بحث لغوي عن الترادف
الترادف أو (Synonymy ) :
يعتبر الترادف في اللغة , مشكلة قديمة , موجودة في كل اللغات , ولنشأة الترادف أسباب عدة منها :
1- أسباب أدبية : فقد ينزع الناس الى توضيح المعاني أو تأكيدها , ومن ثم ينزعون الى حشد الألفاظ المتقاربة للمعنى الواحد , وبعد ذلك يأتي على الأجيال بمرور الزمن وقت يجدون فيه هذه الكلمات بجوار بعضها البعض لمعنى واحد , فينشأ من ذلك الترادف .
2- استغلال الأدباء الكلمات : واهمالهم الفروق بين المعاني , واستعمال الناس بعد ذلك لتلك الألفاظ المتعددة لمعنى واحد قصدا للتوضيح أو التأكيد أو كحيلة أسلوبية في الكلام كما يعمد لذلك الدكتور ( طه حسين , ومن قبله الجاحظ.)
3- أسباب لغوية : وينشأ الترادف من هذه الناحية بطريق الاقتراض , فقد تقترض كلمة من لغة معينة وتستعمل جنبا الى جنب مع المعنى نفسه , مع احتفاظ كل كلمة بلونها التي وضعت له في بيئتها , ومن هنا ينشأ الترادف .
4- وقد تتعدد اللهجات : فتطلق كل لهجة لفظة معينة لمدلول بعينه , ومن هنا يأتي الترادف , وتتناسى الفروق بين الألفاظ المختلفة مثل : السيف , والمهند , والحسام ........., وكذلك في اللغة الانجليزية مثل : ( bigen و start )
الترادف عند العالم اللغوي ( أولمان ) :
المترادفات هي ألفاظ عدة متحدة المعنى , وقابلة للتبادل بينها في أي سياق , والترادف التام بالرغم من عدم استحالته نادر الوقوع لدرجة كبيرة , فهو نوع من الكماليات قلما تستطيع اللغة أن تجود به في سهولة ويسر , وان وقع فالعادة أن يكون لفترة قصيرة محدودة , فغموض المدلول , وظلاله , وألوانه المعنوية , ذات الصبغة العاطفية والانفعالية , التي تحيط به , لاتلبث أن تعمل على تحطيمه واظهار فروق معنوية دقيقة بين الألفاظ المترادفة , حتى يقتصر كل لفظ للتعبير عن جانب من هذه الظلال للمدلول الواحد , ونرى نتائج هذا التفريق لو قابلنا بين كل لفظ ونظيره في : السيف ,و الحسام , أو في الجلوس والقعود , او في قرأ وتلا , وأقسم وحلف , فنرى أن الترادف ما هو في الحقيقة الا أنصاف أو أشباه ترادف .
واللغة الانجليزية غنية بالمترادفات أو أشباهها على حد التعبير الدقيق , فهي قد فتحت الباب على مصراعيه للاقتراض من اللغة اللاتينية , وما تفرع منها من لغات , وهذه لفتة طيبة من ( أولمان )يستفاد منها عند دراسة الترادف في اللغة العربية , التي فيها من أسباب الترادف , تعدد اللهجات واختلافها , فمن الممكن في هذه المترادفات أن ترد الى أصلها في كل لهجة , فينتفي وجود الترادف بالمعنى الدقيق , لأن من شروطه عندنا وحدة الصيغة اللغوية , وتعدد اللهجات يعني تعدد الصيغ .
واللغة الانجليزية لغة مرقعة فعلا , فهي خليط من لغات عدة , ففيها العنصر الجرماني والسكسوني واللاتيني والفرنسي .. فالأول أمره واضح لأن أصلها جرماني والسكسوني لاختلاط الثقافة في الطب والزراعة وغيره , والفرنسي لاختلاط الثقافة وخاصة العلوم الانسانية , ولننظر لاختلاط ذلك في مثل :
الانجليزي الفرنسي اللاتيني
interrogate question ask
commence start bigen
consacrated sacred holy
فوائد الترادف ومضاره :
ومن البديهي أنه لايمكن التقليل من شأن الفائدة التي نجنيها من وجود مثل هذا الثراء في أساليب التعبير التي يمكن التبادل فيما بينها , فهو يوضح ويؤكدويملد المعاني , وهو يعطي الأسلوب لونا طريفا من الصنعة , وتحسين الأسلوب خاصة عند بعض الأدباء .
ولكن هذا يجب ألا يحجب أبصارنا عما فيه من أخطار فنية , وسوء استغلاله قد يؤدي الى العكس , أي الى سوء وافساد الفكرة , ويصبح الكلام فيه شيء من الاسفاف والالحاح على الاتيان بالمترادف , وكان الحشد من المترادفات سببا في صدور هذا التعليق عن ( ديكنز ) :( اننا نتكلم عن استبدادالكلمات , ولكنا نحن نحب أيضا أن نستبد بها .) ومن ذلك الأساليب الخطابية المسرفة مثل قول أحد الوزراء في الحرب :( for liberty and freedom ) ست مرات مع عدم اضافة جديد , والمترادفات في حالات الضرورة قد يكون لها دور أكثرأهمية اذا استعملت بلباقة في نظام التعامل باللغة , فاذا ما تطرق الغموض مثلا لكلمة , بحيث لا تصبح غير وافية بالغرض , فالغالب أن نلجأ الى كلمة أخرى مرادفة لها كي تسد هذا النقص فيها .
الترادف عند ( بلو مفيلد .) :
لايعترف بلومفيلد بالترادف من أول الأمر اذ عنده ( اذا اختلفت الصيغ صوتيا , وجب اختلافها في المعنى , ويوافقه على ذلك ( فيرث ) وعدم اعترافه بالترادف يتمشى مع فهمه للمعنى اللغوي ( انه مجموعة من الخصائص والمميزات اللغوية للكلمة أو العبارة أو الجملة , ومن الطبيعي أن المميزات الصوتية أحدى الخصائص فاذا اختلفت من كلمة الى أخرى كما في الترادف وجب اختلاف الكلمتين في المعنى أيضا .)
ومنهجنا في الترادف ينبني على ما يأتي :
ان الفصل بين منهجين ( تاريخي وآخر وصفي ) قد جنب العلماء كثيرا من التخبط الذي وقع فيه الباحثون السابقون من اللغويين , اذ كانوا يعقدون قضاياهم , ويطمسون حقائقهم بالخلط بين مناهج الدراسة وأساليب البحث في اللغة , وهذا ما حدث مثلافي الترادف الذي استعصى على كثير من الباحثين حلها حلا موفقا , وسبب ذلك فيما أرى هو عدم ادراكهم لهذه الحقيقة التي أبرزها ( دي سوسيه ) عالم اللغة في منهجه , وأغلب الظن أن دراسة هذه المشكلة على مستويين مختلفين ( تاريخي ووصفي ) كفيلة بأن تعين على فهم حقيقة الترادف ومعناه وأن تساعد على الحكم بوجوده أو عدم وجوده
فعدم الاتفاق على المقصود بالترادف بل ان البعض لم يعرفه
اختلاف وجهات النظر لاختلاف المناهج حوله .
ونحن نختار تعريف ( أولمان ) والمنهج الوصفي وأساسه وحدة الفترة الزمنية أي وصف الحاصل والموجود في فترة معينة من الزمن .,
ويجب اتباع الخطوات التالية في المنهج الوصفي لدراسة الترادف :
تحديد الصيغة ومراعاة الموقف والظروف والملابسات , وتحديد بيئة الكلام المدروس .
وعلى هذا من الجائز أن تتفق كلمتان في المعنى , ولايمكن أن يكون التبادل تاما , أو على حد تعبير أولمان ( استحالة التبادل التام ) على كل السياقات المختلفة , وعلى فرض امكانية التبادل في كل الأغراض والصور , فسنجد بالدقة في الدراسة أن احدى الكلمتين تفضل لمزاج المتكلم أو لوجودشخص بذاته أي أن الاستعمال هنا قد يختلف باختلاف السامعين والمتكلمين , فيجوز في الانجليزية أن يقول الرجل لزوجته : bye.bye , ولكن لايجوز للمرءوس أن يقولها لرئيسه أو الطالب لأستاذه , بل المستعمل في مثل هذا الموقف هو : good bye فيكون التراف موجودا , ولكنه أنصاف أو أشباه ترادف فقط , كما صرح أولمان .
فلو نظرنا للترادف نظرة عامة وبدون تحديد منهج معين , فهو موجود ولا شك . واذا نظرنا له في اللغة العربية قديمها وحديثها دون تحديد فترة زمنية فهو موجود , ولكن من الجائز تخريج بعض أمثلته أو اخراجها منه , ونحن نقصد رسم خطة للبحث غير مفروضة على أحد , بل نترك الباب مفتوحا لكل من يحب أن يأتي بجديد في الترادف لأن ماأتت به نتائج منهجنا مقبولة , وصحيحة لدينا دون ارغام أحد عليها .
الترادف في الحديث :
تعرض لهذا الموضوع العالمان الجليلان ( الأستاذ الجارم , والأستاذ الدكتور ابراهيم أنيس ) أما الأول فتعرض له في مقال مسهب في مجلة المجمع اللغوي سنة 1935 , أتى بكل ما قيل فيه من الآراء السابقة للعرب القدامى , ثم قال : الترادف موجود , ولكن ليس بالكثرة التي زعمها البعض , ومنكري الترادف ومثبتيه مبالغون , فالأولون لأنهم تناسوا الأمثلة القاطعة على وجوده , والآخرون لاتيانهم بأمثلة يمكن تخريجها على وجه من الوجوه من باب الترادف مثل : ( كبح الدابة , وكمحها ) لفظ واحد ليس مترادف والفرق هو في التطور الصوتي فقط , وقام هو بعد أن نصحنا بالبحث الدقيق لمعاني الكلمات بقوله : انه جمع ألفاظ العسل , وأخرج معظمها من الترادف ولم يبق سوى أربعة أو خمسة مترادفات من أكثر من مائتي كلمة .
والدكتور ابراهيم أنيس يثبت وجود الترادف , ويستدل بحديث للرسول عليه الصلاة والسلام :( حينما وقعت من يده السكين ) وبأن رجلا من عرب الشمال ذهب لأحد ملوك اليمن وكان فوق السطح , فاطلع اليه فقال الملك له : ثب . أي اقعد . فوثب الرجل من فوق فكسر.
فقال لأصحابه : ما باله ؟! فقالوا له : انه لايعرف الحميرية ( لهجة الملك ) فقال الملك : من ظفر حمر
وهو يهمل اللهجات وكذلك يفرق بين المنهج التاريخي والوصفي , فيقول ان المنكرين للترادف نظروا من الناحية الترايخية , والمثبتين نظروا من الناحية الوصفية , وهذه نظرة محمودة منه .
الترادف عند العرب القدامى :
بمعناه المطلق غير موجود , لكنهم يؤمنون بوجوده بالمعنى العام , عند ( ابن فارس , وابن الأعرابي , وثعلب )
الأول يقول بعد أن أورد عدة مترادفات ( على مذهبنا في أن في كل واحدة منهما معنى ليس في صاحبتها ,من معنى وفائدة )
والثاني يقول : ( كل حرفين وضعتهما العرب على معنى في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه ربما عرفناه فأخبرنا , وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله )
والثالث : يتفق في أحد أقواله معهما فيقول بعد أن يرجع الكلمات المختلفة الى لهجات مختلفة ( ولا يكون فعل وأفعل بمعنى واحد ,كما لم يكونا على بناء واحد الا أن يكونا من لغتين مختلفتين .)
وأخيرا ينكر البعض الترادف انكارا تاما منهم أبا على الفارسي , وهو شيخ ابن جني اللغوي القديم , ورواية السيوطي عن ابن الأعرابي فقال ابن خالويه :( اني أحفظ للسيف خمسين اسما , فتيسم أبو علي وقال : أما أنا فلا أحفظ الا اسما واحدا . فقال : فما رأيك في المهند والصمصام وكذا وكذا ........؟!! فقال ابو علي : هذه صفات للسيف وليست أسماء .
ورأينا في هذا البحث الذي نخلص اليه هو :
الترادف موجود بالفعل , ومطلقا , ويقع على الأزمان , ولا نخرج أمثلته على أنها ليست من الترادف , ونعيب على الذين ينكرونه قولهم بالمطلق , ويصفهم ابن درستويه بالجها بحقيقة الأمر , وانهم تأولواعلى العرب ما لا يجوز , لأنهم كانوا في القديم ذوي سليقة دراكة للمعاني المقصودة . فالترادف من الألفاظ والجمل البيانية التوضيحية , تلم شعث المعاني وترتق الفتق فيها فتزيد الفهم والتأكيد على المعنى .