شاعرٌ من نغمٍ:اسامه عبد الشكور
للشعراءِ فيما يكتُبون مذاهِبُ ومناهلُ ، ولكلِّ شاعرٍ أدواتٌ يُشاركُهُ فيها نُظراؤُه ، ولكنْ تبقَى السِّمَةُ الخاصَّةُ (الكاريزما) بكلٍّ هيَ الفارقُ فيما يُنتِجُ كلُّ شاعرٍ .
وحمدي حسين ، ذلك الشاعرُ الذي يُحلِّقُ في سمَاواتِ الإِبداعِ الشِّعريِّ الرَّحبَةِ ، ويضربُ كالطَّائرِ بجَناحَيْ محبَّةٍ ومِثاليَّةٍ في فضاءاتِ الكلمةِ الفسيحةِ ، ويجوبُ مساحاتٍ شاسعةً من الْمَشاعرِ الفيَّاضَةِ التي يحملُها تِجَاهَ وَطنِه وَمُحبيه،
نقـضي لحظاتٍ بين سطورِه ، نَحِلُّ ضُيوفًا على ساحَتِه الإبداعيَّةِ المائزةِ .
يقولُ الشاعرُ في قصيدةِ : بورتريه
وَرَا كُلّ لُوحَه فيهَا دَمْعَه خَدّ
فيه حَدّ
مَاسِك فُرْشِةش الألوان
وحَدّ سادي بْعُنف
مِشْ إنسان ..
الشاعرُ مُهْتَمٌّ بالحَدَثِ لا الحديثِ ، فكما قلتُ من قبل عنهُ : أنني أزعمُ أنَّه ابنُ اللحظةِ وابنُ الحدثِ ، يتفاعَلُ ويَنفَعِلُ ، فيفكِّرُ ويتأمَّلُ ويستدعي مخزونَهُ الحسيَّ والفكريَّ ، ثمَّ لا يلبثُ أن يَخرُجَ االقصيدُ من بين يديْهِ مليئًا بالحيويَّةِ والسخاءِ والإيجابيَّةِ ، مشتعِلاً بجذْوَةِ الإبداعِ .
وممَّا يميِّزُ شعرَ شاعرِنا حمدي حسين ، استدعاءَاتُهُ الواعيةُ للألفاظِ والمفرداتِ الجنوبيةِ القديمةِ والمنسيَّةِ من مُخْتَلَفِ لهجاتِ الجنوبِ ، شأنُهُ شأنُ شُعراءَ كُثُرٍ من الجنوبيين ، بَيْدَ أنَّ ما يمتازُ به حمدي عن أقرانِه ،أنَّه لا يملأُ بتلكَ الألفاظِ فراغًا ، وإذا ذكرَها كانتْ في مواضِعِهَا التي لا يمكنُ أ نْ تحوِّلَها منهَا ، وعند ذكرِها تكونُ لها دلالاتُها الحسيةُ والمعنويةُ بحيثُ أنكَ إذا استبْدَلتَها بَتَرتَ العملَ وأفقَدْتَهُ جزءًا مهمًّا منه ، كما أنَّ تلكَ المفرداتِ حين يذكرُها تتَّسِمُ بالتلقائيةِ والتجانُسِ والتناغُمِ مع ما قبلَها وما بعدَها ، ولا يذكرُها من قَبيلِ الاستعراضِ والادِّعاءِ بالبحثِ والتنقيبِ أو الوجاهَةِ الأدبيةِ كما يفعلُ البعضُ أو يصْطَنِعُ .
فحمدي حسين معتزٌّ بجذورِهِ ملتزمٌ بها ؛ لذا تخرُجُ هذه المفرداتُ حيّةً نابضةً كأنها لا زالتْ قيْدَ التَّدَاوُلِ حتى لحظاتِ الكتابةِ الإبداعيةِ .
يقول الشاعر :
يا أيُّها المجانين
الفن مش تمثيل
والفنانين أنواع
مش كلهم خداع
لو بورتريه بصحيح
كانت الدموع سالت
وباظت الصورة ..
والشاعِرُ حريصٌ على التَّجَانُسِ اللَّفظيِّ والفَـنِّيِّ في قصائدِهِ وتناغُمِ عناصرِ الحالةِ الفنيةِ بما يتَّفِقُ مع الخيالِ وتراكيبِ الصُّوَرِ وتداعِياتِها ، مُهتَمٌّ بتماسُكِ النَّصِّ من خلالِ عناصرِهِ الأساسيَّةِ والفرعيَّةِ ، مُلتزِمٌ بموضُوعِه ومضمونِ أفكارِه حسبَ الطَّرْحِ الأدبِيِّ مهما طالَ العرضُ ، فهوَ لا يغادِرُ الجوَّ النفسيَّ والفِكْرِيَّ والوُجْدَانِيَّ في نُصُوصِه إِلاَّ في القليلِ وحسبَ كلِّ نصٍّ وأجْوائِهِ واستدْعَاءاتِهِ .
في قصيدة : الثورة الفتية ( ملحمة شعبية )
النصُّ مَلْحَمِيٌّ بكلِّ عَناصِرِه وأدواتِه وعباراتِه وأشعارِه ، قدَّمَ الشاعرُ فيهِ ملحمةً متكاملةً فنيًّا وتخيُّليًا وأدبيًّا
بشكلٍ متميزٍ، مضيفًا إليهِ الحياتَيْنِ العامَّةِ والخاصَّةِ ، فكانَ كفيلمٍ وثائِقيٍّ أو عَرضٍ مسرحيٍّ متكاملٍ ، تقرؤُه كأنَّك
تراه ، تشاهده حين تقرؤه ، قدَّمَ في هذا النصِّ شاعرُنا حمدي حسين نموذجًا جيدًا للمُعاشِ واليوميِّ بشكلٍ راقٍ فيه الاهتمامُ بالقواعدِ والضوابطِ الكتابيةِ والمنهجيةِ ، وراعَى التجديدَ والابتكارَ من حيثُ العرضِ وطريقةِ الطرح ِ، كما غلبتْ عليه الحماسةُ مما دفعَه لذِكرِ بعضِ الألفاظِ في مناطقَ من العملِ لو حذفَها كان أفضلَ ، كما سيأتي ، وبِجُهدٍ بسيطٍ يُمكِنُ تحويلُ النصِّ إلى المسرحِ الشعريِّ .
يقولُ الشاعرُ :
مشهد معاد للي كان
والمكان مصر القديمه .. مش قوي
مش من زمان
فرعون .. هامان .. والذي حوله
ومجلس الأنس واللي بيداولو
- اسْتلهمَ الشاعرُ نصَّهُ من أحداثِ يناير التي لم يتركْ الكاتبونَ عنهَا شيئًا ، والشاعرُ هُنا قدَّمَ شَكْلاً ملحميًّا مُمَسرَحًا ( مُفَيْلَمًا ) ، استخدَمَ الصورةَ الشعريةَ بشكلٍ اسْتِلْهَامِيٍّ وترْكِ الحدثِ سلطانًا على النصِّ فأضافَ حركةً صاخبةً في مناطقَ ، وهادرةً في مناطقَ أخرى ، وماكرةً في مناطق، وأضافَ الصوتَ الْمُمَنطقَ في كُلِّ منطقةٍ وفقرةٍ من فقراتِ النصِّ ، اشتملَ النصُّ أيضًا على شخصيَّاتٍ بذاتها محوريَّةٍ ، وشخصياتٍ ثانويةٍ وفرعيةٍ ، ومجاميعَ متشابكةٍ متفرقةٍ في سياقٍ متناقضٍ في الاتجاهاتِ وإن اتحدتْ في الهدفِ والغايةِ للحدثِ بطلِ العرضِ حتى ما قبلَ النهايةِ .
وبذكاءٍ وحِسٍّ أدبيٍّ استطاعَ الشاعِرُ أن يجعلَ المجاميعَ هي البطلُ الحقيقيُّ، والشخوصُ كلُّها مجردَ كومبارسٍ طبقًا للواقعِ ، وهُنا تجلَّتْ براعةُ حمدي حسين في تجسيدِ وتصويرِ الحدثِ في قالبٍ شعريٍّ نابضٍ حتّى وإن كانَ يعبِّرُ عن وجهةِ نظرٍ أحاديَّةٍ .
يستمرُّ العرضُ الشعريُّ موازيًا للعرضِ الذي رسمَهُ الشاعرُ لَه ، ليصلَ لقمةِ التوهُّجِ في أكثرَ من موضعٍ ، مثلَ قولِه :
دي قزازة من دمي .. نازفها من همي
هديِّتي ليكي .. اعمليه مونيكير
لو تسمحي لي كمان .. أسأل سؤال بحنان
لما حفيدك مات .. حسيتي معنى القطع بالمناشير
- وتتجلَّى قدرةُ الشاعرِ الوصفيةِ في هذا المقطعِ ، فتصفُ عباراتُه السخيَّةُ هذا المشهدَ المحزنَ ومعه يضعُ حدَّا حريريًّا فاصلاً بين الشماتةِ والتذكيرِ ، فهو شاعرٌ يمتلكُ من الحسِّ والشعورِ والذوقِ الفنيِّ ما يعفُّه عن الشَّماتةِ بمواجعِ الغيرِ والتَّشفِّي فيه ، لأجلِ ذلكَ قالَ :
يا ربِّ عفوك وحلمك.. ما اقصدشي أبدًا شماته
واحلف طلاق بالتلاته .. أنا قلبي زي الفطير
نضِّف قلوبنا بسماحتك ..
- اختفـتْ من النصِّ الصورُ المركَّبِةُ والجزئيةُ ، وتجلَّت الصورُ الكليَّة والمشاهِدُ المرسومةُ بعنايةٍ حسبَ طبيعةِ النصِّ كما فرضَها هو أو كمَا أرادَ لها أن تكُونَ .
خلقَ الشاعرُ موسيقى ترادُفِيَّةً عاليةَ العزفِ، بالقوافي المقصودةِ في مناطقَ متعددةٍ من النصِّ ، وتعمَّد ذلك لإِضَافةِ وسيلةٍ من وسائلِ الجذبِ غيرِ التقليديةِ للمتلقّي وخلقِ جوٍّ من الأُلْفة ِالسَّماعيَّةِ رغْمَ مأساويَّةِ بعضِ المشاهدِ حسبَ الحدثِ ، ومرارةِ الواقعِ المحكِي عنه.
- وفي منطقةٍ أخرى يصلُ الشاعرُ لمشهدٍ استخدمَ فيه السُّخريَةَ اللاذعةَ المريرةَ والإيحاءَ الفنيِّ الذي يمتليءُ بالدلالاتِ العبقريةِ ، اقرأ مثلاً قولَه :
قلنا الدهب يتنهب .. مالهم ومال الجير
أهلالجهاله الرمم .. خايفين من الطباشير
عايزينها سوده وكحله .. سبورة التنوير
زاحوا الرموز والهمم
وخطفوا أهل الزمم وملايكة التفكير ..
وحتَّى أتجنَّبَ الإطالةَ ، لو أنَّ الشاعرَ لم يسهبْ في الثُّلُثِ الأخيرِ من العملِ واستخدمَ التكثيفَ الفنيَّ كتكنيك فنيٍّ وأدبِيٍّ تخيُّلِيٍّ مقابلٍ ؛ لاستغنَى عن كثيرٍ من العباراتِ التقريريةِ والتي جاءتْ هتافيَّةً مباشرةً عاليةَ الخطابةِ في غيرِ داعٍ لها مثلَ منطقةِ ( شباب يصحصح شباب ...............شوف الأدب والذوق ) وقولِه : خرجوا الشباب ..يعني مش راجعين ..................انت تمشي مش ح نمشي )
غلبتْ في هذه العباراتِ اللُّغةُ الدَّارجةُ ، فلم تحملْ شعريَّةً بقدرِمَا أتتْ تقريريةً لا تتناسبُ مع قوةِ ما قبلِها وتوهُّجِ ما بعدَها .
وللإنصافِ ،أرَى في الشاعرِ حمدي حسين (كوكتيل) مدارسَ شعريةٍ يظهرُ جليًّا في أعمالِه ، ممَّا أكسبَهُ شكلاً خاصًّا ولونًا شعريًّا متميزًا ،وتجربةُ حمدي حسين الشعريّةِ جديرةٌ بالبحثِ والدراسةِ والفهمِ والتعاملِ معها أدبيًّا وفكريًّا بشكلٍ واعٍ، ويستحقُّ الشاعرُ كلَّ تقديرٍ وإشادةٍ بجهدِه المخلصِ لفنِّه وشاعريَّتِه وموهبتِه التي تزدادُ توهُّجًا مع تقدُّمِ العمرِ ، فصارَ واحدًا من ألمعِ شعراءِ جيلِه ..
كانتْ تلكَ وقفة مع الشاعرِ الكبيرِ حمدي حسين ، شاعرُ العامّيّةِ ، ابنُ دشنا محافظةِ قنا ،
وإلى لقاءٍ جديدٍ مع آخرين في " سلسلة ضي الحروف "
يكتُبُها ويجمعُ مادَّتَها : أسامة القوصي
حمدى محمد حسين
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
ساحة النقاش