حين يتماشى مع الشاطئ الداخلي للخليج إذا كان معتبرا من البحار العامة، على ما سيبيّنه الكلامُ عن الخلجان.
وفي حالة تقابل سواحل دولتين أو تجاورهما، لا يكون لأي منهما أن تدعي امتداد بحرها الإقليمي لأكثر من الخط الأوسط بينهما، ويحدد بالقياس بالتساوي من أقرب نقط الخط الأساسي الذي يعد ابتداء المياه الإقليمية لكل منهما، وذلك ما لم تتفقا على خلاف ذلك، أو تكون هناك اعتبارات تاريخية أو شروط خاصة اقتضت تحديد البحر الإقليمي الخاص بكل منهما على وجه آخر. وقد جاءت اتفاقية جمايكة لعام 1982 تؤكد ما سلف من مبادئ.
الملاحة في البحر الإقليمي: لعل مسألة الملاحة في البحر الإقليمي أكثر المسائل المتصلة بهذا البحر استقراراً من حيث القواعد التي تخضع لها، فلا خلاف بشأنها كما هي الحال في تحديد مدى البحر الإقليمي أو طبيعة حق الدولة عليه.
مبدأ حرية المرور البريء: استقر العرف الدولي على أن تكون البحار الإقليمية مفتوحة للمرور البريء لمراكب جميع الدول، وتأيد هذا العرف بالنص عليه في بعض المعاهدات الكبرى التي أبرمت بعد الحرب العالمية الأولى مثل «اتفاقية برشلونة للنقل والمرور» المبرمة في 20 نيسان سنة 1921، ثم تدعم بتدوين جميع الأحكام المتصلة به في اتفاقية البحر الإقليمي التي أقرها مؤتمر جنيف لشؤون البحار في 27 نيسان سنة 1958، وقد جاء في الفقرة الأولى من المادة 14 من هذه الاتفاقية أنه: «مع مراعاة أحكام نصوص هذه الاتفاقية، تتمتع سفن جميع الدول سواء في ذلك الدول الساحلية وغير الساحلية بحق المرور البريء داخل البحر الإقليمي».
وتنصرف حرية المرور إلى عبور البحر الإقليمي للتوجه إلى أحد موانئ الدولة أو التوجه منها إلى أعالي البحار، كما تنصرف إلى مجرد المرور في المياه الإقليمية في محاذاة الشاطئ للتوجه إلى مياه دولة أخرى مجاورة أو في الطريق إلى عرض البحر. ويشمل المرور إمكان الوقوف أو الرسو في المياه الإقليمية في الحدود التي تستلزمها الملاحة العادية، أو إذا اقتضت ذلك قوة قاهرة أو حالة خطرة. وهذا كله أكدته اتفاقية جمايكة لعام 1982 في موادها 18 وما يليها.
وكان من رأي بعض الشراح أن حرية المرور البريء لا تثبت إلا للسفن التجارية، أما فيما يتصل بالسفن الحربية فيجوز للدولة أن تضع بعض القواعد الخاصة يتعين على هذه السفن مراعاتها عند مرورها في مياهها الإقليمية، وذلك لدرء الأخطار التي قد تتعرض لها الدولة من وجود سفن حربية أجنبية بقرب شواطئها. على أن العمل جرى على عدم التفرقة في وقت السلم بين المراكب التجارية والمراكب الحربية من حيث المرور البريء إلا إذا تطلبت ذلك أحوال خاصة تسوغ هذه التفرقة.
وقد جاء في اتفاقية جنيف لعام 1958 أن المرور البريء حق لسفن جميع الدول بوجه عام من دون أن يقتصر على السفن التجارية، وتطلبت الاتفاقية فقط أن يكون مرور الغواصات فوق سطح الماء، وهذا هو موقف اتفاقية جمايكة لعام 1982.
ساحة النقاش