يحتدم في الأوساط العلمية والاكاديمية منذ سنوات، جدل موسع ومتشعب يحمل في طياته تساؤلات عدة، حول إمكانات واحتمالات الاستفادة من اسرار الحياة الطبيعية التي وضعها الخالق عز وجل في التركيب البيولوجي للكائنات الحية، من انسان وحيوان ونبات وكيفية تقليد نماذج اصطناعية وتكنولوجية لأنماط كلية أو جزئية بيولوجية للحيوانات، لاستغلال القدرات الخاصة والمواهب والمزايا التي حباها الله لبعض الحشرات والقدرات التي خصها بها عن المخلوقات الأخرى.
يتساءل العلماء حول أفضل السبل للاستفادة من السم الناقع الشديد الفتك لبعض الثعابين وقدرة “الوزغ” أو أبو بريص العجيبة على السير السريع والحركة الرشيقة، والخاطفة في جميع الاتجاهات، ومختلف الأحوال حتى ولو كان رأسه متجهاً الى اسفل، والقدرة الفائقة لبعض أنواع الذباب على الدوران والانعطاف الحاد بزاوية قائمة 90 درجة، بسرعة تفوق الخيال، وهو أمر تعجز عنه طائرة الشبح “ستيلث” المقاتلة الأمريكية المتطورة، وبعض النعم والقدرات الخارقة لحيوانات وحشرات أخرى كالعنكبوت والديدان والخنافس واسماك القرش والحيتان وغيرها، ويوجهون جهودهم لتصميم أو تطوير نماذج آلية والكترونية، تقلد هذه المخلوقات وتحاكيها في قدراتها ومواهبها متسلحين في مساعيهم بنظريات علمية وحسابات رياضية دقيقة واجهزة كمبيوتر بالغي الدقة والسرعة والحساسية واشعة الليزر ومعدات وأدوات أخرى متطورة ومعامل ومختبرات ضخمة التجهيز.
ومن هؤلاء الباحثين والعلماء “اندرو باركر” عالم التطور البيولوجي في متحف التاريخ الطبيعي في لندن، والمحاضر في جامعة سيدني الاسترالية، الذي اجرى سلسلة من التجارب العلمية والابحاث عن أنواع محددة من السحلية البرية في الصحراء الاسترالية والخنافس في صحراء ناميبيا، وتوصل الى اسرار غريبة وعجيبة حول قدرة هذه السحلية على جمع الماء والاحتفاظ به لمقاومة الحرارة الشديدة وقسوة الطقس في الصحراء، ولم يكن الهدف الأول والحقيقي لباركر من تجاربه معرفة الاسرار والوظائف البيولوجية للسحلية، وانما محاولة تصور تصميم أو نموذج آلي واصطناعي لها يساعد البشر على جمع الماء في الصحراء والاحتفاظ به اطول مدة ممكنة، وذلك بالاستفادة من القدرات الطبيعية التي تتمتع بها السحلية الحقيقية، والتي يتميز ظهرها بقنوات دقيقة وأنابيب شعيرية رفيعة للغاية، لمرور الماء وحفظه، يقول باركر: “إن رؤية السحلية ومشاهدتها في بيئتها الطبيعية اساسي وضروري لفهم طبيعة ومدى قدرتها على التكيف مع قسوة الصحراء، وما يتوافر لها من ظل أو ضوء”، وتعتبر دراسات وابحاث باركر التي شملت أنماطاً بيولوجية من الطبيعة لحل مشكلات والعثور على ايضاحات واجابات لتساؤلات في مختلف المجالات في فيزياء وكيمياء وهندسة وطب، وأدوية تعد رائدة وسباقة بالنسبة لعلماء وباحثين آخرين، حيث اجرى سلسلة من التجارب المعملية على عدد كبير من الخنافس وحشرات العثة والفراشات، وتوصل الى أنه يمكن الاستفادة من اللمعان الشديد وتغير الألوان في عيونها لصناعة وتطوير شاشات أكثر صفاء واشد لمعانا وبريقاً، لاجهزة الهاتف “النقال”، وكذلك لصناعة مستحضرات التجميل والزينة، كما اجري تجارب عملية لدراسة الثنايا والتجعدات المتناهية الدقة والصغر في عيون نوع من الذباب، تقلل من انعكاس الضوء حيث امكن الاستفادة من هذه الفكرة في تطوير وانتاج الواح واجهزة فضائية لجمع الأشعة والتحكم فيها، وذلك في إطار مشروع لوزارة الدفاع البريطانية، كما يجري العلماء والباحثون في زيمبابوي دراسات حول كيفية قيام النمل الأبيض أو حشرة “الأرضة”، بتنظيم الحرارة والرطوبة وانسياب مجرى الهواء في بيوتها وروابيها، واكماتها واستحكاماتها الترابية، وكيفية توظيف هذه الفكرة في بناء وإنشاء مبان أكثر راحة وأفضل تهوية للبشر.
وفي اليابان يواصل الباحثون في مجال الطب تجاربهم وابحاثهم حول كيفية تخفيف الآلام الناجمة عن الحقنة، وذلك باستخدام ابر سرينجات تحت الجلد مشرشرة ومسننة الحواف، كتلك التي تملكها البعوضة، والتي تقلل من اثارة واهتياج الاعصاب، يقول الباحث مايكل روبنر ان تقليد الحيوانات والحشرات بنماذج اصطناعية يوفر للعلماء والباحثين مجموعة متكاملة من الأدوات والأساليب والأفكار التي لم تكن معروفة أو مألوفة لهم من قبل، وتصبح هذه المجموعة جزءاً من ثقافتهم ومناقشاتهم.
ويتساءل باركر وغيره باستمرار: “لماذا لا نتعلم ونستفيد مما يقدمه لنا التطور الاحيائي والتقدم التقني والعلمي فالمادة الحريرية الناعمة في جسم العنكبوت مقارنة بوزنه وحجمه اكثر ليونة ومرونة وسهولة في السحب خمس مرات من الحديد الفائق الجودة، كما أن حشرة اليراعة أو سراج الليل، تنتج ضوءاً بارداً لا يضيع منه شيء على سبيل الطاقة والحرارة بينما يفقد مصباح كهربائي عادي 98% من طاقته كحرارة.
وتعكف الجهات المسؤولة عن سلاح الجو الأمريكي على تجارب ودراسات للاستفادة مما لدى خنفساء “الميلانوفيلا” التي تضع بيوضها في اخشاب الغابات المحترقة حديثاً من قدرة لافتة وعجيبة على تتبع الأشعة تحت الحمراء المتولدة عن حرائق الغابات.
ويشير باركر الى أنه وبنظرة على ما حوله يمكنه ان يجمع خمسين نموذجاً من الحشرات التي يمكن تصميم نماذج تحاكيها وتقلدها والى أن الحلزون البحري يقوم ببناء صدفته من مزيج من الكالسيوم والكربون لا تزيد صلابته عن مادة الطباشير ولكن مادة صدفته تصبح مع الأيام اشد صلابة وقوة بثلاثة آلاف مرة من الطباشير.
وقام باركر بارسال ملاحظاته واقترحاته وخلاصة ما توصل اليه من ابحاثه وتجاربه حول كيفية التوصل الى جهاز أو اداة لتجميع الماء وحفظه بالاستفادة من عمل السلحية الصحراوية الاسترالية بهذا الشأن، والتي كانت موضوعات لتجاربه التي استمرت فترة طويلة، الى مايكل روبنر وزميله المهندس الكيميائي روبرت كوهين اللذين امضيا فترة طويلة في المتمعن فيما توصل اليه وتفحصه، وسعى روبنر وكوهين الى رسم خط بياني لتصاعد القوة البيولوجية، وبلوغها الذروة قبل تراجعها ثانية وذلك بالاستعانة بالكمبيوتر، لكنهما توصلا الى قناعة بأن الغوص في أعماق الهندسة البيولوجي الحقيقية للحيوانات والحشرات أمر أساسي للنجاح في تطوير تصميم آلي أو اصطناعي، كما توصل الباحثون الثلاثة الى نتائج مهمة وقيمة وتبعث على التفاؤل من التجارب على الخنافس في صحراء ناميبيا، وحشرات اخرى بحيث ستكون لهذه النتائج في المستقبل القريب اهمية كبيرة في التوصل الى نماذج بيولوجية آلية في مجالات عدة في الحياة، ومنها نموذج لمحاكاة السحلية الصحراوية الاسترالية في جمع الماء وحفظه.
ويقول كوهين: “ليس عليك اعادة انتاج جلد السحلية للتوصل الى أداة أو جهاز لجمع الماء وحفظه أو عين حشرة العثة للتوصل الى بطانة مضادة لانعكاس الأشعة لأن التركيب الطبيعي للحيوانات والحشرات موضوع لتجارب يقدم لك الحل بشأن ما هو مفيد بالنسبة لآلية التطور، والعمل والابتكار بحيث يساعدك على التوصل الى هذه الآلية على نحو أفضل، ولكن تأمل فحص التشريح البيولوجي للحيوانات والحشرات الطبيعية لا يكفي، ولا بد من معرفة ما إذا كان يمكننا نقل مكونات هذا التركيب الى نماذج محاكية تحقق لنا الفائدة الحقيقية، والغرض الذي نريده في واقع حياتنا”.
وكان البروفيسور “رونالد فيرينج” استاذ الهندسة الالكترونية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي طموحاً للغاية حينما اخذ على عاتقه تطوير وانتاج ذبابة آلية تعمل بالريموت ناعمة وصغيرة ورشيقة الحركة وقادرة على المناورة للاستفادة منها في عمليات الاستطلاع والاستكشاف والبحث والإنقاذ وتطوير طائرة صغيرة لأغراض تلك العمليات، ومن خلال ما قام به من مراقبة وبحث تبين لفيرينغ ان جناحي الذبابة الحقيقية، يحفقان 150 مرة في الثانية وتتحرك في مختلف الاتجاهات وتهبط وترتفع وتغوص بخفة ورشاقة وحركة سريعة وحيوية مذهلة وأنها قادرة على الانعطاف الحاد والدوران بزاوية قائمة 90 درجة خلال اقل من 50 ميلي ثانية، وهو ما تعجز عنه طائرة الشبح ستيلث المقاتلة الحديثة، ولو قامت به لتمزقت الى قطع وشظايا صغيرة.
يقول فيرينغ ان مفتاح نجاحه في ابتكار وتطوير تلك الحشرة الطائرة ليس في انتاج نسخة كاملة منها، وانما في عزل الاجزاء ذات الصلة الأساسية بقدراتها على الطيران والحركة والمناورة والتركيز على امكان توظيف هذه القدرات والخصائص في أنشطة أكثر تعقيداً واعمل اكثر صعوبة، ويضيف: “إن في هذه الأرض من المخلوقات ما هو على قدر من الغموض والتعقيد بحيث يدعوك الى التعجب، ولا تملك معه إلا الذهول لصعوبة محاكاته عملياً.
واجه فيرينغ صعوبات وتحديات حقيقية ومعقدة في تصنيع وتحضير المكونات المتناهية الدقة والصغر لذبابته الآلية باستخدام اشعة الليزر في الهندسة التقنية والميكانيكا الجزئية الدقيقة وجهاز سريع لتصميم وانتاج النماذج الأولية بحيث يسمح له بالقطع والوصل وترتيب الاجزاء على الكمبيوتر، والقيام بعمليات الفصل والوصل وإعادة الترتيب والتنظيم تحت المجهر.
ومنذ أن ابدى الفيلسوف الاغريقي ارسطو في القرن الخامس قبل الميلاد دهشته وتعجبه ازاء قدرة البرص أو الوزغ ابو بريص العجيبة على الحركة السريعة والجري في جميع الاتجاهات، والاحوال حتى ولو كان رأسه الى أسفل مازال هذا التعجب والذهول مستمراً حتى يومنا هذا، فالناس يبدون تعجباً ودهشة لقدرة السحلية على التحكم بالجاذبية من خلال تحكمها في حركتها، وتحركها ومقاومتها الانزلاق.
وقبل عامين اخذ “مارك كوتكوسكي” الباحث المتخصص في اجهزة “الروبوت” وعلومها في جامعة ستانفورد، على عاتقه محاولة حل اللغز التاريخي المستمر حتى يومنا هذا من خلال تطوير نموذج قادر على الصعود والتسلق الى اعلى سريعا من خلال استلهام فكرة عمل أبو بريص، والاستناد اليها، وفي الواقع فإن اقدام هذا المخلوق ليست لزجة أو لاصقة كما يعتقد البعض بل جافة وناعمة على ما تلمسه وما يثير الدهشة حقا، هو أن للبرص بطانة بمعدل مليارين من الخويطات “تصغير خيط” والشعيرات المنبسطة والمعلقية الشكل لكل سنتيمتر مربع من أصابع اقدامه، وهذه الخويطات والشعيرات ورغم صغرها المتناهي تتفاعل على مستوى الجزئ مع السطح، الذي يقف أو يسير عليه البرص.
وتمكن كوتكوسكي وأحد الباحثين من طلبته للدراسات العليا من التوصل إلى بطانة تشبه أقدام البرص الى حد كبير قبل انتاج ذلك “الروبوت” الذي يزن وزنه 500 جرام ويسير عمودياً الى أعلى، وحاولا الاستفادة من فكرة ان قدرة أبو بريص النادرة والفائقة على الالتصاق بالسطح الذي يقف عليه وتثبيت نفسه، هي السر في قدرته على الحركة الناعمة والسلسة بسرعة متر في الثانية.
ويضيف كوتكوسكي الذي تمول وكالة الدفاع الأمريكية للأبحاث المتطورة مشروعه العلمي: “أحاول التوصل إلى اجهزة روبوت يمكنها الذهاب الى أماكن لم يصلها الانسان من قبل وسيكون أمراً رائعاً أن تلعب هذه الاجهزة دوراً أساسياً في عمليات انقاذ البشر وانشطة انسانية أخرى”.
ومن جانبه توصل “بوب فل” خبير حركات الحيوانات في جامعة بيركلي بعد سلسلة طويلة من الأبحاث التي اشتملت على عمليات المراقبة لسلوك الحيوانات، الى إمكان الاستفادة من بعض القدرات والمهارات الحركية الخاصة للحيوانات من الحشرات والزواحف حتى الكنغر في تطوير اجهزة “روبوت”، وقال: إنه خلص الى أن كل حيوان حتى الانسان لديه تلك المجسات أو الرافعات في قدميه التي تولد قدراً من الطاقة وقت انطلاقه في المشي أو الجري.
ويكثف العلماء والباحثون جهودهم العلمية للاستفادة على أفضل نحو ممكن من القدرات المميزة التي خص الله بها بعض المخلوقات مستخدمين أحدث ما توصلت اليه التكنولوجيا من تقدم وامكانات مثل تقنيات الالكترون، والتشريح والجزئيات واجهزة المجهر، والحاسوب والتصوير البالغ الدقة والفائق القوة والحساسية، في محاولة لفك بعض من أسرار الطبيعة ودقائقها المتناهية الغموض.
نشرت فى 6 نوفمبر 2009
بواسطة hanyembaby
هاني امبابي
TEL +966548220741 [email protected] »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,395,631
ساحة النقاش