جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الجغرافية العسكرية الإسلامية
هاني عبد الرحيم العزيزي
يطرح الكاتب العسكري محمد جمال الدين محفوظ (1) في كتاب له السؤال المنطقي التالي : هل يقبل العقل أن تكون الشجاعة ، وقوة العقيدة وحدهما وراء النجاح في العمليات الحربية للمسلمين دون أن يكون معهما شيء من الكفاية الحربية في القيادة و أساليب القتال ؟ ويتبعه بسؤال آخر هو : هل يقبل العقل أن يكون من العرب رواد في كل نواحي العلوم الطبيعية والاجتماعية ولا يكون منهم رواد في فن الحرب ؟ ويأتي الرد من أي مجيب سواء من أهل العلم المختص ، أو من العامة بالنفي . ويسعى كاتب هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على بعض من نتاج المدرسة العسكرية الإسلامية في مجال الجغرافية العسكرية .
الجغرافية العسكرية كعلم تطبيقي في تعريفها الدارج " حقل متخصص من الجغرافيا بالتعامل مع الظاهرات الطبيعية و الظاهرات التي صنعها الإنسان والتي قد تؤثر في مسار العمليات العسكرية ، أو التخطيط لها " (2). وعلى ذلك سيعمل القادة على دراسة أحوال وخصائص البلاد والمناطق بوساطة العيون وما شابهها ، من جمع للمعلومات ، قبل إرسال الجيوش عن مواطن القوة و الضعف فيها، سعيا" لحصول النصر ، و تجنبا لوقوع الهزيمة. وكان ذلك بعض مما أوصى به خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم قادتهم ، فقد كتب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد أبن أبى وقاص رضي الله عنه ، كتب إليه و من معه من الأجناد " .. وإذا وطئت أرض العدو .. وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها ، فتصنع بعدوك كصنعه بك .." (3) . أن دراسة أرض العدو، كما رأى عمر رضي الله عنه أمر واجب ، إذ أن في التعّرف على مسالكها و دروبها ، و موارد مائها ، و نباتها ، ومعالم سطحها ، إدراك لمواطن القوة و الضعف فيها ، وهذا أمر سيحسن الأعداء استخدامه ، فهم أدرى من غيرهم بطبيعة بلادهم ، وأن عرف سعد و جنده أرض العدو فأنهم سيدركون ما يدركه عدوهم عنها ، ويكون بإمكانهم أعداد الخطط الملائمة عن أرض أصبحوا يعرفونها كما عرفها أصحابها . وبذلك لن تكون الأرض ألا لصالح من يحسن استخدامها ، وتسخير مواردها ، ويستفيد من إمكانياتها (4) .
قد يسأل سائل ما هي العوامل الجغرافية التي ساعدت العرب في فتوحاتهم ؟
بالنسبة لفتح العراق يجيب محمد أحمد حسونة (5) ، و يورد من العوامل أن العرب لم يخرجوا في فتحه عن بيئتهم الطبيعية المعروفة ، حيث وجدوا أنفسهم في بلاد صحراوية الأرض و الأحوال الجوية ، لا تختلف عن موطنهم بل هي بلاد متممة لها ، كما تعتبر الصحراء ملاذهم ، يعتصمون بها ، ويستندون إليها ، ويتخذونها حاجزا بينهم و بين أعدائهم ، ولا تنسى روابط العرق ، واللغة و العادات ، والتقاليد بينهم وبين سكان العراق . وصفوة القول إن العراق بأرضه و سكانه ليس غريبا على العرب الفاتحين . أما بما يتعلق ببلاد الشام فالأمر يشبه العراق ، فقد وجد العرب أنفسهم – أول الأمر – في مثل الظروف الجغرافية التي ألفوها من حيث التضاريس و بخاصة في القسم الشرقي من بلاد الشام إذ أنه بادية تشكل امتدادا لصحرائهم ، والقسم الأوسط جبلي يعتبر امتدادا للحجاز ، ولرحلة الصيف التي جاءت بالعرب إلى دروب وأسوق الشام دورها ، فعرفها التجار و الأدلاء على حد سواء ، إضافة إلى أن العرب المسلمين وجدوا بالشام أناسا سبقوهم وتغلغلوا في المنطقة قبل الإسلام بأكثر من ألف عام ، وأستقر بعضهم على تخومها الشمالية. ويضاف إلى ما سبق حرية العرب في ضرب الروم أو الفرس ، وفي نقل جنودهم بين العراق والشام .
إن في دراسة معركة حطين دروس وعبر ، وفيها العديد من الأمثلة على استخدام المسلمين للعوامل الجغرافية في العمليات العسكرية والتخطيط لها ، إضافة إلى دور العقيدة والأيمان في تحقيق النصر المؤزر على العدو الباغي .
تشير الكتب والمراجع التاريخية(6) إلى عقد هدنة بين المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي ، والصليبيين مدتها أربع سنوات بدأت بعام 581 هجرية / 1185 م ، لكنها نقضت بعد ذلك بعامين باعتداء الأمير الصليبي أرناط على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق مما عجّل بمعركة عسكرية منتظرة بين المسلمين و الصليبيين . عبأ صلاح الدين القوات ، وخرج من دمشق ، وقام بأنشطة عسكرية ناجحة ، فكان رد الصليبيين توحيد صفوفهم ، وحشد قواتهم في صفورية . وهنا ظهرت براعة صلاح الدين ، إذ قرر عدم مواجهتهم ، وفضل استتراجهم إليه فيصلونه وقد نال منهم التعب من طول الطريق ، وحرارة الجو ، وقلة الماء . فبادر إلى احتلال طبرية عدا قلعتها ، وأحرقها . وأراد الصليبيون الانتقام فزحفوا إلى طبرية ، حيث كان صلاح الدين وجنوده يعسكرون ويستريحون قرب طبرية حيث الماء والظل والراحة ، وينتظرون عدوهم ، وبعد وصول خبر الزحف الصليبي تقدم صلاح الدين ، وشدّد الحراسة على شواطئ بحيرة طبرية لمنع الماء عن العدو ، ورابط غرب طبرية عند قرية حطين التي تبعد نحو ثلاثة أميال عن البحيرة ، ووسط منطقة وفيرة الماء والعشب .
في اليوم الثالث من تموز (يوليو) وكان شديد الحرارة ، ساكن الهواء وصل الصليبيون هضبة تطل على سهل طبرية ، وأتخذ صلاح الدين مواقع يحول بها بين العدو و ماء البحيرة ، في وقت أشتد بهم الظمأ . وعادت براعة القائد المسلم تتجدد ثانية ، فأمر بإشعال النار بالأعشاب و الأشواك - التي جففتها أشعة شمس الصيف اللاهب – التي تكسو الهضبة ، " وكانت الريح على الفرنج فحملت إليهم الحر والنار والدخان ، فأجتمع عليهم العطش وحرّ الزمان و حّر النار والدخان وحّر القتال " على قول أبن الأثير .
وعندما أشرقت شمس يوم الرابع من تموز (يوليو) ، وهو اليوم التالي ، تبين للصليبيين أن المسلمين استغلوا ظلمة الليل لحصارهم ، وبذلك بدأ الهجوم الشامل ، " فأخذتهم سهام المسلمين ، وكثر فيهم الجراح ، وقوي الحّر وسلبهم العطش الفرار " على قول المؤرخ ابن واصل . وكانت نهاية المعركة بوقوع جيش الصليبيين بين قتيل وجريح وأسير ، وعاقب صلاح الدين أرناط بالقتل ، وأحسن معاملة من استسلم من أمراء الصليبيين .
لا يقتصر الأمر على العوامل والعناصر الطبيعية في عالم الحروب فحسب ، بل يمتد إلى الجوانب والعناصر البشرية ، أي أحوال الناس أعدادهم وأقلياتهم وعاداتهم وأعيادهم . ومن أمثلة ذلك نجاح هجوم خالد بن الوليد على قبائل غسان النصرانية يوم عيد الفصح، وعادة يكون جلّ الجيش في إجازة ، ويصعب أو على الأقل يطول استنفاره . ويتكرر الأسلوب عندما شن العرب حرب رمضان / أكتوبر / تشرين 1973 يوم عيد الغفران (يوم كيبور) أعظم أعياد اليهود ، وكان اختيار اليوم المذكور بعد دراسة مستفيضة شملت السنة والشهر واليوم بل والساعة أيضا بكل عناصرها الطبيعية ، والإستراتيجية ، والتعبوية .
من كل ما سبق يمكن القول : أن العرب أصبح لهم بعد الإسلام مدرسة عسكرية لأول مرة في تاريخهم (7) ، لقد كان للعرب في تاريخهم الطويل دور عسكري ، وإنجازات عسكرية لا تقل عن إنجازاتهم الحضارية ، عندما خاضوا غمار حروب مع أقوى إمبراطوريات العصر ، الروم والفرس ، انتصروا فيها ، ولم يعودوا أهل حرب الصحراء " حرب الكر و الفر " فقط ، بل أظهروا عبقريات عسكرية منقطعة النظير (8) .
المراجع
1. محمد جمال الدين محفوظ . العسكرية في الإسلام ، سلسلة أقرأ العدد 598 ، دار المعارف ، القاهرة 1994 .
2. Department of The Army. Dictionary of United States Army Terms, AR 310 –25 USA June 1972.
3. أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي . العقد الفريد ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1983 .
4. هاني عبد الرحيم العزيزي . صور من الجغرافيا العسكرية في التراث العربي ، مجلة جند عمان ، العدد 250 سبتمبر 1996 .
5. محمد أحمد حسونة . أثر العوامل الجغرافية في الفتوحات الإسلامية ، دار نهضة مصر للطبع و النشر ، القاهرة (بدون تاريخ ) .
6. - الموسوعة الفلسطينية . المجلد الثاني ، دمشق 1984.
- ماجد اللحام . معجم المعارك الحربية ،دار الفكر المعاصر ، دمشق 1990 .
- Compton’s Home Library: Battles of the World, The learning Company UK 1996 .
7. محمد أحمد حسونة . مرجع سابق .
8. هاني عبد الرحيم العزيزي . مرجع سابق .