روائع الطب الإسلامي
الجزء الثاني
[العبادات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع]
تأليف
العلامة الدكتور الطبيب
محمـد نزار الـدقر
اختصاصي بالأمراض الجلدية والتناسلية والعلاج التجميلي
دكتور " فلسفة " في العلوم الطبية كاتب متخصص في الطب الإسلامي
أخوتي الشباب ساهموا معنا في ترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الكتاب فقط للقراءة يمنع نسخ الكتاب أو الاقتباس لأغراض تجارية كما يمنع نشر الكتاب على موقع آخر
يسمح فقط بنسخ الكتاب على ورق وتداوله لغرض العلم والتعليم
بين يدي الكتاب
الحمد لله الذي هدانا لإتباع هذا الدين القويم،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد r،الذي بلغنا هذه الشريعة الغراء التي لم تترك أمراً صغيراً كان أم كبيراً في حياة البشر إلا ونظمته بما يليق بعظمة الخالق سبحانه،المنزل لهذه الشريعة التي تصلح لكل زمان ومكان،وبما فيه من السعادة لكل من اتبعه في دنياه ولنصل به إلى بر الأمان في أخراه.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على هذه الأرض ومن ثم جعله خليفته فيها وسخر له كل ما فيها.وخلافة الإنسان في الأرض،إنما تتحقق بحسن عمارتها وإصلاحها وحمايتها.ومن أجل ذلك منح الله سبحانه وتعالى الإنسان من المؤهلات من عقل وجسد قوي ما يمكنه من أداء هذه المهمة،وأنزل الشريعة تلو الشريعة حتى يتمكن الإنسان من حفظ هذه الضرورات لتستقيم خلافته وفق المعطيات التي وضعها الخالق المصور لهذا الكون.
وهكذا فإن حفظ النفس وسلامتها وصحة الجسد ملحظ هام أعتبره الفقهاء أحد مقاصد الشريعة الغراء والتي نزلت من أجلها.ومن خلال البحث المنصف نجد أن تشريعات الإسلام كلها تولي هذا المقصد "حفظ البدن وصحته" مكانة خاصة،لا بل نجده ركناً أساسياً في معظم هذه التشريعات.ومن هنا نفهم كيف جعل النبي r نعمة الصحة والعافية تلي نعمة الإيمان في الأهمية،وذلك فيما رواه الصديق tعن النبي r قوله:"سلوا الله اليقين والمعافاة فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية".
وتتطابق نظرة الإسلام للصحة مع المفهوم الحديث لها.فالصحة في مفهوم الطب الحديث ليست مجرد الخلوّ من العاهات أو الأمراض،بل أن يتمتع الفرد برصيد من القوة في وظائف أعضائه تجعله يتحمل ما قد يتعرض له من مسببات كثير من الأمراض وهذا تطابق معجز حقاً مع ما قال به نبي الرحمة r:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".
والإسلام يهتم بصحة الفرد قبل أن يتخلق إذ يطلب انتفاء الشريك (الزوج أو الزوجة) الصالح لإنتاج ذرية سليمة،مصداق ذلك ما يرويه ابن عباس tعن النبي r قوله:"تخيروا لنطفكم" ثم إنه حث على الرضاعة الطبيعية وإطالتها قدر الإمكان ليحصل الوليد على عناصر المناعة اللازمة والتي لا تعطيها الرضاعة الصناعية "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين". ودعا إلى تنشئة بدنية قوية وفيه إلى رياضات هي أسُّ هذه التربية مثل السباحة والرماية وركوب الخيل. وحتى ساعات اللهو عند المسلم موجهة لخيره وتنمية لقوته. يقول r :"كل ما يلهو به المسلم باطل إلا رميه بقوس وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق" والطب الإسلامي إن قرر بعض الأمور العلاجية كنوع من التوجيه للأمة لأمور تنفعها بوحي من السماء،كما في قوله تعالى عن العسل "فيه شفاء للناس" وقول النبي r :"عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء".فهو –أي الطب الإسلامي- طب وقائي يعمل على حماية صحة الفرد ويحافظ على صحة المجتمع كله.قال تعالى :"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
وهو أول نظام صحي عالمي أقرَّ الحجر الصحي عند حدوث الأوبئة كالطاعون والكوليرا ووضع له قواعد راسخة أقرها الطب الحديث.فقد روى الشيخان عن النبي r قوله:"إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به من قبلكم فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا عليه".والذي يعرف أهمية الحجر الصحي في حياة الأمم يعرف عظمة ما جاء به النظام الصحي الإسلامي منذ قرون.
والإسلام دعا إلى النظافة إذ هي قمة الحضارة وجعل الطهارة شرط لصحة أهم عباداته من صلاة وطواف فقال النبي r :"الطهور شطر الإيمان". واهتم بنظافة الفم الذي هو عضو التواصل،كما هو مدخل معظم الجراثيم إلى البدن وربط بوضوح بين نظافة الفم ورضا الرحمن فقال r :"السواك مطهرة الفم مرضاة للرب".
وآداب الطعام مفخرة من مفاخر الهدي النبوي العظيم، حرص من خلالها على أن يتناول المسلم طعاماً نظيفاً خالياً من أي تلوث.فأمر بالأكل باليد اليمنى،وأمر بتغسيل اليدين قبل الطعام وبعده،وأمر بعدم الإسراف في الطعام وعدم إدخال الطعام على الطعام،وجعل سبحانه من أهم أهداف البعثة المحمدية أن يحل لأمته الطيب النافع وتحريم الخبيث الضار.قال تعالى معدداً أهداف بعثة محمد r :"ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث".
هذا وإن تحريم الخمر والتدخين والمخدرات يمكن اعتباره أهم منجزات شريعتنا الغراء في مجال الطب الوقائي،إذ أن إلتزام المجتمع المسلم باجتناب هذه الخبائث يقيه من الوقوع في براثن العديد من الأمراض المهلكة وحماية الأجنة من التشوهات ووقاية الأفراد من الحوادث.
ومن أجل بناء أسرة متينة وحمايتها صحياً واجتماعياً حرم الإسلام الزنا واللواط وغيرها من الفواحش التي هي المصدر الرئيسي لانتشار الأمراض الزهرية وعلى رأسها،الإيدز (غول القرن العشرين)،والتي أنبأنا عنا رسول الله r محذراً من غوائلها حيث قال :"وما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم".
ومن أجل صحة المجتمع وحماية البيئة،ونظراً لكون البراز أكبر مصدر لتلوثها الجرثومي فقد جاء حديث رسول الله r يأمر المسلمين بالالتزام بأهم إجراء وقائي لحفظ صحة المجتمع المسلم ومنع سراية الأمراض فيه وهو قوله r :"اتقوا الملاعن الثلاث:البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل".
ووضع الإسلام القواعد الأساسية للوقاية من الحوادث والتي كثيراً ما تؤدي إلى إزهاق الأرواح،ضمن أوامر محددة وواضحة من أجل سلامة الفرد في المجتمع المسلم فقد "نهى رسول الله r عن النوم على سطح غير محجور عليه".كما نهى الأعرابي الذي جاء يسأله أن يترك ناقته هكذا دون عقال توكلاً على الله فقال r :"اعقلها وتوكل". ونهى رسول الله أن يترك أحد النار مشتعلة وينام عنها قائلاً :"لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون" متفق عليه.
وبعد هذا فقد نظم الإسلام مهنة الطب ووضع قواعد الممارسة الطبية التي يجب أن يلتزم بها كل من الطبيب ومريضه،كل هذا من أجل صلاح البدن وسلامة الفرد.وهكذا فقد اعتبر الشارع مهنة الطب من فروض الكفاية التي إن لم يقم بها أحد من أهل بلد مسلم أثم أهل البلد كلهم.وخلص هذه المهنة المقدسة مما خالطها من السحر والخرافة والكهانة فقد قال r :"تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء إلا الهرم".
ومنع الإسلام غير الأطباء من ممارسة أي عمل طبي محملاً إياهم أي نتائج تصدر عنهم وهذا مصداق قول النبي r :"من تطبب ولم يكن معروفاً بالطب فأصاب نفساً فما دونها فهو ----".وكان عليه الصلاة والسلام يأمر أتباعه باختيار من هو [أطب] للحال الذي تناسبه.كما دعا الشارع أهل العلم بالطب للبحث عن أسباب المرض واكتشاف ما يجهلونه من وسائل العلاج إذ هو r القائل :"ما أنزل الله من داء إلا أنزل له الشفاء،علمه من علمه،وجهله من جهله،فإذا أصاب دواء الداء شفي بإذن الله".
وهكذا يتبين لكل ذي بصيرة أن الطب الإسلامي ممارسة نوعية للطب تنبثق من التفسير الإسلامي لرسالة الإنسان في الأرض والحكمة الإلهية من استخلافه،وتعتمد على نظرة حفظ الضرورات الخمس التي أجمع علماء المسلمين على أنها مقصد هام من مقاصد الشريعة.
وفي دراستنا لمباحث الطب الإسلامي التزمنا المصطلحات الفقهية المعتمدة وأصدرناها في سلسلة ميسرة للقارئ العادي تحت اسم "روائع الطب الإسلامي" وخصصنا الجزء الأول منها [القسم العلاجي] وفيه مباحث حول وجوب التداوي وحكم التداوي بالمحرمات وأدب الطبيب وفقهه في الشرع الإسلامي ثم عددنا حسب الترتيب الهجائي في مفردات الأدوية النبوية والأطعمة التي نوه إليها الشارع معتمداً على النصوص الثابتة الصحيحة وأجمل ما قال فيها الأولون ثم نذكر أبحاث الطب الحديث حول كل مفردة.وختمنا الكتاب بمبحث حول الطب الروحاني.
أما الجزء الثاني من روائع الطب الإسلامي فكان تحت عنوان [العبادات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع] ذكرنا فيه ما فرضه الشرع من عبادات على المسلم من طهارة (الوضوء والغسل والاستنجاء) وصلاة وصيام وحج وزكاة،وفصلنا في حكمها مما ذكره أهل العلم الأجلاء ،ثم انتقلنا إلى ما أثبته أطباء الشرق والغرب من منافع جلية يستفيد منها الفرد المسلم من التزامه بهذه العبادة،ومن ثم ما ينعكس من أمور على المجتمع المسلم كله.
أما الجزء الثالث من روائع الطب الإسلامي فعنوانه [المحرمات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع] فقد فصلنا فيه الأدلة الشرعية على تحريم الخمر والتدخين والمخدرات،ولحم الخنزير والميتة والدم،والزنى والشذوذ الجنسي،ثم انتقلنا في كل فصل إلى الويلات والأمراض المهلكة التي تعاني منها البشرية التي لم تلتزم بأوامر الله في هذه المحرمات.
وبين أيدينا اليوم [الجزء الرابع من روائع الطب الإسلامي] ذكرنا فيه بإسهاب الآداب الإسلامية من هدي نبوي وتوجيه قرآني يلتزم به المسلم في أدائه لأعماله اليومية من طعام وشراب ونوم وقيلولة ولهو ورياضة وغيرها،ومن خصال الفطرة التي فطر الله البشر عليها،وأثر ذلك من أثار صحية إيجابية تبدو جلية في صحة الفرد وما ينعكس بعد ذلك على مجتمعه من قوة وبناء متين.ندرس كل ذلك من خلال خمسة فصول :
الفصل الأول:في آداب الطعام والشراب وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.
الفصل الثاني:في آداب النوم وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.
الفصل الثالث:في خصال الفطرة وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.
الفصل الرابع:في الرياضات المسنونة وأثرها في صحة الفرد والمجتمع.
الفصل الخامس:التدبير النبوي في ضبط تصرفات الإنسان الانفعالية وأثر ذلك في صحته.
راجياً المولى القدير أن ينفع بكتابنا هذا من يقرأه وأن يدعو لنا أن نتم هذه السلسلة من روائع الطب الإسلامي التي نحن بصددها حتى نخرج الجزء الخامس حول آداب النكاح الإسلامية وأثرها في صحة الفرد والمجتمع والله ولي التوفيق.
دمشق العاشر من جمادى الآخرة 1419هـ والموافق تشرين الأول 1998م.
المؤلف محمد نزار الدقر
الفصل الأول
الآداب الإسلامية في الطعام والشراب
وأثرها في صحة الفرد والمجتمع
ويضم الأبحاث التالية :
البحث الأول:أسس تدبير الطعام والشراب في الشريعة الإسلامية.
6- القاعدة القرآنية الأولى:حل الطيبات وتحريم الخبائث.
7- القاعدة القرآنية الثانية:وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا.
البحث الثاني:الهدي النبوي في تدبير الطعام والشراب.
1- غسل اليدين قبل الطعام وبعده.
2- جلسة الطعام.
3- التسمية قبل الطعام والأكل باليمين مما يلي الأكل.
4- النهي عن الشرب والأكل واقفاً.
5- الشرب مصاً ثلاث دفعات.
6- النهي عن النفخ في الشراب.
7- النهي عن الشرب من ثلمة القدح.
8- النهي عن الشرب من في السقاء.
9- ألا يعيب طعاماً قط.
10- الاجتماع على الطعام.
11- المضمضة بعد الطعام.
12- عدم الأكل من الخبز المرقق المنخول.
13- النهي عن أكل الطعام الحار.
14- عدم النوم بعد الطعام.
15- الأمر بلعق الأصابع والصفحة.
16- تغطية الإناء وإيكاء السقاء.
17- تقديم العشاء على العشاء.
18- ما يقوله إذا فرغ من طعامه.
المبحث الأول
أسس تدبير الطعام والشراب في الشريعة الإسلامية:
لقد نجح النظام الإسلامي في ميدان التدريب الصحي الذي فرضه على بني البشر ليسعدوا به(1)، فقد كانت معظم الأمراض التي يصاب بها الناس _ومازالت_ في عصرنا الحديث ترجع إلى الحرمان الشديد ونقص الغذاء،أو إلى الإفراط في تناول الطعام والشراب والإسراف فيهما، وقد جاء الحل الإسلامي العظيم المعجز وفي ثلاث كلمات من كتاب الله عز وجل حين قال:(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا).وأمر بالصيام شهراً في السنة للحفاظ على سلامة وكيان أجهزة البدن وأعضائه.
وجاءت الدراسات الطبية لتثبت أن مرضى القلب يستطيعون أن يعيشوا طويلاً بعيداً عن المضاعفات الخطيرة إذا هم اعتدلوا في طعامهم وشرابهم ومن ثَمَّ فقد أمر الإسلام الأغنياء بإخراج زكاة أموالهم(2)لإنقاذ ملايين الجائعين من خطر البؤس والفقر والمرض والموت.
وجاءت القاعدة الثانية القرآنية صرخةً مدويةً يؤكد علماء اليوم أنها الحل الأمثل لحل مشاكل العصر الصحية والتي جعلها سبحانه وتعالى من أهداف بعثة النبي الأميrوهي قوله تعالى:(ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فكان تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير،وما ألحق بها اليوم من خبائث العصر من مخدرات وسجائر وسواها وهي هي من أهم أسباب الأمراض والعجز والموت والمهالك في عصرنا الحديث (3).
وجاء الهدي النبوي بآداب يتدبر بها المسلم أمر طعامه وشرابه،وهي علاوة على أنها أضفت على حياته الاجتماعية مسحة جمالية وسلوكيةً رائعةً،فقد نظم بها الشارع تناول الوجبات وكميّاتها وطريقة تناولها فيما يتّفق مع ما وصل إليه الطب الحديث الوقائيّ وعلم الصحة،لا بل سبقه إلى ذلك بقرون عدة،فلا يأكل المسلم حتى يجوع، وإذا أكل لا يصل إلى حدً التخمة من الشبع،إذ" بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه"،وعلى قاعدة"ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه" كما نهى الشارع عن إدخال الطعام على الطعام أو أن يأكل بين الوجبات……الخ.
واتفاقاً مع الأهمية الصحية لطريقة تناول الطعام والشراب،وعلاقة ذلك بصحة البدن،فقد حدّد الطبيب الأول ورسول الحقِّ rالوضعية المثلى للجلوس على الطعام،ونهى عن وضعياتٍ قد ينجم عنها بعض الأذى،كأن يأكل المرء أو يشرب واقفاً أو متكئاً. وندب إلى أن يتحدَّث الإنسان على طعامه لإدخال السرور على المشاركين مما يزيد في إفراز العصارات الهاضمة ويساعد على الاستفادة المثلى من الطعام. ودعا إلى تقديم العَشاء على العِشاء،وإلى أن يشرب كوب الماء على دفعتين أو ثلاث،وأن يمصّه مصَّاً لا أن يعبَّه ويكرعه لما في ذلك من أثرٍ سيء على المعدة والجهاز الهضميِّ عموماً.
وإذا كان الطبُّ الحديث قد اكتشف الجراثيم الممرضة والطفيليات المهلكة للإنسان في أواخر القرن الماضي،وبين أن تلوث الطعام والشراب بها هو من أهم أسباب إصابة الإنسان بعدد من الأمراض الخطيرة كالكوليرا والتيفوئيد والزحار(الزنطارية)والسل المعوي والديدان والتهاب الكبد وغيرها،ومن ثَمَّ فقد وضع علم الطب الوقائي عدداً من القواعد الصحية على الإنسان أن يلتزم بها ليضمن نظافة الطعام والشراب وسلامتهما من التلوث الجرثومي. فإن ديننا الحنيف قد وضع تلك التعاليم وأمر أتباعه الالتزام بها منذ أكثر من أربعة عشر قرناً(4).
والحق يقال أن التعاليم النبوية في تدبير الطعام والشراب كانت قمة في الدقة العلمية،وقمة في حرص المشرع العظيم على سلامة أتباعه ووقايتهم من شر الوقوع في براثن المرض.فقد أمر عليه الصلاة والسلام أن بغطى إناء الطعام وتوكأ قرب الشراب فلا يترك مكشوفاً للذباب والتراب،كما نهى عن أن يشرب من في الإناء أو أن ينفخ في الشراب حرصاً على سلامته من التلوث،وأمر بغسل اليدين قبل الطعام وبعده،وأمر بالأكل باليمين،ونهى عن الأكل باليسار التي خصصها للاستنجاء وغير ذلك من الأعمال الملوِّثةِ،كل ذلك ليضمن سلامة الطعام وعدم تلوثه بالجراثيم كما سنرى.
كما حرص المشرع على عدم تلويث مياه الشرب،فنهى أن يغمس المستيقظ من النوم يده في الإناء قبل أن يغسلها،فإن" أحدكم لا يدري أين باتت يده"،كما منع التبرز أو التبول قرب موارد المياه وفي ظل الناس ومكان تجمعاتهم،بل شدّد في تحريم هذه الأفعال(3)حتى عدها من مسببات اللعن. فقد صح عنه r قوله:"اتقوا الملاعن الثلاث:البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل" كما" نهى رسول الله r أن يبال في الماء الراكد"-رواه البخاري ومسلم-.
القاعدة القرآنية الأولى:حلّ الطيبات وتحريم الخبائث
وهي القاعدة الأهم في نظام التغذية في الإسلام وقد فصلنا في الحديث عنها في الجزء الثالث من كتابنا "روائع الطب الإسلامي "عندما تحدثنا عن المحرمات في الإسلام،ولا بدّ هنا ونحن نذكر آداب الطعام والشراب أن نذكِّر بأهمية هذه القاعدة التي وضعها الشارع لحماية الفرد في المجتمع المسلم مما يمكن أن يصيبه من أمراض مهلكة عند تناوله "الخبيث" من الطعام أو الشراب.
وإذا كانت النصوص القرآنية والنبوية قد بينت بشكل صريح تحريم بعض الأطعمة والأشربة لخبثها كالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وكل ما هو متلوث بنجاسة،فإن أشربة أخرى كالتبغ والحشيش والمخدرات الأخرى وغيرها مما لم يكن معروفاً في العلم وقت التنزيل،فلم تنـزل نصوص خاصة بها،ولكن المشرع سبحانه لم يترك الناس في حيرة من أمرهم،فقد وضع ميزاناً دقيقاً يمكن علماء الأمة في كل زمان ومكان أن يزنوا كل مستحدث فقال بكل وضوح كلمة وضعها كقانون علمي ثابت فيه كل الحكمة وفيه كل الخير للبشرية وهي قوله تعالى:" الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" فلم يحرم الإسلام شيئاً من المطعومات أو المشروبات إلا لضرر ينجم عنها أو لخبث محقق فيها،مصداق قوله تعالى:" يسألونك ماذا أحلَّ لهم قل أحل لكم الطيبات".وإنه لمن عظيم الإعجاز الإلهي أن تتوافق موازين الشرع وموازين الطب في تحريم هذه الخبائث.
فالبدن يحتاج في نشاطه الحياتي لأغذية تبني الجسم وترمم ما هدم منه كالبروتينات والدسم، كما يحتاج لأغذية لتوليد الطاقة أي التي تولد الحرارة الغريزية وتؤمن عمل الأعضاء كالقلب والتنفس والهضم،لذا أوجب الإسلام تناول الحد الأدنى أو الضروري من الطعام والشراب،حفاظاً على الحياة ودفعاً للهلاك. وما عدا قدر الضرورة يباح تناوله ما لم يكن مسستقذراً ولا ضاراً ولا متنجساً ولا متعدياً على حقوق الغير وما لم يصل إلى حدِّ الإسراف.
وإذا كان للأغذية مصدرين كبيرين:فهي حيوانية أو نباتية فمن الأمثل صحياً أن يناوب بين تلك الأنواع دون أن يقصر نفسه على أحدهما(5).ومن المعجز حقاً أن نجد سلوك النبي الأميr في طعامه متوافقاً تماماً مع مبدأ علم الصحة هذا. وهذا ما يؤكده ابن القيم الجوزية(6)عن طعام النبيr إذ يقول:"فلم يكن من عادتهr حبس النفس على نوع واحد من الغذاء لا يتعداه إلى سواه وكانrيحسن الجمع بين الأغذية في تناولها وإصلاح تأثير بعضها على الآخر.ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن جعفر” رأيت رسول اللهr يأكل الرطب بالقثاء" …
وإذا كانت الأغذية النباتية أقل سمية من الحيوانية،لكن الاقتصار عليها يسبب فقر الدم بنقص الهيولين وفقدان الفيتامين ب12،كما أن الاقتصار على البروتين النباتي يجعل البدن يقصر في تركيب الأنسجة والتي لا بد لاكتمالها من توفر البروتينات الحيوانية.وليس لمسلم أن يحرم على نفسه بعض الطيبات مما أحلّه الله بنية التقرب إليه.قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم"المائدة_9،وقال تعالى:" قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق"الأعراف_32.
والنبات المأكول حلال كله ما لم يعرض له عارض من سرقة أو نجاسة وما لم يثبت ضرره لسمية فيه، أو لكونه مسكراً أو مفتراً(7)،وذلك لعموم قوله تعالى:" يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً".
أما المصدر الحيواني للغذاء فقد حرم النص القرآني تناول الميتة والدم ولحم الخنـزير،وجاء في السنة التي اعتمدها جمهور الفقهاء تحريم أكل الحيوانات المفترسة كالوحوش من أسدٍ ونمرٍ وذئبٍ وفهدٍ (وكل ماله ناب مفترس من السباع)،وكذا الطيور الجارحة،أي ذوات المخلب من الطير كالصقر والباز والنسر.لما رواه عبد الله ابن عباس قال:" نهى رسول اللهrعن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير" رواه مسلم.
كما حرمت لحوم الكلاب لما يرويه رافع ابن خديج عن النبيrقوله:"الكلب خبيث ثمنه" رواه مسلم.كما يحرم عند الجمهور أكل لحوم الحمر الأهلية لما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه" أن النبيr نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل ". كما حرمت الضفادع للنهي عن قتلها.كما يحرم أكل حشرات الأرض كالثعبان والعقرب والفأرة وسواها لاستخباث الطباع السليمة لها وللأذى أو السمية التي قد يلحقها بعضها للإنسان ولما تنقله من عوامل الأمراض الفتاكة لبني البشر كالطاعون والتيفوس وسواها(7). والأشياء الضارة التي يثبت ضررها ولا نصَّ في تحريمها،والسموم في غير التداوي، كلها حرام لعموم النص" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولقولهr:"لا ضرر ولا ضرار".
صدق الله،فما حرَّم علينا إلا كل خبيث ضار،وما أباح لنا إلا الطيب النافع إلا أنه من الواجب على المسلم أن يتحاشى تناول ما حرم الله من المطعومات أو المشروبات طاعةً لله عز وجل،أدرك العلة من التحريم أم لم يدرك، مُسَلِّمَاً بأن تلك المحرمات إنما حرمها الخالق المصور،العليم بما يضرُّ هذا الإنسان _الذي خلقه بيده_ وبما ينفعه تصديقاً لقوله تعالى:"ويحلُّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث" ومن أراد أن يعرف التفاصيل عما اكتشفه الطب الحديث من آفات وويلات من تناول اللحوم المحرمة وغيرها من الخبائث فيستطيع الرجوع إلى كتابنا عن” المحرمات في الإسلام وأثرها في صحة الفرد والمجتمع"،وهو الجزء الثالث من سلسلة روائع الطب الإسلامي.
القاعدة القرآنية الثانية:وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
إن الإنسان شره بغريزته،يسرف في الأكل والشرب،وخاصة أيام كهولته.و يقدّر ما يتناوله الإنسان عادة من طعام وشراب بثلاثة أضعاف ما يحتاجه إليه.ولا يشك العلم أبداً أن أكثر الراحلين ابتساراً من عالم الدنيا إلى عالم القبور هم منتحرون بأفواههم وبما أسرفوا بما دخل في أجوافهم من طعامٍ وشراب.وإن في القاعدة الإلهية العظيمة" وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" سِرُّ التمتع بحياة يسيطر فيها نعيم الصحة والهناء(8).فالإسراف خطر طباً وحرام شرعاً لعموم النص(7).
وإذا كان الطعام والشراب لذة،فإنما جعلها الله سبحانه فيها لإرواء الميل الغريزي لتناولهما بغاية الحفاظ على الحياة واستمرارها،كما أن التلذذ بالطعام ينبه أعمال الهضم الغريزية وإفراز العصارات الهاضمة حتى يتم التمثل بشكل جيد.ومن الخطأ الفادح أن يجعل الإنسان من اللذة غاية في طعامه وشرابه مما يجعله يسرف في استدعائها وينحرف في طريق إروائها وهذا ليس من صفات المؤمن في شيء.وقد أكد القرآن الكريم أن الوقوف عند التلذذ بالطعام والشراب والتمتع بهما إنما هو من صفات الكافرين الجاحدين(9)،وذلك مصداق قوله تعالى:" والذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم" _الأحقاف_20.
وتؤكد السنة المطهرة هذا المعنى وتنهى عن الإسراف في الطعام،وأن على المسلم أن يكتفي منه بما يقيم الأود ويحفظ الصحة والقوة من أجل السعي على الرزق والتقوي به على عبادة الله رب العالمين.فقد روى البخاري أن رجلاً كان يأكل كثيراً فأسلم فكان يأكل قليلاً،فذكر ذلك لرسول الله rفقال:" المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء".وقد ذكر ابن الأثير(10)تعليقاً على هذا الحديث:هو تمثيل لرضى المؤمن بالقليل اليسير من الدنيا وحرص الكافر على الكثير منها،ثم قال:والأوجه أن يكون هذا تحضيضاً للمؤمن على قلة الأكل وتحاشي ما يجره الشبع من قسوة القلب وطاعة الشهوة.
من هنا نفهم دعاء النبيr:" اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً" رواه الشيخان. كما حذر سيدنا عمر بن الخطاب tمن النهم والبطنة فقال:"إياكم والبطنة في الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسم مورثة للسقم،مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد عن السرف وإن الله تعالى ليبغض الحَبْرَ السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه"·.
يقول الإمام الغزالي:" ومن مضار الشره اشتداد المعاصي وخاصة الشهوة الجنسية،فإذا منعت التقوى صاحبها من الزنى فلا يملك عينه،فإذا ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره فتخطر له الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة وما يتشوش به مناجاته".
عن المقداد بن معد يكرب أن النبي(r) قال:"ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه.بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"·.
يقول ابن القيم (6):"مراتب الغذاء ثلاثة أحدها مرتبة الحاجة والثانية مرتبة الكفاية والثالثة مرتبة الفضيلة،فأخبر النبي(r) أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف،فإن تجاوزها فليأكل بثلث بطنه وهذا من أنفع ما للبدن وما للقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا أورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض عليه الكرب والتعب".
وفي معرض شرحه للحديث يقول د.الكيلاني(12):"يشكل الجزء العلوي من المعدة جيب ممتلئ بالهواء يقع تحت الحجاب الحاجز وكلما كان ممتلئاً بالهواء كانت حركة الحجاب الحاجز فوقه سهلة كان التنفس ميسوراً،أما إذا امتلأ هذا الجيب بالطعام والشراب تعرقلت حركة الحجاب الحاجز وكان التنفس صعباً كما أن الصلب لا يستقيم تماماً إلا إذا كانت حركة المعدة مستريحة ولا يتم ذلك إذا أتخمت بالطعام،فصلى الله على طبيب القلوب والأبدان.
أما د.محمود فؤاد معاذ(13)فيرى أن كلمة" يقمن صلبه" هي من أبلغ ما نطق به النبي العظيم(r)معنىً وعلماً.فالنبي(r)حث على الإقلال من الطعام،ولكن إلى حد يقمن صلبه وحنى لا تكون مخمصة فرب مخمصة شر من التخم.والمرء حسبه أن يتناول ما يقيم الصلب،أي ما يعطيه القوة الكافية للقيام بمجهوداته.
وعن جابر tأن رسول الله(r)قال:" طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية"··.
فالنبي(r)يحذر من السرف في الطعام وأن شبع الواحد هو قوت الاثنين يكفيهم ويقيم أودهم(12)،وهو ينصح أن يكون ثلث المعدة فقط للطعام ولو حافظ المسلمون اليوم على هذه الوصية لحموا أنفسهم من كثير من الأمراض،ولما تعبت معداتهم من هضم الطعام الفائض فتقل الفضلات و ينشط البدن و يصفو الدم و يتوقد الذهن.
وعن أنس بن مالك tأن النبي(r) قال:" إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت"·.
فمن أخلاق المسلم كبح جماح نفسه ووقايتها من الإسراف المذموم،فيعطيها حيناً من مشتهياتها المباحة،ويمنعها حيناً،لا تحريماً للطيبات ولكن ترويضاً لها للتمكن من قيادة زمامها.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:تجشأ أبو جحيفة عند رسول الله(r) فقال له:"أقصر عنا من جشائك ،إن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا"··.وعن عمران بن الحصين أن رسول الله(r)قال:"إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن"···.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:"أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم"····.
وعن أبي هريرة tقال:"ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض" رواه البخاري.
إن المربي الناجح هو الذي يجسد أقواله أفعالاً تحتذى وهذه هي روعة التعاليم النبوية التي رافقها سلوك عملي وحلول واقعية من حياته(r):فهذا محمد(r)ما شبع من طعام ثلاثة أيام متتالية،وكان يجلس لطعامه جلسة المتحفز للقيام بعد أن يتناول ما يقيم صلبه،وما أكل خبزاً مرققاً ولا وضع على سفرته السكرجة(من مقبلات وسواها) ليعلمنا بسلوكه الطريقة الأمثل لتنفيذ القاعدة الإلهية في الطعام والشراب "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا".
الآثار الصحية السيئة للإسراف في الطعام والشراب:
يؤدي الشره(14)وتناول كمية كبيرة من الطعام تزيد عن طاقة تحمل المعدة إلى ما يسمى بالتخمة والتي تفضي إلى عسرة الهضم وكثرة الغازات وأوجاع الشرسوف واحتقان الكبد والتخمة الشديدة يمكن أن تؤدي إلى توسع المعدة الحاد التي تسبب ضغطاً شديداً على القلب مما يعيق العود الوريدي إليه فتحصل عسرة في التنفس واضطراب في ضربات القلب وتسوء حالة المريض وقد تنتهي بالموت(9).
والتخمة المزمنة تؤدي(13)(14)وتناول كمية كبيرة من الطعام تزيد عن طاقة تحمل المعدة إلى ما يسمى بالتخمة والتي تفضي إلى عسرة الهضم وكثرة الغازات وأوجاع الشرسوف واحتقان الكبد والتخمة الشديدة يمكن أن تؤدي إلى توسع المعدة الحاد التي تسبب ضغطاً شديداً على القلب مما يعيق العود الوريدي إليه فتحصل عسرة في التنفس واضطراب في ضربات القلب وتسوء حالة المريض وقد تنتهي بالموت(9).
والتخمة المزمنة تؤدي(13)إلى تمدد المعدة والأمعاء وإلى ضمور في بطانتها وغددها المفرزة للعصارة الهضمية،فيحصل الإمساك المزمن وعسرات الهضم والانسمام الغذائي المزمن وما ينجم عنه من وهن عصبي.والإسراف في الطعام يسبب عند المستعدين عدداً كبيراً من أمراض التغذية كالبدانة والنقرس والداء السكري،كما تزيد عندهم نسبة الإصابة بأمراض القلب وقصوراته.
فالطعام الزائد عن حاجة الجسم يتراكم على شكل دهون تترسب تحت الجلد وحول الأمعاء وفي الكبد وحول القلب حيث تحدث عبئاً كبيراً عليه،وتتصلب العروق ويرتفع الضغط الدموي وتكثر الجلطات والفوالج،وتتعب الغدد فيحدث الداء السكري عدا عن تعب الكلى بتكليفها فوق طاقتها من عمليات تصفية الدم وطرح الفضلات،هذا عدا عما ذكرناه من تمدد المعدة وآفات الجهاز الهضمي(12).
إن كثرة الأكل والشرب يعقبها كسل في النفس وبلادة في الفكر وميل إلى النوم الذي هو خسارة ومضيعة لأوقات يمكن أن تكون نافعة في دنيا الإنسان وأخرته(9).
يقول القاضي عياض:إن كثرة الأكل والشرب دليل النهم والحرص،والشره مسبب لمضار الدنيا والآخرة جالباً لأدواء الجسد وخثار النفس(ثقلها وعدم نشاطها).ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة.
وقد أكدت أبحاث نشرتها المجلة الطبية العربية(9)أن الإفراط في التغذية عند الأطفال واليفع تؤدي علاوة على زيادة الوزن،إلى النضج المبكر والذي يؤدي إلى البلوغ المبكر.
وتحصل البدانة نتيجة الإفراط في تناول أنواع الطعام المختلفة وخاصة عند أبناء الطبقة المترفة وأصحاب الوظائف الكسولة،وهي تؤهب لحدوث أمراض خطيرة في القلب والذبحة الصدرية والداء السكري وارتفاع الضغط الدموي وتصلب الشرايين وغيرها.
فعلى المسلم أن يعتدل في طعامه وشرابه وأن يحافظ على وزنه المثالي· قدر المستطاع،وخاصة إذا كان عنده استعداد وراثي للسمن.فعلى هؤلاء أن يضعوا برنامجاً خاصاً لطعامهم(12) فيحددوا ما يأكلوه من نشويات وسكريات،ويمتنعوا قدر الإمكان عن تناول المواد الدهنية ذات الحموض المشبعة كالدهن والشحم والسَّمن،ويستبدلوا بها مواد دهنية غير مشبعة كزيت الزيتون وزيت الذرة أو عباد الشمس،وأن يكثروا في طعامهم من السلطات والخضار،ويمكنهم تناول ملعقة كبيرة من النخالة أو خل التفاح قبل الطعام،ويستبدلوا بالسكر السكارين للتحلية ويأكلوا الخبز الأسمر وأن يكثروا من صيام النفل فيكون لهم به خيري الدنيا والآخرة.
وأحب أن أشير هنا إلى أن معتاد الإسراف في الطعام يحتاج إلى التدرج في تقليل وجبته حتى يعود إلى حد الاعتدال(9)،ولقد أشار الإمام الغزالي(11)إلى ذلك حين قال:"فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته،فينبغي التدرج إليه قليلاً قليلاً فينقص بمقدار قليل متزايد من طعامه المعتاد".
وهناك أمراض تنجم عن الإسراف في تناول مادة غذائية معينة(بروتين،دسم،سكر)لفترة طويلة.فالإسراف في تناول السكر الأبيض وما يصنع منه من حلويات يضر بالجسم ضرراً بالغاً وذلك للميل العجيب في السكر للاتحاد بالكلس.
فعندما يزيد الكلس في الدم عن حد معين فإن المقدار الفائض يتحد ببعض الأنسجة ويضطر الدم إلى أن يعوض ما فقده منه فيأخذه من العظام والأسنان مما يؤدي إلى نخر الأسنان وضعف العظام(15)،كما أن تخمر بقايا السكريات في الفم يؤدي إلى النخر أيضاً.وإن الإفراط في تناول النشويات عموماً يؤدي إلى البيلة السكرية وإلى تحول الفائض منها إلى شحوم(البدانة).
أما الإفراط في تناول الدسم فإنه يؤدي إلى تخلون الدم وإلى فرط دسم الدم وشحوم البدن مما يؤدي إلى البدانة وإلى تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وتشحم الكبد وإلى العديد من آفات القلب الخطيرة.
أما الإسراف في تناول البروتينات من لحم وبيض وحليب وسواها فإن فضلاتها السامة تتراكم في البدن وتعرضه للإصابة بالرمال الكلوية،أو بالإصابة بالنقرس(داء الملوك)،وإلى قصور الكلي وارتفاع الضغط وتصلب الشرايين أيضاً.
المبحث الأول
الهدي النبوي في تدبير الطعام والشراب
غسل اليدين قبل الطعام وبعده:
يستحب للمسلم غسل اليدين قبل الطعام وبعده لحديث سلمان الفارسي tأن رسول الله r قال:"بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده"·.وقد فسر العلماء وضوء الطعام بغسل اليدين.
وعن أنس بن مالك tقال:سمعت رسول الله rيقول:" من أحب أن يكثر الله خير بيته فليتوضأ إذا حضر غذاؤه وإذا رفع" رواه ابن ماجة والبيهقي.
وعن أبي هريرة tأن النبيrقال:"من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه"··،والغمر:ريح اللحم وزهومته.
وعنه أيضاً عن النبي r قوله:"إن الشيطان حساس لحّاس فاحذروه على أنفسكم من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه"···.
وعن أبي سعيد tعن النبي r قوله:" من بات وفي يده ريح غمر فأصابه وضح فلا يلومنَّ إلا نفسه"····،والوضح:البرص.
ولا تخفى الحكمة الصحية من هذا الهدي النبوي(16).ففي حياة الإنسان اليومية كثيراً ما يصافح شخصاً مريضاً أو حاملاً لجراثيم ممرضة أو يلمس أشياء ملوثة بجراثيم خطيرة فهو يجلس لطعامه غير عالم أن بين أنامله خطراً كامناً ينتظر ذلك الطعام فيلوث لقمة يبتلعها ليصاب بذلك المرض،وأكثر الأمراض انتشاراً عن ذلك الطريق هي الكوليرا والتيفوئيد والزحار.هذا وإن الجلد(17) يحتوي على سطحه على أثلام وأخاديد،وإن ما يفرزه من دهن وعرق يساعد على التصاق تلك الجراثيم وبيوض الطفيليات بالجلد وحفظها بين ثناياه.
ويأتي الهدي النبوي بالأمر بغسل اليدين قبل الطعام متوافقاً مع بدهيات الطب الحديث الوقائي ليسلم طعامه من عوامل التلوث والمرض.أما غسل اليدين بعد الطعام فلأن بقاياه التي تلوث الأنامل يمكنها إذا بقيت أن تتفسخ وأن تشكل ضمن حرارة الجسم وسطاً ملائماً لتكاثر الجراثيم واستحالتها إلى خطر داهم وهذا الخطر هو الذي حذر منه النبيr في كثير من أحاديثه التي أوردناها.
ويعلق د.الراوي(17)على قولهr:"من أراد أن يكثر خير بيته"،أن غسل اليدين قبل الطعام يدخل البركة على الإنسان كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام,وأن البركة هنا هي _بركة العافية_ وهي الكنـز الذي لا يفنى والكرم الإلهي الذي لا يقدر بثمن.وأن غسل اليدين قبل الطعام إجراء حاسم للوقاية من الفقر كما ورد في الأثر" الوضوء قبل الطعام بركة وينفي الفقر وبعده ينفي اللمم"·.
جلسة الطعام في الهدي النبوي :
عن أبي جحيفة tقال:"لا آكل متكئاً"
ساحة النقاش