إن أصل الأمراض وعلة العلل هي الأمية والجهل، فالجهل أبو الشقاء والأمية أمها، وإذا قيل إن الأمية في الأمم شلل، فنحن نقول أن الأمية في الأمم صمم وبكم وعمي، فالأمة الجاهلة كالإنسان الأصم والأبكم و الأعمى لا تسمع مــا يقال و لا تعرف ما تقول ولا تبصر ما قد قيل، فهي بمعزل عن الدنيا وأبنائها وعن الحياة وأحوالها وعن مجاري النهوض وتيارات الرقي، تقتنع من الحياة بالأكل والشرب والنوم والفساد، ومن المنزلة بالصفع والقرع والذل والهوان، ترى المصائب تنتابها والمحن تنزل كالصواعق عليها من كل صوب وتنسب كل ذلك إلى الأقدار، وترى من واجب الإيمان الاستسلام والخضوع كما يستسلم ويخضع الميت بين يدي الغاسل بدون أن تتخذ التدابير و الاحتياطات اللازمة التي تحت مقدورها.
ترى الظلم والذل والإرهاب يجتاحها ولا تفكر في كيفية رفع ذلك عنها، ترى الأمراض وأنواع الأوبئة تفتك بمجموعها ولا تفكر في مقاومتها وتحسين حال صحتها، ترى جراثيم الأخلاق الفاسدة تسري بين الجموع والأفراد منها والعائلات ولا تحرك لها ساكنا، ترى حالتها الاقتصادية في تدهور و انحطاط وسقوط صناعتها ميتة وتجارتها بائرة وفلاحتها عقيمة ولا تتلمس السبب ولا تتطلب الخلاص. يغشها دساس فتهرول وراءه، ويصفعها ظالم غشوم فتقدم له شواهد الشكر و الامتنان، ويهينها عابث عات فتقيم له الحفلات والمآدب الفاخرة، وينال من دينها وعزها وشرفها معتد أثيم فتتفاخر بالانتماء إليه و الانضواء ضمن أسرته. إذا صرخ في وجهها صاحب القوة تطارحت هلعا على ذات اليمين وذات اليسار، وإذا لاحت لها منه ابتسامة توافدت عليه وانكبت بين يديه.
وهي من جهة أخرى على عكس ذلك إذا قام بينها ناصح ينصحها انفضت من حوله وتركته قائما، وإذا دعاها إلى الإصلاح داع ثنت عنه صدرها و استغشت هروبا من دعوته ثيابها، وإذ صاح في وجه الباطل صيحة ملأت حوله جلبة وضوضاء، ثم إنه إن انتصر وكان له فتح من الله طارت فخرا وطربا وقالت لولا نحن لما حصل شيئا، وإن انخذل وسقط في ميدان الشرف انزوت في المغاور والكهوف متبرئة من صنيعه خشية أن تلحقها مسؤولية ما من عمله المبرور فتسقط من عين مرهقها ومسخرها.
وإذا كتب كاتب لها ما فيه عزها وحياتها فإنها لا تقرأه ولا تعرف ما فيه لأنها لا تعرف القراءة والكتابة، وإذا قرئ عليها لا تفهمه، وإذا أمكن أن تفهمه أساءت هضمه وتلك طبيعة الأمية ومقتضياتها، فهي تغلق عن الأمة الجاهلة منافذ الحياة كلها، المادية منها والأدبية، ولهذا احتار الأساة النطاسيون في خطورتها وواصلوا العمل والتفكير في البحث عن معالجتها ومقاومة جراثيمها، وتفننوا في الوسائل والطرق، لذلك أرصدت لهم حكوماتهم في ميزانياتها الملايين والمليارات لتنفيذ ما يرون فيه الوقاية الكافية والدواء الشافي منها ألا وهو نشر العلم وتعميم التعليم بين الطبقات. نعم هذا للأمم التي لها رجال يسهرون على مصالحها وحكومة يهمها أمرها وشأنها، ولكن من ذا الذي للأمم الضعيفة المسكينة التي حرمت أمثال أولئك الرجال العاملين و بليت بمصائب من الرجال هم في الواقع ويل عليها و وبال على كيانها.
يجب على كل فرد من أفراد هذه الأمم والحالة هذه، أن يجعل نصب عينيه أنه لاوجود ولا بقاء ولا حياة ولا عز ولا سعادة له ولأمته إلا بإزاحة غشاوة الأمية عن بصائر الأمة ورفع كابوس الجهل عنها، وأن يجعل من الضروريات اللازمة له كالأكل والشرب مسألة العلم والتعليم.
وإذا كان سعي يبقى معه داء الجهل والأمية فاشيا بين أفراد الأمة فمآله الخيبة والإخفاق، إذ لا حياة لأي مشروع في عهد الجهل ولا نجاح لأي عمل مع الأمية. فالصديق الحقيقي للأمة والعامل المخلص لها هو من يسعى في نشر العلم والعرفان بين أبنائها ويعمل على إبادة جراثيم الجهل منها، والعدو اللدود لها هو الذي يساعد على تفشي داء الجهالة فيها ويسعى في إطفاء أنوار المعارف عنها، إذ الأول يعمل على إخراجها من الظلمات إلى النور، والثاني يسعى في إخراجها من النور إلى الظلمات، والفرق بين الرجلين عظيم.
إن مضار الجهل ومنافع العلم أشياء تدرك بالضرورة والكلام عليها كقولك السماء فوقنا والأرض تحتنا، ووجوب مقاومة الجهل وتحصيل العلم مما علم من الدين بالضرورة ومما اتفقت عليه الشرائع ونطقت به حوادث التاريخ وجرت عليه سنن الكون والعمران وألجأت إليه ضروريات هذا العصر الحادث وسارت في منهاجه كافة الأمم التي تعرف معنى الحياة.
ولكن رغما عن كل ذلك وعما شرحناه أولا من المفاسد فإنا نرى بكل أسف الأمة الجزائرية عموما والأمة الميزابية خصوصا لم تدرك للأمية والجهل خطورة، ولم تر للعلم والعرفان قيمة ولا مزية، وأبت أن تقتنع أن في الجهل ومن الجهل الفقر المدقع والموت الزؤام، وأن في العلم وبالعلم العز والسعادة والحياة، وإنما ترى مسألة العلم والجهل مسألة ثانوية لاحظ لها من الاهتمام والتفكير بالقدر الذي يجب للأكل والشرب واللباس، بل ترى أن السعادة والحياة لا تتوقف على العلم والتعليم، وإنما تتوقف على المال ووفرة الجاه ولا دخل للعلم في العز والحياة. بل ربما يرى البعض العلم عائقا في سبيل تحصيل المال وهذا هو السر في الزهد العام تقريبا من الأمة في العلم والرضا بداء الجهل، مع أن في مكنتها وهي تربو عن خمسة ملايين أن تشيد للعلم قصورا شامخة لو شاءت ولا يصد إرادتها صاد. ولكن أي باعث يبعثها على ذلك وهي لم تقتنع بفساد الجهل وضرورية العلم مادام الغرض الأساسي في الحياة عندها هو المال، ولا دخل للعلم أو الجهل به لديها، وهذا منها غلط فاحش منشؤه الجهل منها بأسباب الحياة ووسائل النهوض، إذ جعلت الوسيلة غاية والغاية وسيلة والذنب رأسا والرأس ذنبا، ولو أحسنت التفكير قليلا وأصغت إلى ضميرها لوجدت أن بالعلم يجنى المال ويحتفظ عليه، وبالعلم ينال الجاه ويستفاد منه لا عكس.
وبالعلم يجنى المال لا بالعكس إنها فضيلة حق عند كل الورى تُدري
ولكنها تسير مع الظواهر وتستنطق السطحيات وتأبى أن تحكم الحقائق، ونفس الأمر والواقع تستند في دعواها تلك وعدم الاقتناع بوجوب العلم وإزاحة الجهل على حالة المتعلمين وغيرهم، إذ ترى كثيرا من العلماء في حالة مزرية وغالب المتعلمين في كسل وبطالة و انهماك ولم يكن لعلمهم من أثر نافع أو ثمرة محسوسة غير التحاسد و التشاكس والتفنن في الفساد و الاحتيال على اجتراح الموبقات، وهذه النظرية أشبه بشيء بنظرية أعداء الإسلام الذين يقولون إن الدين الإسلامي دين ذل وخنوع وكسل وبطالة وجمود، لا يصلح للرقي والنهوض ولا يتناسب مع المدنية والحضارة، نظرا لما عليه حال المسلمين في جميع البقاع من السقوط و الانحطاط، و يتخلصون من هذه المقدمة إلى النتيجة و هي وجوب نبذ ما شأنه كذلك و الانسلاخ منه تماما، وكلتا النظريتين فاسدة إذ أسسها مؤسسوها على قضية الأفراد والأشخاص لا على قضية المبادئ، فلو أنهم أمعنوا النظر وأنصفـوا لوصلوا إلى الحق والصواب ولوجدوا أن العبرة في الحقيقة لنفس العلم أو نفس الإسلام لا لما يرى من المتلبس به من الفساد والرذيلة.
إذ لا يخلو هذا من عروض مرض عليه أفسد عنه الانتفاع بالعلم أو بالإسلام وليس الذنب في ذلك ذنب العلم أو الإسلام، ولكنه ذنب علم التأثر به والعمل بمقتضاه. وإذا أصروا وقالوا إن الفساد سرى للمتعلم من ناحية العلم وللمسلم من ناحية الإسلام، فنقول لهم وكذلك نرى الغالب من أرباب الأموال والجاه وأبنائهم منهمكين مستهترين حتى أصبح الانهماك و الاستهتار أمارة عنهم وشارة لهم فلم لم تتجنبوا هذا الفساد الفظيع الذي يلحق منه غالبا صاحبه.
و لمَ لم تنهوا عنه وتأمروا الناس بالإعراض التام عن المال كما أمرتموهم بالإعراض عن العلم و زهدتموهم فيه ووضعتهم في طرقه حواجز وعراقيـل؟ أم أنكم تفسـرون ذلك المستهتر على انهماكه وفساده لأن له شفيعا لا يرد وهو المال؟ ألا بئس هذا الرأي السخيف؟
إن داء الفقر وإن كان أليما وخصوصا على ضعفاء الإيمان، ولكن داء الجهل أعظم خطرا وأشد فتكا، فغاية ما ينال الفقير من فقره خروج نفسه وموته جوعا موتة جسمية لا غرو، أما داء الجهل فإنه يرسل إلى صاحبه من كل شعبة موتة جديدة فيميت منه العز والشرف والمجد، يميت منه الدين والوطنية، يميت منه نور الإيمان وشمس الحق ومنبع السعادة، يكسيه ثوب الفناء العاجل والآجل، يلبسه سربال الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وإذا دار الأمر بين إزاحة داء الجهل وداء الفقر، فالواجب الاشتغال بإزاحة الأول إذ بإزاحته ينزاح الثاني غالبا لا عكس، فإن إزاحة داء الفقر لا يجعل صاحبه عالما وأن يمكنه أن يتخذ ملايينه شعاعا من العلم يستضيء به، وكم من أصحاب الملايين لا يعرفون وضع إمضائهم كما ينبغي، بخلاف ما إذا كان الرأس عامرا والقلب غنيا فإن الدنيا كلها خزانة و كلها ثروة وغنى.
فإلى مقاومة الجهل والأمية أيها السادة وإلى نشر العلم وتعميم التعليم فهنالك الدين وهنالك الدنيا وهنالك الفضل والخير والبركة
|
ساحة النقاش