كنت أقرأ هذا الصباح في سورة الأنعام، وقد وضعت إلي جواري كتاب التفسير لأقرأ تفسير الآيات التي لا أفهمها جيدا. وسبحان الله، فلتدبر القرآن حلاوة قد لا نستشعرها بسبب انشغال عقولنا بالكثير من الأشياء. استشعرت من هذه الحلاوة شيئا يسيرا أظنه لا يتجاوز الواحد علي المليون من حلاوة تدبر القرآن. شعرت أنني أريد أن أخصص وقتا ثابتا للقراءة بتدبر، لا للقراءة العادية، وأنني أريد أن أتذوق هذه الحلاوة أكثر. لا أدري كيف. ولكني أظن بتحسين الخلق، وبالمواظبة علي التدبر والفهم، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
ولندخل في الموضوع، فلم يكن هذا – علي ما أهميته – هو ما شرعت في الكتابة من أجله، ولكنني وجدت عقلي يفكر فيه وأصابعي تقفز علي لوحة المفاتيح من من زر إلي آخر لكتابته. فما الذي كنت أنوي كتابته إذن؟
سأقول لكم...
وأنا أقرأ اليوم في تفسير بعض الآيات من سورة الأنعام، استوقفتني هذه الآية: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" (الأنعام 42)
تذكر الأستاذة/ فوقية إبراهيم الشربيني في كتابها "تيسير التفسير" في تفسير هذه الآية:
"أرسل الله رسلا لأمم تهديهم إلي الله فكذبوا وسنة الله التي لا تختلف هي الانتقام من الطغاة الظالمين بأنواع الفتن والمحن لعلها تردعهم فيرون طريق الحق والإيمان.
قد تكون المحنة في أجسامهم بالأمراض أو بالفزع والهموم أو الفقر أو الزلازل أو غيرها، فمن أراد الله له الهداية توقفه المحنة علي باب الله يدعوه ويتوب ويستغفر ويتضرع خاشعا، ويجد باب التوبة مفتوحا فتكون المحنة السابقة خير، رده للحق فينجو من عذاب الآخرة."
وأنا أقرأ هذه الكلمات شعرت أنني أقرأ أحوالنا: المشكلة، وتشخيصها وحلها في نفس الوقت (مع العلم بأنني لا أقصد أننا طغاة، ولكن ظالمين... نعم). وذكرني ذلك بالداعية الشاب معز مسعود الذي تحدث منذ فترة عن أزمة الخبز وربط ذلك بقوله تعالي: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون" (البقرة: 155/ 156 /157).
فقد تحدث عن مشكلة الخبز بجميع أطرافها: الدول الكبري التي تلقي بالقمح الزائد في البحار حتي يظل ثمنه مرتفعا، وبعض أصحاب الأفران الذين يبيعون القمح في السوق السوداء ليزيدوا مكاسبهم المادية، والطرف الأخير والذي يضم أكبر عدد من الناس، وهو مستهلكو الخبز. وبعد أن وجه حديثه إلي أصحاب المخابز موصيا إياهم بتقوي الله وتحري الحلال فيما يكسبون، وجه حديثه إلي مستهلكي الخبز المظلومين والذين يعانون من مشكلة كبيرة لأن كلمة "العِيش" هي من "العَيش" أي الحياة، فالخبز هو الحياة.. أقول وجه حديثه إلي هؤلاء قائلا لهم أنهم هم الذين اختارهم الله، وابتلاهم بهذا الابتلاء ليكفر عنهم سيئاتهم، وعلي هذا فعليهم بالصبر.. أي علي الأقل، لا يشتمون أو يضربون وهم وقوف في الطابور، ويقفون مطمئنين إلي أن رزقهم مكفول.
فعندما قرأت آية سورة الأنعام، ربطتها بآية البقرة وحديث الأستاذ/ معز مسعود عن مشكلة الخبز، وقلت لنفسي: هل يمكننا أن ننظر إلي مشكلاتنا علي أنها ابتلاءات ؟ هل يمكننا أن ننظر إلي الزحام في الطرق والمواصلات وطوابير العيش و...الخ، وتدني مستوي المعيشة في كثير من المناطق البسيطة من سوء الصرف وانقطاع للمياه وضيق في البيوت، وانتشار للجرائم، وانخفاض في الدخول علي أنها ابتلاءات؟ وعليه، نصبر فتكون لنا البشري من الله كما في الآية.
إن الآيات تشعرني أنها عتاب رقيق من محب لمن يحب. والفرق كبير بين أن ننظر إلي المشاكل والمصائب علي أنها عقاب من الله علي ذنوبنا، وبين أن ننظر إليها علي أنها محبة من الله ودعوة منه – سبحانه - أن نرجع إليه. فهو يرانا وقد ابتعدنا عنه وعن ديننا، ويريدنا أن نتقرب إليه لأنه يجبنا، ولأن المسلمين يجب أن يقودوا الأرض كما كانوا. والفرق بين النظرتين هي المشاعر المتولدة عن كليهما. فإحساس الإنسان أن الله غاضب عليه ويعاقبه غالبا سيدفعه إلي اليأس، وجلد الذات، والتمادي في الأخطاء، أو الطاعة مضطرا لتفادي العقاب. أما الحب، فإنه "يصنع المعجزات" كما نقول. شعور الإنسان أن الله يحبه رغم ذنوبه، ويريد أن يتوب عليه يبث فيه روح الأمل ويمده بطاقة تدفعه إلي الإصلاح والتقرب إلي الله.
وهذا يقودنا إلي نقطتين في غاية الأهمية، هما: مفهوم الصبر الذي أشرت إليه آنفا، ومفهوم الإصلاح والتقرب إلي الله. بمعني آخر، كيف نتعامل مع هذه الابتلاءات؟
لقد اتفقنا علي أن هذه الابتلاءات هي تكفير لسيئاتنا، ودعوة من الله أن نثوب إليه. إذن، فلينظركل منا في نفسه: كيف حاله مع الله؟ وليبدأ بإصلاح نفسه، وبمن يليه، وليأخذ كل منا بيد أهله وأصدقائه لأن يد الله مع الجماعة. وفي نفس الوقت، نسعي إلي حل هذه المشكلات وتغيير الأوضاع، كل علي حسب مكانه وطاقته سواء باليد أو اللسان أو القلب كما علمنا الحبيب (صلي الله عليه وسلم). نفعل هذا ونحن راضون عن الله، شاعرين بحبه لنا، ولسان حالنا يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. وهذا في رأيي مفهوم الصبر: رضا بالوضع الحالي + محاولة لحل المشكلات كل علي طاقته + سعي لإصلاح أحوالنا مع الله.
وهذه هي النقطة التالية: ما معني إصلاح أحوالنا مع الله؟ أنا مؤمنة تمام الإيمان بأن الدين هو الحياة، فالدين ليس شعائر وعبادات فقط – علي أهميتها طبعا – ولكنه يشمل عبادة الله، وتزكية النفس وعمارة الأرض. بمعني آخر، يمكننا أن نعيش الدين في كل دقائق حياتنا فقط إذا أخلصنا النية لله في كل ما نفعل.
اللهم أعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الصبر الجميل، اجعلنا من أهل القرآن.
ساحة النقاش