جغرافية الانتخابات
تطورت الجغرافيا السياسية من دراسة الدولة كونها وحدة سياسية إلى دراسات عديدة متعمقة ترتبط بالتحولات الاقتصادية و السياسية و العالمية التى طرأت على الساحة السياسية فى الفترة الأخيرة .
و من ثم فالجزء التالى يعرض ماهية جغرافية الانتاخبات و نشأتها و تطورها و أهميتها و مجالاتها و مناهج دراستها و علاقتها بالعلوم الآخرى .
1- ماهية جغرافية الانتخابات :
من أحد نتائج الاتجاهات المعاصرة فى الجغرافيا السياسية هو ظهور فروع جديدة لها و كان من أهم هذه الفروع " جغرافية الانتخابات " Electoral Geography و التى وجدت على يد أندريه سيجفريد " Endre Sigfreid " من المدرسة الفرنسية لذا يعتبر أبا لجغرافية الانتخابات .
و تدرس جغرافية الانتخابات النشاط الانتخابى داخل الدولة عن طريق تحليل الدوائر الانتاخبية ، التعرف على التباين المكانى فى التصويت و التأثيرات الجغرافية التى نتج عنها هذا التباين ، دراسة الحملات الانتخابية للمرشحين و البعد الجغرافيى لها ، و دراسة السلوك التصويتى للأفراد و الجماعات و ذلك بالتعرف على العوامل الاقتصادية والاجتماعية و التاريخية و الثقافية و غيرها من الأمور التى تشكل الرأى العام للناخبين .
و قد عرف " جاسم كرم " جغرافية الانتخابات بأنه ذلك الفرع المعاصر للجغرافيا السياسية و الذى عن طريقه نستطيع تفسير التباين فى الأنماط الأنتخابية السائدة فى مكان معين و دراسة و تحليل تغيرات السلوك التصويتي للناخب من مكان لأخر أو من دائرة انتخابية لأخرى و معرفة أسباب هذا التغيير .
كما عرفها محمد محمود الديب بأنها العلم الذى يدرس الأبعاد المكانية فى مناورات الساسة على المستويات المحلية و القومية و الآقليمية للوصول للحكم .
و هناك من يرى أنه لا علاقة لجغرافية الانتخابات بالجغرافيا السياسية و انها أقرب إلى علمى الاجتماع و السياسة أكثر من علم الجغرافيا ، فى حين يرى فريق آخر أنها تدخل فى صلب هيكل الجغرافيا السياسية الحديثة لتكون فرعا تطبيقيا مستقلا بذاته . هذا بالإضافة إلى الجدل عما يكون أن تضيفه جغرافية الانتخابات للجغرافيا السياسية و حول النهاية التى ترمى إليها الدراسات من غايات .
و يمكن القول أن جغرافية الانتخابات هى الفرع الجغرافى الذى يتناول العوامل الجغرافية المؤثرة على العملية الانتخابية عن طريق دراسة خصائص العملية الانتخابية و مشكلاتها من كافة جوانبها و دراسة القوى السياسية المؤثرة فى الانتخابات و مدى تأثيرها على الناخبين و البحث فى أسباب ذلك .
2- نشأة جغرافية الانتخابات و تطورها :
ظهرت جغرافية الانتخابات كموضوع فى اطار الجغرافيا السياسية فى العقد الثانى من القرن العشرين و تزامن ذلك مع ظهور الجغرافيا السياسية كونها علما مستقلا ذا منهج محدد و منظم فى أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين حيث نشر عالم الجغرافيا البشرية الألمانى فريدريك راتزل " F . Ratzel " كتابه الشهير تحت عنوان الجغرافيا السياسية علم 1897 م .
أول دراسة فى مجال جغرافية الانتخابات كانت عام 1913 عندما أجرى سيجفريد بحث عن الانتخابات فى أقليم " أردش Ardeche " بغرب فرنسا و علاقتها بالظروف الجغرافية و الاقتصادية و الاجتماعية .
و فى عام 1916 قدم Krehbiel دراسة عن دلالة المؤثرات الجغرافية فى تحليل النتائج البرلمانية البريطانية بين 1885 – 1910 و اهتمت الدراسة بدراسة العلاقات المتبادلة بين نتائج الانتخابات و الاحصاءات المهنية .
فى عام 1918 قام Carl Sauer بدراسة تقسيم الدوائر الانتخابية للكونجرس بهدف اظهار الجريماندرية Gerrymander · . و حدد العوامل الطبيعية المؤثرة على التقسيم بضمه عوامل و هى : الموقع - طبوغرافية سطح الأرض – أنواع التربة - الصرف – مصادر المعادن ؛ و كلها عوامل تميز الدوائر الانتخابية .
و فى عام 1932 تم نشر سلسلة من الخرائط تبين انتخابات رئاسة الجمهورية فى الولايات المتحدة الأمريكية و الطريقة التى صوت بها أعضاء المقاطعة و أظهرت هذه الخرائط الفروق الآقليمية التى لا يستطيع المعلقون السياسيون إدراكها و ذلك من خلال أطلس الجغرافيا التاريخية للولايات المتحدة .
و فى عام 1949 درس سيجفريد التطور التاريخي للانتخابات فى الفترة 1871 – 1940 فى منطقة تقع على الضفة الغربية لنهر الرون ، و رسم مجموعة من الخرائط توضح نتائج الانتخابات و قارن بينها و بين المظاهر الجغرافية و الاقتصادية و الاجتماعية فى المنطقة
و توالت الدراسات بعد الحرب العالمية الثانية و كانت أغلبها على أيدى جغرافيين فرنسيين و أمريكيين ففى عام 1959 قدم بريسكوت Prescott دراسة فى وظيفة و طريقة جغرافية الانتخابات و فيها اقترح أن تكون الدراسات الانتاخبية نقطة البداية للبحث العلمى فى الجغرافيا السياسية عن طريق إيجاد معيار للتقسيم الآقليمي للدولة بالإضافة إلى ضرورة أن يكون النظام الانتخابى خاليا من الانحياز إلى طرف دون الآخر ، و إن وجد هذا الانحياز فلن تكون هناك فائدة تجرى من الاحصائيات الانتخابية .
و فى السبعينات من القرن العشرين ظهرت العديد من الدراسات كما فى ألمانيا و الهند و اليابان و انجلترا و دول ما بعد الشيوعية و هولندا و فى أواخر السبعينات اهتم الجغرافيين بدراسة الحملات الانتخابية للمرشحين .
زاد الاهتمام بدراسة جغرافية الانتخابات فى دول العالم المتقدم لأنها تأخذ بنظام الديموقراطية الليبرالية .
و عقب انتهاء الحرب الباردة اكتسب موضوع الانتخابات بعدا جديدا حيث أصبحت الديموقراطية هدفا عالميا تطمح إليه كافة الشعوب ؛ خاصة البلدان التى كانت تحت وطأة أنظمة الحكم الشمولية التى كانت سائدة فى الدول التى أخذت بالنهج السوفيتي فى الحكم .
و تتميز جغرافية الانتخابات فى الوقت الحاضر بطابع العالمية تبعا لإشاعة الديموقراطية ، إلا أنها تعانى من صعوبات كثيرة فى وجه محاولات وضع أسس و قواعد هامة تنطبق على كل دول العالم نظرا لكون عملية الانتخابات عبارة عن قضية داخلية ترتبط بالظروف الاقتصادية و الاجتاماعية و السياسية لكل دولة ، كما أن هذه الظروف عرضة للتغير المستمر ؛ و بالتالى تتعدد و تتغير أنظمة العمليات الانتخابية ؛ مما يعرقل التحليل الجغرافى للانتخابات على مستوى العالم ، و لا يؤدى فى النهاية إلى خلاصة عامة يمكن الاستناد عليها كحجة علمية .
3- مجالات دراسة جغرافية الانتخابات :
يمكن تحديد ميادين دراسة جغرافية الانتخابات فى الآتى :
- التحليلات الجغرافية للدوائر الانتخابية
- التباين المكانى للتصويت و أسبابه و تغيره
- النظام الانتخابى و مغزاه الجغرافى
- البرامج الانتخابية للأحزاب و القوى السياسية المشتركة فى المنافسة ليستدل منها على الاعتبارات الاقتصادية و الاجتماعية التى أثرت على الأفراد عند اتخاذ قرارات التصويت
- الخصائص الديموجرافية و السياسية للناخبين و المرشحين
- طريقة توزيع المقاعد الممثلة للدوائر الانتخابية
- الدعاية و مدى تأثيرها بالبيئة المحلية ؛ و آثرها فى خلق توجهات معينة لدى الناخبين
- تخطيط الحملات الانتخابية للمرشحين
- البيئة الجغرافية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية للدوائر الانتخابية و تأثيرها على السلوك الانتخابى
- السلوك التصويتى للفرد و الجماعة بهدف الوقوف على العوامل الجغرافية المكانية التى تؤثر على السلوك التصويتى
هناك موضوعات آخرى جذبت اهتمام الجغرافيين المهتمين بالانتخابات فى السنوات الأخيرة كدراسة الأحزاب السياسية و أقاليم الدعم الجغرافى لها ، و أشكال التصويت فى المجالس التشريعية ، و دور الأيدلوجيات فى توجيه السلوك الانتخابى للسكان .
4- مناهج الدراسة فى جغرافية الانتخابات :
المنهج هو التنظيم الجيد أو الترتيب الصائب للعمليات العقلية التى يقوم بها الباحث عند دراسة مشكلة ما بهدف الكشف عن حقيقتها و البرهنة عليها . كما يمكن تعريفه بأنه أساليب معروفة لنا تستخدم فى عمليات تحصيل المعرفة الخاصة بظاهرة معينة
تغيرت مناهج البحث فى جغرافية الانتخابات لابراز و تأكيد علاقتها الحميمة بالجغرافيا معتمدين على التفسير و التحليل و رسم الخرائط لنتائج الانتخابات و التى توضح التباين فى أنماط التصويت و يمكن حصر هذه الطرق فى منهجين هما المنهج المساحى و المنهج المكانى
أ- المنهج المساحى " Areal approach " :
و هو المنهج الذى اعتمد عليه سيجفريد فى دراسته للانتخابات فى منطقة أردش بفرنسا علم 1913 ، و تتلخص طريقة هذا المنهج فى تحليل نمط السلوك البشرى و اظهار التباين المكانى للناخبين و علاقتهم بالمتغيرات الجغرافية كالعوامل الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و البيئية ، كما يركز على دراسة الاختلافات المكانية فى نتائج التصويت من خلال استخدام العلاقات المساحية مع الآخذ فى الاعتبار تحديد المتغيرات الجغرافية التى تساهم فى صياغة المواقف السياسية و السلوك الانتخابى للسكان كما يهدف هذا المنهج إلى تحليل الأنماط المكانية كنتائج الانتخابات فى ضوء علاقتها الأيكولوجية ، و على الباحث فى هذا المنهج أن يكشف عن خصائص الناخبين و تحليل شخصياتهم التى أثرت فى عملية التصويت ، و من ثم يتضح الصالح العام لهذا الحزب أو ذلك ، و يدخل فى هذه الخصائص التباين المكانى فى الظروف البيئية و الاقتصادية و الاجتماعية .
ب- المنهج المكانى " Spatial approach " :
اتجهت دراسة جغرافية الانتخابات بعد عام 1960 إلى نفس الاتجاه الحديث الذى اتجهت إليه الدراسات الجغرافية بصفة عامة فقد انتقل محور التركيز من التركيز المساحى " Areal" إلى التحليل المكانى " Spatial " و من التركيز على الخصائص الموقعية إلى الاهتمام بالموقع النسبى و التفاعل المكانى .
لذا المنهج المكانى - السلوكى يهتم بقياس التغيرات المكانية و تحليلها مثل المسافة و الرابطة و الصلة و أثر الجوار فى السلوك الانتخابى للفرد . و بناء عليه فإن ذلك المنهج يرى أن السلوك الانتخابى للفرد لا يرجع إلى التغيرات المكانية فى الوحدة المساحية فقط ؛ و انما لوجوده فى وسط جغرافي متميز يؤدى إلى الاستجابة الانتخابية للفرد .
كلا من المنهجين المساحى و المكانى – السلوكى يهتمان بأثر التباين المكانى على السلوك التصويتى للناخب فى ضوء جغرافية المكان الذى يعيش فى ظله أو دراسة إجماليات نتائج التصويت فى كل منطقة فى ضوء ظروفها الجغرافية .
بالإضافة للمنهجين السابقين لا يمكن الاستغناء عن المناهج الأساسية فى الجغرافيا السياسية ، و التى تمكن الباحث من تفسير العديد من العناصر فى العملية الانتخابية ، و منها المنهج الأصولى " Principle approach " و الذى يبحث فى مفاهيم و أسس جغرافية الانتخابات و طرق البحث فيها و أهدافها ، و المنهج التاريخي " Chronological approach " و الذى يوضح التطور التاريخي لظاهرة الانتخابات ، و ما يتعلق بها من تقسيم الدوائر الانتخابية و النظام الانتخابى المتبع حيث أن ظاهرة الانتخابات ظاهرة مستمرة و تتغير من فترة لأخرى . و المنهج الوظيفي " Functional approach " و يمكن من خلاله تحليل التقسيمات الانتخابية و القوانين التى ترتبط بالعملية الانتخابية و ايضا تحديد الاتجاهات السياسية و تحليلها فى الدولة و رصد مدى التباين الإقليمي فيها .
و بالرغم من تعدد المناهج فهذا لا يعنى تضارب ، بل أن لكل منها ضرورته و أهميته ؛ فقد لا يصلح أحدهم دون الآخر لحاجة البحث إليه .
5- علاقة جغرافية الانتخابات بالعلوم الأخرى :
ترتبط جغرافية الانتخابات بالعديد من العلوم الأخرى شأنها فى ذلك شأن علم الجغرافيا الذى يتصف بالشمولية نتيجة الارتباط بالعديد من العلوم الأخرى الناتج عن عملية الامتصاص الفكرى لتلك العلوم .
و نجد جغرافية الانتخابات ترتبط ارتباطا وثيقا بالعلوم السياسية و علم الاجتماع السياسي و علم القانون و علم النفس البيئي و الذى يهتم بدراسة العلاقة بين السلوك البشرى البيئة التى يعيش فيها و يتفاعل معها .
· مصطلح أمريكى معناه التلاعب فى الانتخابات خاصة فى رسم حدود الدوائر الانتخابية لمحاباة أحد المرشحين ؛ و هو نسبة لحاكم ولاية ماساشوسين Elbridge Garry الذى ابتدع نظام التقسيم التفصيلي للدوائر الذى بمقتضاه أعيد رسم دوائر مقاطعة Essex بصورة تسمح للحزب الحاكم بتحقيق ما يصبو إليه من أغلبية و تفتيت اصوات المجموعات المعارضة و ذلك فى الانتخابات التى كان مزمع اجراءها فى عام 1812 .