وجوم شديد يخيًم على أرجاء المركز الطبي العالمي ليلة النطق بالحكم على الرئيس السابق محمد حسني مبارك ، وتحديدا في قضية التحريض على قتل المتظاهرين .
الجناح الذي يرقد فيه مبارك رغم فخامته إلا انه يصيب كل من يدخله بالاكتئاب .. في هذه الليلة يتناوب الأطباء كل ربع ساعة على جناح مبارك للاطمئنان عليه .. يقيسون النبض والضغط .. يحاولون تهدئته حيث الاضطراب شديد والاكتئاب بلغ به مبلغا وتمكًن منه درجة انه أصبح لا يطيق حتى اقرب الاقربين اليه .. زوجته وحفيده .
لا يصدق مبارك او لا يريد ان يصدق انه وبعد ساعات قليلة سيمثل امام المحكمة للنطق بالحكم .. إحساس بشع سيطر عليه في هذه الليلة فبدى كهلا عجوزا لا يقدر حتى على الكلام.
يريد ان ينام ليرحم نفسه من التفكير فيما سينتهي إليه مصيره .. طلب من الأطباء حقنة مهدئة كي يخلد للنوم وهو يتمنى ألا تشرق عليه شمس اليوم الجديد.
اخذ الحقنة ..أطفأ الأطباء أنوار الجناح ، إلا من إضاءات خافته تساعده على الاسترخاء ، غير ان القلق كان مسيطرا على الفريق الطبي ، فالحالة لا تبشر بخير حتى ان بعضهم – ليس تشفيا ولا اى شىء من هذا القبيل – تمنى ان تكون هذه الليلة هى ليلته الاخيرة ، فلن يتحمل الرجل حكما بالإعدام او المؤبد او حتى ببراءته .. فالفرحة الشديدة لها نفس تأثير الحزن الشديد عند مريض في عمر مبارك.
دقائق معدودة وغفلت عينا مبارك ، وخرج الأطباء من الجناح يتناوبون في الدخول عليه للاطمئنان انه لا يزال على قيد الحياة.
مبارك نائما بفعل الحقنة المخدرة غير ان المتابع له يشعر أنه يقظ .. فأحيانا تتحرك شفتاه كأنه يقول شيئا ، واحيانا اخرى تعتري قسمات وجهه علامات رعب حقيقية واحيانا ثالثة تجده يبتسم.
شريط الذكريات يمر من امامه ويعود به سنوات طويلة الى الوراء ، وتتغير ملامحه بين الابتسام والبهجة والحزن والألم حسبما يرى في منامه.
( 1 )
تنفرج شفتاه بابتسامة خجولة وهو يرى نفسه على الشاشة.. " وداع في الفجر “.. فيلم قديم ظهر فيه مبارك في لقطة عابرة – وقتها لم يكن احد يعرفه.. ضابط بالقوات الجوية أثناء حرب 56 .. كله حيوية وهمة ووطنية ، غير ان اسم الفيلم كسى وجهه للحظة بحزن وخوف .. " وداع في الفجر " .. ترى هل سيكون هذا اليوم هو فجره الاخير؟
( 2 )
يمر الشريط بطيئا أمام عينيه او ربما مبارك نفسه لا يريد له ان يسرع .. فها هي أمامه اسعد أيام حياته .. مواطن عادي متزوج وله ولدان .. عيشة متواضعة.. سيارة صغيرة.. مسؤوليات محدودة .. و10 أيام في رأس البر كل صيف يستمع بسلطنة لام كلثوم .. لا هموم .. لا مشاكل .. أيام جميلة ليتها تعود.
يجري الشريط امامه وبسرعة ، مشاهد مؤلمة في سيناء ووجوه منكسرة في مصر والعالم بعد نكسة 67 .. ثم انتصار عزيز في 73 ، وهو قائد للقوات الجوية ثم نائب لرئيس الجمهورية ، ثم حادث المنصة .. السادات يُغتال أمامه يوم نصر اكتوبر .. لحظتها تحديدا تمنى ان لا يكون الرئيس القادم .. فقط لحظتها .. لكن بعد ان هدأت الأمور واستقرت ، رأى الجانب المضيء في هذا المنصب الرفيع ، ففرح به واستقبله بترحاب شديد.
( 3 )
عشر سنوات في الرئاسة اختزلهم الشريط في دقيقتين .. كانت الأمور عادية ، المطامع لم تُعم القلوب والعيون بعد .. شعب طيب مسالم يرضى بقليله ، والرئيس يعد : فترتان فقط ليس أكثر .. والكل يصدق ويصفق.
وتمر السنوات والشعب يحبه بجد .. صحيح لم يأت بأى جديد، لكن الناس يحبونه ولم يروا منه ما يعكر صفو حياتهم.. الموارد محدودة وعدد السكان في ازدياد مستمر والأمور ماشية بـ " الزق " .. لكنها ماشية .
لم يكن الذين انخلعت قلوبهم من الناس الطيبين يمثلون او ينافقون ، حين تعرض مبارك للاغتيال في اديس ابابا .. الاف مكتظة عند قصر القبة يريدون ان يرونه للاطمئنان عليه ، ومنهم من ذبح ابقارا وجاموسا وخرافا شكرا لله على سلامته.
الشعب الطيب الأصيل لايريد للرمز أن يُهان او يطاله سوء ، حتى لو كان مبارك إنسانا سيئا ، لا نقبل ان تغتاله رصاصات غدر ، عملا بمثل قديم كانت تقوله امهاتنا: " ادعي على ابني واكره اللي يقول امين " .. راح او جاء ، هو رئيسنا .. اللي يرشه بالميه نرشه بالدم .. مشاعر صادقة دمعت لها عينا مبارك – نائماً – وكأنه يلوم نفسه : كيف خسر كل هؤلاء الناس الطيبين؟!
( 4 )
الشريط كأنه فيلم سينمائي أمام مبارك غير انه لا يسير بانتظام وتسلسل منطقي للأحداث .. يسرع ويبطئ ، ويقف برهة أمام حدث بعينه .. مشاهد تتداخل وتتقاطع مع بعضها على النقيض تماما في فحواها ومعناها .. عبًارة السلام تغرق في مياه البحر الاحمر ، وستاد الكرة ممتلأ عن بكرة ابيه .. عجوز يتشبث بـ " قشاية " وسط صقيع لا يقاوم .. وزيدان يصارع سونج على الكرة .. طفلة في حضن امها تصرخ والموج يطوًح الام والبنت .. وزيدان لايزال يقاتل على الكرة .. لم تستطع الطفلة البريئة المقاومة .. ولم يستطع سونج الاحتفاظ بكرته ، اخذها زيدان ومررها لابو تريكة .. واخذت الامواج الطفلة من حضن امها .. ابو تريكة يحرز هدفا ومصر تكسب بطولة .. وتخسر 1200 شهيدا في العبارة المشئومة .. ومبارك في الاستاد ضحكته تملأ وتهز المدرجات ، وسوزان ترفع يدها تلوًح بالعلم ومعها نظيف ، والأجساد الطاهرة في مياه الاحمر ترفع آياديها استسلاما لموت لم يرحم صغيرا ولا كبيرا .. وقروش اسماك القرش تلتهم اجساد اهالينا ، والام المكلومة لاتزال تصرخ على طفلتها الميتة التي لم تستطع الحفاظ عليها لتدفنها في قبر تعاوده كل يوم وتقرأ لها الفاتحة.
( 5 )
وتمر السنوات العشر الاخيرة في حكمه بتأن مقصود .. هى الاكثر سوادا في الـ 30 سنة الماضية.. الولد كبر يريد ان يصبح رئيسا والام حلمها ان يسلم الاب الراية لابنه .. العائلة قلًصت مسؤلياته ، اصبح رئيسا بلا صلاحيات ، لا رأى في وزير يُختار .. كل الامور في يد جمال وهو – اى مبارك – لا غاضب ولا سعيد وكأنه اقتنع ان السنين طالت به واصبح - على حد قول د يحى الرخاوي - : راجل بركة!
( 6 )
يدخل الطبيب المناوب للاطمئنان غير انه يرى الوجه النائم عبوسا بدرجة هائلة : ارحل ارحل مش عايزينك .. صوت ثوار 25 يناير يرن في أذنه .. يكاد يخرق طبلتها ويويد من طنينها .. الشباب الورد يتساقطون الواحد يلو الاخر برصاص حي .. هو يعلم انه صاحب القرار في استخدامه اوعلى الاقل لم يأمر - حين عرف - بوقفه.
يرى أسرة شهيد .. فنان تشكيلي كان كل حلمه " مصر منورة في لوحة أبدية " .. تستنشق عبير الحرية والعدالة بين الناس اجمعين.. وزوجة الشهيد رغم يقينها انه الان في الجنة الا ان الدموع تنسال من عينيها ، فالحقيقة المؤلمة الجاثمة فوق صدرها انه مات .. وطفله الصغير لايدرك شيئا غير انه حزين .. انتظره طويلا ولم يجىء .. بابا فين ياماما ؟ .. ترد : عند ربنا .. في الجنة ياحبيبي.
تتدافع صور الشهداء امام عيني مبارك وصوت عمار الشريعي كأنه قنبلة : الدم اللي في ايديا .. بالليل ينده عليا .. ويقوللي قتلت مين .
ينتفض الجسد انتفاضة هائلة تُرعب الطبيب .. ينادي على مساعديه .. القلب توقف .. والشريط الاسود يأبى الا ان يستمر.
صراخ وعويل ونيران تزغرد وقطار يسير مشتعلا .. وهناك من يقفز والقطار مسرعا ، واجساد متفحمة ووجوه ساحت ملامحها .. ومشهد آخر يقفز للإيلام اكثر .. خالد سعيد مبتسما تارة وباكيا تارة أخرى ، ولفافة بانجو على جانب الصورة : لم ابتلعها .. وضعوها في فمي عنوة بعد ان صعدت روحي الى السماء.
( 7 )
الطبيب يصرخ .. النبض ضعيف جدا والقلب متوقف .. يسرعون اليه بجهاز الصدمات الكهربائية ، والشريط لايزال دائراً .. يرى اما تبكي ابنها الوحيد .. دهسته سيارة بيضاء طويلة ، والعلم في يده ، ومصر في قلبه ، واخر كلمة قالها بعد ان نطق الشهادتين : قولوا لأمي متزعليش .. وحياتي عندك متعيطيش .. قولولها معلش يا أمي .. اموت اموت وبلدنا تعيش.
( 8 )
الفجر يقترب والحركة في المستشفى لا تهدأ والجسد فوق السرير زادت انتفاضته بدرجة مرعبة ..مبارك يفتح عينيه وتتحجر نظرته والشريط يعود به من حيث بدأ .. " وداع في الفجر " .. وصوت الشريعي يجلجل : " الدم اللي ايديا " .. ويتوقف الشريط على مشهد الطفلة الميتة بين ذراع امها ، والموج ينتزعها من احضانها ، وصوت الاذان يعلو .. الله اكبر الله اكبر .
سمعه مبارك قبل المرة الاف المرات لكن صداه ومعناه هذه المرة تحديدا مختلف .. قاهر ومرعب ومخيف.
الاذان يقترب من نهايته .. لا اله الا الله .. والاطباء لايزالون يصرخون .. مبارك بيموت .. يحاولون اعادة نبضات القلب بالصدمات .. والجناح أظلم رغم أنواره .. وسيارة الاسعاف المجهزة التي ستنقله الى المحكمة في الانتظار.
ساحة النقاش