مع تجربة حمدى حسين الشعرية
الثراء الفني ومأساوية الواقع في صعيد مصر
في قصيدته "القطر بيزمر فى ودن العيد"
قراءة: عبدالجواد خفاجي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعل أهم ما في لغة هذه التجربة الشعرية وغيرها مما اطلعنا عليه في كل تجارب حمدي حسين الشعرية، أنها التزمت لهجة ما، حافظ عليها الشاعر كأداة مهمة لحمل تجربته الشعرية إلى متلقٍ يُفترض فيه استيعاب هذه اللهجة.
وأقول: حافظ عليها الشاعر من غزو لهجات أخرى كثيرة قريبة منها يمكن أن تزاحمها، وإلا لوجدنا أنفسنا أمام ثوب لهجي رقيع، أو مرقع، يبحث عن متلقٍ رقيع أيضاً. كما حماها من التخوزق بخوازيق الفصحى التي تتسلل إلى الشعر اللهجي. ليصبح النص منتميا إلى الهجنة لا اللهجة. مثل ذلك الحفاظ على لهجة القصيدة له فوائده الكثيرة التي تخدم النص ، والحديث عن ذلك يطول في هذا المقام.
وتمتاز لغة هذه التجربة الشعرية بمزايا قلما التفت إليها الشعراء سواء من كتبوا بالفصحى أو كتبوا باللهجة، ألا وهي البساطة الآسرة للغة، ولعل سر شاعرية مثل هذه اللغة، في بسطتها، بجانب بساطتها، وتلك هي المقدرة التي لابد من توفرها في الشاعر، كقدرة مهارية تنأى عن الكثيرين من الشعراء اللهجيين.
وإذا كانت البساطة تعنى الانتماء إلى الاعتيادي والمألوف من مفردات يستخدمها العامة قبل أن يتم توظيفها شعريا، فإن المدهش فيها أنها في موقعها داخل نسيج النص تعطي مدلولا جديدا يُكسب النص أدبيته، وتتخذ فيه اللغة قيمتها الرمزية والإيحائية المتسعة. وأعني اتساع مدلولاتها، وإيحاءاتها وقدرتها على حمل تجربة وجدانية تحاول أن تتسع لتشمل قضية مصيرية تتعلق بالإنسان وحياته ومصيره، وتشف عن وجدان شاعر يطمح إلى أن يأتي بالجديد على مستوى الرؤية أو الفن.. إنها لغة تقع في إطار ما هو شائع من مفردات، استطاع الشاعر الانحراف بها عن الشيوع لتعطي دلالات جديدة ، مدهشة، فلا القطار قطارا، ولا المشوار هو المشوار.
فكلنا يستخدم مفردات مثل/ قطر(قطار) ، شديت (سحبت بقوة) ، وشبك (جمع شبكة) وشبك (مسك)، وجلابية (جلباب) ، لكن من يستطيع رصفهم والتوليف بينهم لخلق صورة مثل:
"القطر شبك مشواره في جلبيتي
شديتها شبك"
هكذا هي اللغة الشعرية إذ تتحول عن طريق جهد الشاعر في الانتقاء والتوليف بين مفردات شائعة لتعطي دلالات وإيحاءات جديدة .. أما الجهد الثاني هو قدرته على شحن اللغة بطاقة إيحائية ورمزية تساهم في توسيع المجال أمام ذهن المتلقي للانجذاب نحو تلقي النص واكتشاف دراما الواقع العصي الصادم بمفارقاته وتناقضه، ووضع المتلقي عند حالة الشاعر منـتج النص، ودرجة وعيه بالقضية التي يبدو مهموما بها، ودرجة إحساسه بالحياة، إن لم يكن من أصحاب القضايا.
المدهش الآخر في هذه اللغة أنها ـ رغم بساطتها ـ فهي تتسم بالبسط، أي اتساعها نحو استيعاب مشوار الحياة نفسها، أو حياة إنسان اللهجة التي يكتب بها الشاعر أو يلقي بها نصه .. ونلاحظ هنا أن دور الاختيار اللهجي وإن دل على ارتباطه بذات شاعرة تتسم بقدرتها على البوح، وعلى التعبير عن همومها ورؤيتها ومعاناتها فهي في نفس الوقت تشف عن ارتباط ضمني بين قضية الذات الشاعرة ومصيرها، وبين عن قضايا الإنسان مستخدم هذه اللجة في الواقع، وإلا لما كتب الشاعر نصه بهذه اللهجة دون غيرها. وهو على ما اتضح في النص إنسان بسيط كادح يخوض صراعا جوهريا مع الحياة من أجل البقاء، شديد الإيمان بالله، يأخذ بالأسباب في مشوار حياة لم تكن سهلة، وإن كانت مشمولة بالرضا والحمد لواهب الأرزاق.
الملفت أيضا في لغة الشاعر هي حمولتها الرمزية، ولعل أهم ما في اللغة الشعرية أن تأتي رامزة ، محملة بطاقة إيحائية، وبغير ذلك فهي لغة صماء، خاضعة للاستخدامات الاعتيادية التي لا تخص الشعر في شيء، بل على العكس من ذلك، تنزع صفة الأدبية عن النص، لتلقي به خارج الكتابة الإبداعية.
القطار يأت في القصيدة خاضعا لاشتراطات اللهجة ، ومن ثم فهو "قطر" .. رمز لحركة الحياة السريعة، ورمز للانتقال ، ورمز للقوة والسرعة، ورمز لمشوار الحياة نفسها عندما يخوضها الإنسان فهي مشوار له بدايته ونهايته، وهو رمز للحياة العصرية بإيقاعاتها السريعة، هذه المعاني لا تعبأ كثيرا بالإنسان الكادح البسيط، ولكن تشكل قوى رمزية مهلكة لو غفل لحظة.. وهكذا هي صورة البسطاء من الناس في واقع يتهددهم، ويفرض عيهم لونا من الصراع العنيف.
نلمس في النص محكات قوية لتفعيل رمزية القطار، في لحظة غفلة :
"القطر شبك مشواره في جلبيتي
شديتها شبك"
المشهد الأول في النص يضعنا أمام واقع يتوعد الإنسان بالهلاك ليفرمه مثلما يفعل القطار بالغافلين والضعفاء لتتبدى لنا فعالية الصورة الشعرية وقد تحول القطار إلى معادل موضوعي لإيقاع حياة تفرض "شدا" كما يفرض "يقظة" ، كما تفرض "قوة" ، كما تفرض "تحديا" من نوع ما على الإنسان البسيط الكادح، وتشده إلى مصير صعب يشبه تماما صرعه القطار له، وفرمه تحت عجلاته ليلقي الهلاك الأكيد، لولا يقظته.
وعملا بالمثل الشعبي: "يا روح ما بعدك روح" كان على الإنسان أن يكدح، وليس لديه خيار آخر. ليتحدى إيقاع الواقع المهلك المتسارع.
ولعل الجناس التام، في استخدام "شبك" مرتين استخدام لطيف جدا، ومحفز للذهن لاستقبال متكرر لما هو متشابه حروفيا ومختلف دلاليا ، فشبك الأولى فعل، بمعنى : مسك أو أمسك .. وشبك الثانية اسم بمعنى: شباك ، ومفردها شبكة، أو أداة الصيد.
واضح أن العلاقة بين الذات الشاعرة وواقعها علاقة تحدٍ صامت، وعلى المستوى الرمزي هي علاقة مصيرية بين الواقع القاسي المتسارع وبين الإنسان الذي يحاول أن يقضي مشوار حياته بما استوجب عليه تحولا سريعا من "شبك" الأولى إلى "شبك" الثانية، دون تأخر أو تلكؤ، حتى لا يفرمه الواقع بلا رحمة.
"القطر شبك مشواره فى جلبيتي .
شديتها شبك ..
ع الكتف رميته
ولملمت بقيتي
ورجعت لبيتي ف آخر الليل "
ثمة اختيار دقيق للمفردات ، والرجوع إلى الشباك كمهنة أولى عرفتها البشرية ، وهو الصيد، ولعل الاستخدام هنا لا يعني غير اصطياد الرزق، وليس بالضرورة أن يكون سمكاً .. ألم أقل أن اللغة هنا متسعة، ومراوغة؟!.
وثمة إيمان أكيد فرض حالة من الاطمئنان الذي غالبا ما يكون ناتجا عن إيمان الإنسان بأن رزقه مضمون، ولا أحد يموت ناقص العمر.. ولذلك تخلو الحياة من القلق وإن لم تخلو من موجبات الصراع، والصورة هنا مشفة عن الذات الشاعرة في ارتباطها بواقع قروي يحيل كل شيء إلى القدر، ويعول عليه، وإنسان بسيط له توجهاته الإيمانية وبساطة حياته وقناعاته بما يُرزق حتى وإن كان قليلا. ولا يشغله الكثير الحرام، بقدر ما يعنيه الحلال.وهذا ما يخلق عنده حالة من الطمأنينة.
"مرتاح البال ..
الرزق قليل .. لكنه حلال ".
ثم ينقلنا النص إلى لحظة من بوح شفيف عن علاقة الذات الشاعرة بالحياة والواقع، وكأنه يسرد حالة افتراضية، لكنها في الواقع هي حالة حقيقية متكررة:
"لو اغمض عين .. أغرق ف النوم
لو افتّح عين ..
أفرد درعاتي وهاتك عوووم
طولك يا نهار ".
مجرد غمضة عين واحدة، تجلب النوم، العميق، من شدة التعب. وبمجرد أن يفتح عينا في الصباح، يهب سريعا لممارسة الكدح والتبكير في السعي الكادح إلى الرزق، وقد صور الشاعر هنا الإنسان في صورة بديعة ، فهو سابح في تيار الماء، فاردا ذراعيه ناجيا بنفسه من الغرق في بحر حياة تستوجب عليه الكفاح المصيري المطرد.
ولنا أن نتأمل إيحاءات اللغة: (فارد درعاتي ، هَاتك عوم، أغرق ) في دلالتها على المعاناة والكدح، ولنا أن نتخيل معاناة إنسان يصارع الحياة من أجل البقاء، وإلا هو الغرق: الهلاك. ولنا أن نتخيل صورة الواقع وقد تحولت الحياة إلى بحر متسع يتوعد غير القادرين على السباحة بالهلاك الأكيد.
"ويهون المشوار المشوار .
مع أول خيط أبيض م الفجر
لفيت الدنيا ف منديل ..
ع الكتف رميته."
ومع الكفاح والإرادة والأخذ بالأسباب، يهون"المشوار المشوار" لنجد أننا أمام مشوارين، والعودة إلى المتشابه حروفيا والمختلف معنويا كخصيصة شعرية تعطى تنغيما موسيقيا يحقق شفاهية النص واحتفائه بالإيقاع، وتطريب الأذن، وإراحة النفس وإمتاعها، إلا أن فائدته كما سبق القول مثيرة للذهن ومحركة للعقل لاكتشاف دلالاتها، ومن ثم فهو نص يأخذ على عاتقه المسئولية عن تفعيل حواس القارئ وذهنه، والاتجاه بهما نحو دلالات النص وما يحمله من رسالة شعرية، أو اكتشاف دلالات النص، وصولا إلى اكتشاف الدراما في النص، واكتساب فعالية القارئ أو تفاعله مع النص نحو القضية المثارة نصوصيا والتي تخص قضايا هذا الكادح في القنوع بنصيبه في واقع شرس قاسٍ مهلك يفرض عليه كل هذا الصراع,.
وهذا ما يسوغ تشبيه الحياة بمشوار ، والمشوار الثاني هو المشوار اليومي الساعي لاكتساب الرزق.
غير أن النص لا يرمي إلى الاكتفاء بكشف دلالة الكلمات وحسب، إننا أمام تجربة تتعلق بالمصير، واليومي المتكرر ، الذي يشكل بتكراريته تسيج الحياة ، ولو تخلف يوما أو غفل أو سهي سينتهي مشوار الحياة كلها، ومن ثم هناك ارتباط مصيري، وكأن الحياة كلها كدح متواصل وإن تجزأت إلى يوميات من الكدح. لا خيار مصيري آخر، ومن هنا يستدر النص مشاعرنا؛ لنعايش تجربة هذا الكائن البسيط الكادح، وتضعنا اللغة الشعرية وقد أخذت مشاعرنا وعقولنا لتضعنا عند نفس المستوى الشعوري للذات الشاعرة التى تبوح بمعاناتها، وتلفت الأنظار إليه بقوة وهو يسبح في بحر لُجيّ واسع. وهذا هدف كل تجربة شعرية ناجحة، عندما تضعنا في حالة مشابهة لحالة الشاعر. لنعيد تأمل وضعية هذا الإنسان الكادح .. ألم أقل إنها تجربة تتسم بالإنسانية؟.
وربما لذلك أراد الشاعر أن ينتقل بينا إلى صورة مشهدية جماعية ، أو اجتماعية من حياة البسطاء الفقراء الكادحين، مقرونة بالدعاء إلى الله أن يوسع أرزاق هؤلاء وهي صورة تحوي الكثير من الملابس المهلهلة، والتمنيات البسيطة بكسوة العيد، كما تنقلها مفردات لهجية، من عينة :الهلاهيل والعيايل:
" ابسطها يا باسط ناديته
الناس عريانه ..والموسم عيد ..
وانا حاسس لسه بعيد العيد وبعيد التوب .
وسط الهلاهيل ..
الخلق يا دووب شايلين قرشين ..لجل العياييل
وفي فاصل آخر تلعب الذات الشاعرة لعبة السارد الذي يصف المشهد، والتعليق عليه، فيما يعد ذلك التنقل من ألية البوح، إلى آلية السرد، إلأى ألية التعليق على المشهد، ومحاولة استخلاص حكمة عامة تخص الجميع، ولهذا اتسمت القصيدة بالحركة ومقاومة االثبات، الأمر الذي أوجد حركية تباعد بنا وبين المل أو الثبات المفضي إلى ملل:
"شقا قول شهرين ..أو قول سنتين .
دالبحر بخيل .. والرزق قليل .
ولا قادره الناس تشتري حاجه
مع ان بلدنا بقت حاجه ومش محتاجه
لكن بتبيع ..
ويقولوا قال ايه الدنيا ربيع
يا سلام ."
وفي النقلة قبل الأخيرة، يفصح النص عن حس سياسية يعطي لرؤيته قيمة عظمي عندما تضع المشهد الخاص في قلب المشهد العام للمجتمع ككل، وخاصة الحكومات والأنظمة السياسية المتوالية التي تتجاهل هؤلاء البسطاء الحالمين بكسوة العيد، وما يستوجبه العيد، بما يفوق قدرات "القرشين" أو "تحويشة الفقراء".
"فرشولنا الأرض غناوي كلام
مش برضو حرام "
ولنكتشف في نهاية القصيدة مشهدا آخر تاريخيا نعرفه، ليضعه أمامنا مؤكدا صدق تجربته، وصدق رؤيته .. وبه تتمدد التجربة نحو ماضً حاضر، فليس ما يحدث جديدا، وقد تكررت مشاهد هذا الإنسان في تغريبته مع القطار الذي سبق أن شد جلبابه، ليفاجئنا بتغريبته وراء الرزق، وقد عاد في يوم عيد وقد "عاد بخفي حنين" .. بل أكثر من ذلك، يصف لأمه الحادث المأساوي الذي لم يحرك ضمائر الدولة والمسئولين، وهي حادثة حقيقية عرفت ب"حريق قطار الصعيد" ، كأن الشاعر يؤكد لنا صدق تجربته لا من خلال الصور الشعرية وإيحاءات اللغة فقط، وإنما من خلال شواهد تاريخية حقيقة.. ألم أقل إنها تجربة متسعة، تحمل دلائل صدقها؟ وهي تتنقل من الخاص إلى العام؟.
ولنستدر إلى الخلف وليس إلى الأمام ؛ لنعاين العنوان، حيث القطار الذي يزمر في أذن العيد، في دلالة على اقتراب لحظة العيد / الفرحة، وهو عائد إلى أهله في الصعيد وقد احترق القطار ليتحول العيد المأمول إلى شياط يملأ الأفق، ثم إلى دخان وقد تفحم القطار والأجساد، ليبقى من نجا يحمد الله على نجاته بحياة اتضح لنا لونها، ومآل إنسانها، الذي يترصده الواقع ، ويفرض عليه تحولا قهريا، من إنسان راض بنصيبه وفقره، إلى هدف يتوعده واقعه المأساوي بالحرق.
(عبدالجواد خفاجي)
حمدى محمد حسين
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
ساحة النقاش