الجزء الأول
ما هي العلاقة الحقيقية بين تقوى الله والحرية بكامل معناها ومفهومها عند البشر
فإن كل تقيا هو حر.. وليس كل حر تقي.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين الذي بعثه الله بالحق هدى ورحمة للعالمين
ما سوف أعرضه هو وجهة نظري الشخصية، ولا إلزم بها أحدا، وهي ليست تفسيرا أو تأويلا أو فتوى، ولكن ما دار بخاطري من خلال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ....
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف" . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وبما أن الحديث قد وجهه رسول الله إلى شاب مسلم فالتالي هو موجه لعامة شباب المسلمين. فهم الذين يحملون على عواتقهم النهوض بالمجتمع.
هذه دعوة صحيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مسلم ليكون حرا مستقلا عن سائر الخلق، ويكتفي بحلال الله عن حرامه، ويغتني بالله عمن سواه... فلا يكون لأحد سلطان عليه إلا بالتقوى، أي أن يكون حرا متحررا من كل ما سوى الله ورسوله...
ويقول المولى تبارك وتعالى:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) الكهف.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
بعد أن وضح لنا الحق سبحانه وتعالى كل المساوئ والآثار السيئة جدا المترتبة على عدم الإستقامة على دين الله، كل ذلك يدعو المؤمن الحق الذي يريد أن ينجى بنفسه من الضلال وغضب ربه، أن يحرر عقله وقلبه ونفسه من كل ما سوى الله، حتى من سؤال الغير، أو الإستعانة به، فلا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله...
أما الآخرين بالنسبة له، فهم من يستفيدون من أخلاق دينه وإتباعه لرسوله، فهو يعطيهم من فضل إبتسامته، ومن فضل أخلاقه، ومن فضل تصرفاته الحكيمة والرزينة والمستوية على أمر الله، وبذلك يستفيد الآخرين من نفعه الذي نفع به نفسه أولا ثم من حوله ثانيا ثم المجتمع الذي يعيش فيه ثالثا، إيا كان هذا المجتمع، في وطنه أو في غربته..
فهنا يتضح لنا أن الله سبحانه وتعالى يريدك حرا محررا، ولكن تقيا نقيا طاهرا ذكيا نافعا ومنتفعا، ولكن بغير عبودية إلا لله تبارك وتعالى.
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا. الإسراء.
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.الكهف.
لا تجعل على نفسك سلطانا آخر، أيا كان هذا السلطان، فلا تطع من غفل عن ذكر الله، فقلبه قد مات، ولا خير فيه، وحتى لا نضيع هنا بين قوانين وعادات المجتمعات تعالوا بنا نرى بماذا أوصانا ربنا حتى نعلوا علوا كبيرا عن كل تلك الخزعبلات التى وقع فيها من ضل عن ذكر الله:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
<!--أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
<!--وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
<!--وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
<!--وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
<!--وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
<!--وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
<!--وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.
<!--وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.
<!--وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
<!--وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وهذه هي خطوات التحرر الكامل من كل ما سوى الله... يأمر المولى تبارك وتعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يقول لنا وصايا ربنا.. لنحرر أنفسنا وذلك بقوله تبارك وتعالى :{ قُلْ تَعَالَوْا }أي تعالوا إلى الله، أو تعالوا عما أنتم فيه من إسفاف ومعناة وأحزان ومتاهات وعادات وتقاليد تخرجكم عن تقوى الله والإستقامة على دينه.
والعجيب في الأمر أننا عندما نعمل في شركة أو معمل أو دكان فإننا نطبق كل تعليمات صاحب العمل.. ولكننا نتجاهل وصايا ربنا... التى بها نتحرر من كل سلطان وننعم برضاه سبحانه وتعالى فننجو من العذاب، وذلك بدلا من أن نعمل بها ونوصي بها أولادنا.. ولكن لا نملك إلا أن نقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن أتبعنا ما سبق فقد حررنا أنفسنا من كل ما يعوق سبيل تقدمنا واستقرارنا وسعادتنا، وهكذا نعلوا بتصرفاتنا وبأخلاقنا عن مستوى الضلال والإسفاف، وهكذا كان المسلمون الأوائل، تجارا وعمالا ومهاجرين، فاتبعهم من اتبعهم لما رأوا فيهم الهدى والنور..
هذا ما أرى من علاقة بين الحرية والتقوى... نعم فإنهما مرتبطان عند كل مسلم ومؤمن وموحد بالله، لذلك قد سررت جدا بإجاباتكم التى وصلتني على سؤالى عن العلاقة بين الحرية والتقوى..فإن المؤمن الحق بفطرته يعلم جيدا أن الحرية لا بد من أن تكون منضبطة بالقيم والأخلاق التى يحترمها جميع الخلق، وإلا اصبحت كما نرى تسيب وانحطاط أخلاقي رهيب..
لذلك إن الحرية إذا إرتبطت بتقوى الله فقد أنضبطت وجعلت من صاحبها حرا محررا ومنيرا مستنيرا، يحذوا حذوه كل من أراد النجاة من الهلاك والضياع الخلقي..
وهكذا يذهب من آمن بالله إلى ربه حرا تقيا مهذبا مستقيما على أمر ربه، فيدخل فيمن قال الله تبارك وتعالى فيهم:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }الأحقاف. الإستقامة على أمر الله تحررك من كل غذو لأفكارك ومشاعرك، وتخلصك من كل ما قذف به الآخرين من نفايات أخلاقهم وإنحلالهم، وكلمات عن الحرية ليس بها من الحقيقة إلا الضلال والإنحلال الخلقي والعقائدي..
من أجل هذا نرى أن العاقل الذي تدبر أمره ترك كل شيئ وراء ظهره وتخلص منه ثم دخل إلى الإسلام واتخذه دينا يدين به في حياته لما رأى النظافة والنقاهة وسلامة العقيدة والنجاة من الإنحلال والدنس. وهذا الشخص سيكون شاهدا بالحق على أمة الكفر.
وهكذا نرى أن الحرية عند الموحد بالله هي نفسها الحرية عند غيرهم ولكن حرية منضبطة، وقائمة على أحترام كل خلق الله والعيش معهم في سلام عادل ومحترم، وبعيدة كل البعد عن الإنحلال والإنحطاط الأخلاقي، حرية أساسها العدل والرحمة والإحترام المتبادل..
الآن نأتي إلى أهم ما في موضوع الحرية، بعد أن نحرر عقولنا وقلوبنا وأنفسنا من كل مما سوى الله، نكون قد أصبحنا جاهزين مستعدين لنحقق قول الله فينا:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) آل عمران.
عندما نتحرر من كل ما سوى الله.. وهذا معناه تطبيق الوصية الأولى من وصايا الرحمن لعباده الكرام{ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }ثم نواصل التقدم والرقي بأنفسنا ومجتمعنا فنطبق باقي وصايا ربنا.. عندئذ سيمكن لنا ربنا عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بإضافة إيمان جديد إلى إيماننا يمكننا من توجيه الناس ودعوتهم لدين الحق والسلام .. هذا والله أعلى وأعلم ، وما به من خطأ فمني واستغفر الله لي ولكم، وما به من صواب فبتوفيق من الله العلي العظيم، وهو رزق كل من قرأها وعمل بها ثم نشرها بين إخوانه من عباد الرحمن..
هذا وأدعو الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستعون القول فيتبعون أحسنه.. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث بالحق هدى ورحمة للعالمين .. والحمد لله رب العالمين .
قبل أن أختم واستودعكم الله رب العالمين، أريد أن أقول أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لمن يطبق وصايا الرحمن ثلاثة شهادات من الله العلي العظيم...
الأولى شهادة بأنه عاقل.. وذلك بعد تطبيق كل ما جاء قبل { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }هذا الذي نجح في تطبيق كل البنود والقواعد والأسس التى يقوم عليها المجتمع الراقي المتقدم، يكون قد حصل من الله على شهادة بأنه عاقل.
أما الشهادة الثانية، فيحصل عليها بعد تطبيق كل ما جاء قبل { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، فيصبح من الذاكرين الله كثيرا والمذكرين بالله والداعين إليه سبحانه.. ونلاحظ هنا أن هذه الأربعة التى سبقت ما هي إلا زيادة في الرقي والأخلاق الكريمة المحمدية القرآنية، والتى تضفي على المجتمع صفات الرحمة والمودة والرقي مع العدل والأمن والأمان والكرامة لكل فرد.
أما الشهادة الثالثة وهي الأهم.. فقد جعلها الله سبحانه وتعالى لكل المؤمني إبتداء من علمائهم وقاداتهم وأولي الأمر منهم، وإنتهاءا بأصغر فرد في المجتمع... وهي تجبرنا وتجبر كل من قرأها وسمعها أن يعود إلى فاتحة الكتاب ليكون قد وعي وعرف وفهم ما هو الصراط المستقيم الذي يدعوالله أن يهديه إياه.. وفي الوقت نفسه تجبره على العودة إلى أول البقرة ليعرف أن هدى الله لايكون إلا للمتقين، وذلك بقوله سبحانه وتعالى { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.. فإذا ما طبقنا هذه الأخيرة فربما اصبحنا بفضل الله من المتقين.
والآن سأطرح على حضراتكم سؤالا من ثلاث شعب:
<!--هل هناك علاقة بين تقوى الله وبين السعادة؟
<!--هل هناك علاقة بين تقوى الله وبين الحب ؟
<!--هل هناك علاقة بين تقوى الله وبين النجاح؟
ساحة النقاش