محمد شهاب- المزارع السمكية Mohamed Shihab -Aquacultures

يعرض الموقع الأحدث من ومقالات و صور و مواقع تخص الاستزراع السمكى

فى ساقية المنقدى أنامل تغزل صدف البحـر

إعداد/ محمد شهاب

كتبت فاطمة العربى:

لم يكن محمود قوطة الطفل الصغير ابن السنوات السبع يعلم وهو يحمل حقيبة ثيابه الصغيرة متوجها إلى خان الخليلى بالقاهرة بداية الستينيات من القرن الماضى للعمل فى ورشة خاله الأسطى عبده زايد أن الأقدار كانت ترسم به طريقا مختلفا لقريته الصغيرة بمركز أشمون بمحافظة المنوفية بعد أقل من 20 عاما، فاشتهرت «ساقية المنقدى» التى عاد إليها محمود مرة أخرى شابا بصناعة أصبح «أسطى فيها» وهى صناعة منتجات الصدف من أثاث وديكور وأنتيكات وغيرها بل وذاع صيتها بهذه الصناعة التى أصبح يعمل بها غالبية السكان سواء بالورش أو البيوت وتباع منتجاتها فى مصر بعدة مناطق أشهرها خان الخليلى بالقاهرة وتصدر للخارج لأكثر من دولة عربية وأوروبية وإفريقية وآسيوية. فى قرية ساقية المنقدى التى تبعد حوالى 100 كيلو متر عن القاهرة تشاهد فنيات الحرفة التى يصر العاملون بها على أنهم عاشقوها وأنها بالنسبة لهم ليست مجرد صنعة لكنها فن له أسس وقواعد تبهر من يراقب الأنامل الخشنة وهى تتحرك بخفة لكن بحرفية ومهارة فى الوقت نفسه فهى تعلم ما تصنع لرسم أشكالاً هندسية وفنونا إسلامية معقدة على لوحات مختلفة الأشكال والأبعاد وسط خلية نحل من الأسطوات ومساعديهم وكل منهم يعلم جيداً ما يفعل لإكمال لوحة فنية من التراث الإسلامى الذى يبهر عاشقيه فى منظومة تؤمن وتطبق فكرة العمل الجماعى لتخرج قطعة فنية من صنع المجموعة وليس فردا واحدا، ولسان حالهم يردد «حرفتنا فن يقدره السائح وتطلبه دول العالم».فى إحدى الورش التى يصل عددها إلى 70 ورشة فى أنحاء القرية المختلفة، بحثنا عن الحاج محمود قوطة الذى بالرغم من أن عمره شارف على السبعين إلا أنه دائما ما يتواجد بين الصنايعية يتحرك بينهم يلمس بيده ما يصنعونه ويعطى ملاحظاته وتعليماته السريعة والخاطفة لمزيد من الجودة، اختطفنا منه دقائق ليحكى لنا القصة من البداية فقال «شأن الكثير من أطفال القرى فى ذلك الزمن لم التحق بالمدرسة لكنى سافرت إلى منطقة خان الخليلى بالقاهرة عام 1961 لكى أتعلم أحد أسطوات صناعة الصدف الذى لمح موهبتى مبكرا، فرغم أن الأصول تقتضى أن أظل شهورا فى الورشة فى البداية أعمل مناولا للأسطوات وأتعلم أسماء «المونه» أى الخامات التى يستخدمونها إلا أنى اختصرت هذه الفترة لأسبوع واحد فقط بعدها كنت جالسا أعمل بيدى خاصة أنى كنت أحضر مبكرا وأقوم بتقليد الأسطوات بالخطوات التى يتبعونها ما جعله يمررنى على كافة خطوات الصنعة وبعد عامين فقط كلفنى بتشغيل الورشة وكنت أسطى وعمرى لم يتجاوز 12 عاما واستمر بى الحال كذلك حتى عام 1974 لألتحق بالتجنيد وبعد ذلك عدت لقريتى شابا لأكمل حلمى بها وبالفعل خلال سنوات قليلة حققت جزءا كبيرا من أحلامى وبدأ اسمها واسمى يحقق شهرة فى هذه الصناعة»

«قبلة من سائحة على خدى وأنا منهمك فى العمل بورشة خالى تقديرا منها لما أقوم به غيرت نظرتى للحياة وجعلتنى أشعر أنى فنان يقدر العالم فنه الراقى»، بهذه العبارة التى نطقها الحاج محمود أبو قوطة وهو يتذكر أيامه وهو يبدأ رحلته كأسطى صغير السن بالقاهرة يفكر فى العودة لـ «ساقية المنقدى» إحدى القرى بمحافظة المنوفية، قائلا «وقت عودتى كانت القرية فقيرة ومهمشة جدا وكنت مثار دهشة للأهالى الذين كانوا يتهامسون» ابن أبو قوطة سايب مصر وجاى يعمل ايه هنا؟، لكن كان تركيزى مع الشباب الصغير الذين جمعتهم وأوضحت لهم عظمة الصنعة وما يمكن أن يحققوه لأنفسهم بدلا من السفر للخارج والغربة التى كانت منتشرة بمصر بشكل كبير وقتها، وبالفعل قمت بتدريب فريق من المحترفين جعلونى اكتسح بمنتجاتى السوق المحلية وأقوم بالتصدير للخارج.
الحاج سعيد عبدالصادق أحد الأسطوات الكبار أو لنقل أسطى الجيل الأول من أبناء القرية الذى يعمل بصناعة الصدف منذ 48 عاما قابلناه وهو يجلس على مكتب يقوم بقص وتشكيل قطع بالغة الدقة بأشكال مختلفة تصل لمليمترات صغيرة سواء من الصدف أو من الخامات الصناعية الأخرى فتغير الحال وظروف العمل أدخلت مواد جديدة بجانب الصدف يعمل بها هؤلاء المحترفين، لكن ما استرعى انتباهنا هو الدقة والعمل بأشكال هندسية ومقاييس محسوبة بتناغم ودقة مهندس محترف، ورغم انشغاله وجدناه ينظر إلينا مبتسما وكأنما أدرك سبب دهشتنا فبادرنا قائلا «نحن أهل خبرة وعلم أيضا» وقبل أن نسأله إذا به يخرج لنا كتابا ضخما من درج صغير بجانبه يتحدث عن الرسوم الهندسية للفنون الإسلامية وهو يواصل «نصنع تصميماتنا من الكتب لكننا نضفى خبرتنا وذوقنا أيضا، ونستخدم المقاييس الدقيقة لكن أعيننا أحد أهم هذه المقاييس فبالخبرة أصبحت النظرة لها تقديراتها الدقيقة».
وحكى لنا عبدالصادق بجديه لكن بنبرة هادئة فى نفس الوقت وابتسامة لم تغب « تعلمت على أيدى أسطوات كبار بالحسين وخان الخليلى مثل الحاج أحمد زايد وعبدالجواد عنانى كما أنى علمت هذه الصنعة لأولادى وتلاميذى منهم من يربط أى يشكل ومنهم من يغرى»، مشيرا إلى أن العمل بالصدف الطبيعى يبلغ من 30 إلى 50% والباقى مواد صناعية لكن هناك من يطلب شغل 100% صدف طبيعى وهذا له قيمته العالية فكيلو الصدف يصل سعره 750 جنيها، مختتما حديثه بمطالب بمزيد من الاهتمام بهذه الصنعة التى يعشقها ويتمنى أن حركة العمل بها مثلما كان فى الماضى فقد قضى فيها عمره ومنها تعلم كل شىء، وعلمها لأبنائه جميعا، قائلا بفخر «كريم ابنى كان صنايعى وهو فى المرحلة الإعدادية وأتمنى الشباب كلهم يتعلموا صنعة تفيدهم ويعملوا بها».

الأسطى رجب عبدالله وقف أمام ماكينة الفضى وهى الخامة البلاستيك التى يتم العمل بها فى الصناعة بألوان مختلفة منها الأسود والبنى والفيروزى والفضى على هيئة ألواح بسمك معين يضبطه بخبرته التى هذبت نظرته للمعايير بدقة قائلا «إذا نقصت تصبح قشرة لا يمكن العمل بها وإذا زادت يصبح سمكها كبيرا فلا يمكن العمل بها أيضا لذلك فالمعايير المضبوطة هى أساس العمل».
وبغرفة على سطح منزلها بالقرية وقفت «أم عبده» وهى إحدى سيدات القرية العاملات فى الصناعة منذ 10 سنوات وتقوم بعمل «اسطمبات» بألوان مختلفة يملؤها الصنايعية فى الورش بعد ذلك بالخامات المختلفة سواء صدف طبيعى بألوانه الزاهية أو صناعى أو اكريلك، وتقول «الظروف اضطرتنى فى البداية للعمل لكنى أحببته بعد ذلك وأقوم به بحب ومهارة جعل أصحاب الورش يطلبون منتجى بشكل مستمر، وأجد سعادة وأنا أعمل وأتمنى أن أشارك بمعارض صناعات الصدف فى الخارج لأرى السائحين وهم يقبلون على المنتجات التى شاركت فيها.
وفى مرحلة التشطيب وقف محمود علاء 15 عاما ويعمل بصنفرة المناضد فى فترة الإجازة الدراسية يشير لنا على المنتجات بسعادة وهو يقول «لدينا الترابيزات بمقاساتها والصغيرة تسمى طقطوقة وهناك حامل المصحف الشريف والأثاث».
وبداخل الورشة تجد نفسك وكأنك داخل خلية نحل الجميع يتحرك والجميع يعمل بتركيز شديد فى حلقات تكمل كل منها الأخرى ولا تملك سوى أن يتغير مزاجك ويعتدل من الطاقة الإيجابية التى تستشعرها حتى وإن كنت لا تفهم المصطلحات التى تتطاير حولك وتتحول لأفعال فهناك يجلس محمود ناصر يربط «اتناشرى بشعيرة» وهى رسمة بخامات أمامه تسمى «المونة»، وها هو عبدالحميد أحمد «يحلق الأبوا» لماسك المصحف الشريف الذى يعمل به، أما أحمد سعيد فقد أمسك بيده شوكة وهى تشبه القلم لكنها من الخشب يلتقط بها الأشكال الهندسية الدقيقة سواء من «البرابيع والمتلوتة والشعائر» سواء من الصدف الطبيعى أو جلد السلحفاة الصناعى أو الإكريلك ليقوم بتشكيل القطعة التى يعمل عليها بها مستخدما الغراء الأبىض فى لصقها، ويقوم الأسطى محمد حسن بتقطيع الخامات بمقاييس دقيقة حسب ما يتطلبه العمل وفق الأطوال وزاوية الميل – وبينما يشرح لنا – إذا بزميله يطلب منه شرش التمن وآخر يطلب حمصة على 7 فأكمل حديثه وهو ينفذ لهم طلباتهم «أنا فى الصنعة منذ 32 عاما ونحن فريق متكامل وفى صنعتنا ايد لوحدها متعملش حاجة».
تركنا الصدف بألوانه المختلفة وأنواعه الكثيرة التى تجعل الخيال يسرح لمياه البحر وما تحويه من كنوز فكما قيل «ليس اللؤلؤ سوى رأى البحر فى الصدف» ومن منا لم يجمع أشكالا للصدف من رمال البحر وكنوزه بعدما أعجب بتفاصيلها سواء من الصدف السلمى أو الزيتونى أو العنكبوتى أو الذهبى أو المروحى فالمراجع تتحدث عن 100 ألف نوع معروف من الرخويات لكل منها صدفة ذات تصميم وشكل خاص لكنها جميعا تتكون بطريقة واحدة سواء فى الرخويات التى تعيش فى المياه المالحة أو العذبة أو البرية وتتكون جميعها من ثلاث طبقات خارجية ووسطى وعرق اللؤلؤ أو الداخلية، هذه الطبقات يهذبها وينعمها هؤلاء الصنايعية ليصنعون منها قطعا فنية وصولا لمنتج نهائى بدأ من بعد مرحلة النجارة إلى «التفنيشة الأخيرة»، كما أسماها على شعبان وزايد نصار قبل أن يسلموا المنتج للإسترجية والتلميع.
محمد عدلان صاحب مصنع قال: شغلنا يبدأ من النجارة حسب المطلوب من العميل إذا كان أثاث من غرف مختلفة ومكوناتها أو مكاتب أو علب وحوامل مصحف، وبعد النجارة تبدأ مرحلة التصديف أى تعشيق شغل الصدف على الخشب بشكل يدوى وليس بآلات، مرحلة الصبة وهى مادة خام معينة يتم صبها على الصدف المعشق لملأ الفراغات ولكى يتماسك ويصبح بمستوى واحد، ثم مرحلة الصنفرة بالصاروخ لتنعيمها ثم التشطيب الذى يبدأ بالتأسيس بصنفرة المعجون والصنفرة اليدوى والسيلر والبوليستر وفى النهاية يكون «الوش الأخير» بالورنيش اللامع قبل التغليف والتقفيل.
صنعتنا التى تربينا فى دهاليزها منذ كانت أعمارنا 8 سنوات فعطلات المدارس قضيناها فى تعلم الصنعة ثم العمل فيها ولا يوجد بيت بالقرية إلا وبه أكثر من شخص يعمل بالصدف لكن السنوات الأخيرة وبسبب ظروف كورونا انخفض معدل العمل بشكل كبير بعد أن كنا نعمل يوميا حتى الواحدة والثانية صباحا لإنهاء طلبيات العملاء لكن حاليا العمل ينتهى فى الخامسة أو السادسة مساء، ونريد من الدولة المزيد من المعارض الخارجية التى تفيدنا أكثر بكثير من المعارض الداخلية فللأسف منتجنا لم يجد التسويق المناسب ليكون مطلوبا من العميل المصرى لكننا بدأنا ننشره عن طريق مواقع التواصل الاجتماعى خاصة بعد أزمة التصدير التى حدثت بسبب كورونا فاتجهنا للسوق المصرى وبالفعل بدأت الأمور تتحرك قليلا بالداخل وخاصة مع أعمال المجالس حيث الصالونات والأنتريهات والركنات وغيرها، لكن السوق الخارجى هو سوقنا الأكبر سواء بدول الخليج مثل السعودية أو العراق أو ليبيا حيث طلبات الأثاث المختلفة من التراث الإسلامى لكن دول أوروبا فى المنتجات الصغيرة مثل العلب والأنتيكات وغيرها.
وأشاد عدلان بالتيسيرات الحالية فيما يتعلق بقروض العمل بالصناعات التراثية والحرف اليدوية سواء انخفاض الفائدة أو سهولة الإجراءات لكنه طالب بمزيد من التيسيرات التى تخص استيراد الخامات لتعود هذه الصناعات لمكانتها السابقة بما يعود بالفائدة على العاملين بها حيث مكسبهم من الاستمرار فى العمل بما يتسبب فى توسعة أعمالهم وتشغيل المزيد من الأيدى العاملة، وكذلك على الاقتصاد المصرى والسياحة حيث تعد هذه الصناعات وسيلة للترويج السياحى لمصر بالخارج.
وعن أحلامهم لمستقبل صناعة الصدف قال الحاج محمود «الصنعة» أحلى سماعة تكشف على المريض وأفضل علاج له ورواجها علاج للعاملين بها ولمستوى دخولهم واقتصاد بلدهم، ونريد من الدولة أن تتبنى هذه الحرفة التراثية وهناك بالفعل اهتمام حاليا بتطويرها لكنى أتمنى أن تعطى الدولة تعليماتها لسفاراتنا المصرية بالخارج أن يكون جزء من مهامها عمل معارض تحت رعايتها لعرض هذه المنتجات المصرية فى المدن والولايات المهتمة بهذه الصناعات فى جميع دول العالم فيكون ذلك بمثابة دعاية وترويج لصناعاتنا وتشغيل لنا ورواج لمنتجاتنا المصرية ومناطقنا السياحية ما يعود بالخير على بلادنا، فأكبر مشكلة تواجهنا هى التسويق ونريد الدولة مساعدتنا فى ذلك ويمكن أن يحدث تبادل تجارى بمنتجاتنا المميزة مثلما كان يحدث فى الستينات حيث كانت مصر تحصل على صفقات لمنتجات تحتاجها مقابل المنتجات التراثية المصرية التى تبهر العالم بدقة صنعتها اليدوية التى تلقى إعجابا من الشعوب المحبة للفنون والمقدرة له ولصانعيه.

المصدر: الأهرام
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 585 مشاهدة
نشرت فى 26 فبراير 2022 بواسطة hatmheet

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

2,275,400