تهادوا بما ينفع الناس ..أفكار عملية لسنة نبوية

بقلم: أمل خيري

كثيرة هي المناسبات التي تصادفنا، ونحب فيها أن نُهدي لأشخاص بعينهم ما يُسهم في زيادة المودة والأُلفة بيننا وبينهم، سَواء كانوا أقاربَ أم جيرانًا أم أصدقاء، في الأعياد ومُناسبات الزواج والتهنئة بقدوم مولود أو نجاح أو ترقية، وغيرها الكثير من المناسبات التي نحرص فيها على التفنُّن في اختيار الهدايا، التي تعبر عن ذوقنا وحسِّنا الفنِّي؛ ولكن هل جربنا أنْ نتبع نهجًا جديدًا في اختيار الهدية، وأن نقدم للمُهدى إليه ما يحتاجه هو لا ما يُعبر عن شخصيتنا نحن؟

إحياء سنة التهادي:
وتُعرَف الهدية لُغة: أنَّها الهبة والعطيَّة، يقالُ: أَهديت للرجل كذا؛ أي: بعثت به إليه إكرامًا، فهو هَديَّة، وتَهَادَى القوم: أهدى بعضهم إلى بعض[1]، واصطلاحًا: تمليك في الحياة بغير عوض[2]، ويعرفها الفقهاء بأنَّها "ما يُعطى من غير طلب أو شرط، بقصد إظهار   المودة، وحصول الألفة والثواب للأقرباء والأصدقاء والصُّلحاء، ومَن يحسن الظن بهم"[3]، والهدية مستحبة عند بعض العلماء، ومندوب إليها عند البعض، ولكن كيف نختار الهدية لنطبق سنة الهادي الحبيب؟

إنَّها إعادةُ إحياء لسنة التهادي، كما رغَّب فيها رسولُنا الكريم حين قال في الحديث الذي رواه ‏أبو هريرة -‏   رضي الله عنه - في سنن التِّرمذي ‏عن النبي -‏ ‏صلى الله عليه وسلَّم ‏- ‏قال: ‏((‏تهادوا؛ فإن   الهدية تذهب‏ ‏وَحَرَ‏ ‏الصَّدر، ولا ‏ ‏تحقرن ‏ ‏جارة لجارتها، ولو‏ ‏شق‏ ‏فرسن ‏شاة)).

ويقول العلماءُ: إنَّ "تهادوا" أمرٌ من التهادي بمعنى المهاداة؛ أي: ليعطِ الهدية، ويرسلها بعضكم لبعض، ولا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها، حتَّى لو نصف شاة قليلة اللحم، وهي إشارة إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله، وكما ذكر الأحوذي في "شرح سنن الترمذي": وفي الحديث الحضُّ على التهادي، ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء، ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة‏.

ولنأخذ من كلام الأحوذي قوله: "ولما فيه من التعاوُن على أمر المعيشة"، وكأنَّ الهدية ليس الغرض منها زيادة الأُلفة فحسب؛ بل مُعاونة مَن أهديت إليه الهدية على أحوال مَعيشته، ولن يكونَ ذلك إلاَّ باختيار الهدايا التي تمس الضَّروراتِ الأساسيةَ لدى المُهدى إليه، وتكون لها الأولوية على التهادي بالحاجات، أو التحسينات، أو ما اصطلح على تسميته بالكماليات، فالبعض يعمد لإهداء الورود أو العطور أو التحف الباهظة الثَّمن لفتاة مُقبلة على الزواج، وهي لا تستطيع شراءَ ثلاَّجة أو غسالة، أو أي من ضروريَّات الزواج، فأيهما أولى في التهادي؟!

ولعلنا نلمح في سيرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كانت أكثر هداياه - والتي كان يحثُّ عليها - هي هدايا الطَّعام والكسوة، وفي ذلك إشارة للدلالة على اختيار الهدية بما يفيد الناس، ويشبع حاجاتهم الأساسية؛ فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحقرن أحدكم شيئًا من المعروف، وإن لم يجد، فلْيلقَ أخاه بوجه طليق، وإن اشتريت لحمًا أو طبخت قدرًا، فأكثر مرقه، واغرف لجارك منه"، وكأنَّه تطبيقٌ لحديث آخر يقول: ((خير الناس أنفعهم للناس))، وقد ثَبَتَ في السنة مُساعدة صاحب الوليمة أو الزَّوج بما ييسر عليه مؤونة حفل الزفاف، كإهداء شاة، وفي المَثَل الصيني الشهير: "بدلاً من أن تعطيني سمكة، علمني كيف أصيد؛ لأنَّك إن أعطيتني سَمكة، أكلت وجبة، وإن علمتني صَيْدها، أكلت أبَدَ الدَّهر".

هدية تودع الفقر:
وفي الوقت الذي ما زلنا فيه نعطِّل هذه السنة النبوية، فإنَّ بعضَ المؤسسات الدولية التنموية سعت إلى مُحاولة تغيير نظرة الناس إلى الهدايا، ورفعت شعاراتٍ تُؤكد على ضرورة اختيار الهدايا النافعة والعمليَّة لا الهدايا الكَمَاليَّة؛ بغرض المساهمة في تحسين أحوال المعيشة والقضاء على الفقر في نفس الوقت، فمؤسسة (أوكسفام)[4] - وهي جزء من حركة عالمية تكرس جهودها لمحاربة الفقر والظلم - رفعت هذا العام شعارَ: "نحو إنقاذ العالم من الهدايا غير المرغوب فيها"، وذلك من خلال طرحها مجموعةً من الأفكار العمليَّة لهدايا تفيد المجتمع، وتعود على أفراده بالنَّفع وتحسين معيشتهم، سواء بزيادة فرص توليد الدَّخل، أو تمويل البرامج والخدمات التي تقدم للفقراء في شتَّى أنحاءِ العالم، خاصَّة في المناطق الأكثر فقرًا واحتياجًا، ومن بين الهدايا العملية التي تقترحها المؤسسة: شراء سماد للماشية، أو أشجار فاكهة، أو حديقة خضروات، أو حتَّى بذور للمُزارعين، كما يُمكن تقديم رسوم مدرسيَّة، أو كتب دراسية، أو أدوات مدرسية لطلاب المدارس، أو لفصول محو الأمية.

ونفس هذا التوجه اتبعته مؤسسة (براكتيكال أكشن)؛ حيثُ سَعَتْ من خِلال موقع خاص، سَمَّته "هدايا عملية [5] Practical presentsإلى   تقديم طرق جديدة ومبتكرة؛ لاختيار الهدايا العمليَّة والمفيدة التي تركز على أوجه الحاجة، واعتبرتها هدايا فريدة وملهمة تساعد في كسر حلقة الفقر دون جرح مشاعر الفقراء، ولم يقتصر الأمر على هاتين المؤسستين فقط؛ بل امتدَّ للعديد من المؤسسات التنموية؛ مثل: (ورلد فيجن)، وبنك جرامين، وغيرها الكثير، وعلى الرَّغم من حداثة هذه التَّجارب إلاَّ أنَّها أثبتت نجاحَها في تغيير حياة الكثيرين.

والدَّور الآن على المؤسسات التنموية العربية لتبني مثل هذه الأفكار العمليَّة في اختيار الهدايا، التي تسعد الآخرين، وتغيِّر حياتهم نحوَ الأفضل؛ بل والدَّور على الأفراد، كل في مجتمعه المحيط؛ لينشرَ ثقافة "تهادوا بما ينفع الناس"، وليبدأْ كلٌّ مِنَّا بنفسه، فبدلاً من تقديم الورود والحلوى قدِّم أدواتٍ مدرسيَّة لطالب، أدوات منزليَّة أساسية لعروس، أدوات خياطة لأرملة تسعى على أولادها، أدوات نجارة أو سباكة لعامل، المهم أن تتعرفَ على احتياجات المُهدى إليه الحقيقيَّة، وتسعى لتلبيتها من خلال هدية مُتواضعة تعبِّر فيها عن حبِّك ومودتك.

نافع منذ الصغر:
وليعمل الوَالِدَان على تدريب أبنائهما على حسن اختيار الهدية النَّافعة، وغرس قيمة التهادي الإيجابي في نُفُوسهم منذ الصِّغَر، فلْتُعَلِّم الأُمُّ ابنتها أنْ تُهدي صديقاتِها بالنافع المفيد في حياتهن أو دراستهن؛ كاختيار طرحة أو عباءة لزميلة لها ارتدت الحجابَ، أو شراء أدوات مدرسية، أو حقيبة لفتاة مقبلة على العام الدراسي، وبالمثل مع الأولاد، فلْيحرص الابن على اختيار الهدايا النافعة لأصدقائه من ملابس أو أدوات أو كتب، فما المانع أن يقدِّم طفل لصديقه أو قريبه الرَّقيق الحال كتابًا خارجيًّا يفيده في دراسته؟! وبالتأكيد سيكون هذا الطفل أكثر امتنانًا واستفادةً بهذه الهدية من وَرْدة لا تلبث أنْ تذبُل، أو حلوى لا تلبث أن تؤكل.

فلْيحرص الوَالِدَانِ على تنشئة أطفالهما على النَّفع منذ الصِّغر، فيكون الطفلُ نافعًا لغيره، ومن المستحب أنْ يلصقَ بغرفته مُلصَقًا يَحمل صفاتِ الطِّفل المسلم، ومن بينها صفة "نافعٌ لغيره"، مع مُناقشته في اقتراحِ أفكار جديدة لهدايا نافعة ومُفيدة، والاستفادة من المُناسبات المختلفة لتدعيم أواصر المَحبَّة والمودة مع أصدقائه وأقربائه وجيرانه بالهدايا، التي لا تُوزن بثمنها، بل بنفعها وفائدتها لمن أهداها إليها، مع حِرْصِه على نشر ثقافة "تهادوا بما ينفع الناس" بين زملائه في المدرسة؛ لينشأَ جيلٌ صاعد تربَّى على حبِّ الناس، وحسن الاختيار، والبحث عن المفيد، والبعد عن المظاهر الفارغة من مضمونها.
 

 ــــــــــــــــــــــ
[1]   أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للرافعي، بيروت : المكتبة العلمية.
[2]   "المغني"، لابن قدامة، بيروت، دار الفكر، 8/239.
[3]   حسين، مدكور، "الرشوة في الفقه الإسلامي"، القاهرة: دار النهضة، ط٢، ١٤٠٤هـ، ص: ٢٠٥.
[4]   موقع مؤسسة أوكسفام http://www.oxfam.org.
[5]   موقع http://www.practicalpresents.org.

لا تنس تسجيل إعجابك بصفحة غراس على الفيس بوك

غراس للتنمية المستدامة

ghiras

Amal Khairy researcher

  • Currently 75/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 683 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2010 بواسطة ghiras

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

120,650