رغم إن ا لكتا بة ا لعربـية ولد ت قـبل الإسلام ، إلا إن تطور هذه ا لكـتابة جاء نـتـيـجة ا لطـلب ا لي ا لخطا طـيـن بعمل نـسخ مـتعـد د ة من ا لقرآ ن بسـبـب التــوسع للدولة الإسلاميـة . فارتبـط الخط ا لعربي وجما ليا ته با لنـص المقدس ، وعلى مرور الزمن تطور ا لخط ليـشـمل كل مجالات الحـياة وليصـبح فـنا معاشًا بدل ا لتـصوير و ا لنـحت في ا لحضارات الاخرى.
ارتـقى ا لخط ا لعـربي جـما لـيا في بـغـداد عاصمـة ا لدولة الإسلامـية من ا لقرن التاسع و حتى ا لقرن ا لثالث عشر ، ثم في مديـنة ا لـقاهـرة حتى ا لقرن ا لسادس عش، وأخيـرا ً في اسطنـبول حتى القرن ا لتا سع عشر .
خلال ما يقارب الا لف عام تعدد ت ا سا لـيب ا لخط ، وا بـتكرت طرق لتحضـيـر آ لة ا لخط ـ ا لقلم ـ وهو نوع من القـصب يـبرى حسـب تعاليم الخطاطـيـن الكبار . كما اهتم الخطاطون كذلك بوصفات تحضير الحبر والورق .
وهكذا اصبح ا لخط ا لعربي احد أهم ا لفـنون في ا لحضارة الإسلامية . ورغم إن رسم الاشكال الحية ونحتها لم يكن ممنوعا إلا انه كان مكروها في ا لمعالم المعمارية بالمدينة ،لأنه يذكر بعبادة الأصنام . فـبـقـيـت ا لرسوم للأ شكال البشـرية والحيوانية في ا لكتب صغيرة جدا وبالا لوان . ا و على ا لحاجـيا ت ا لمصنوعة من قـبل ا لـمـهـنـيـيـن. بـيـنما تـحول ا لخـط ا لى ديكور عملاق يحتـل جدران واسـعـة من ا لمـعـا لم ا لمـعـمارية ، كا لمسجد وا لمدرسة وا لمـقـبرة وا لمـكـتـبة فاحتل الخط مكان التـماثـيل و ا لصور الجدارية ، وتغـيـر وجود الفن دا خل ا لمدينة عما كان معروفا في الحضارات القـديـمة .
* * *
با لنـسـبـة لي شـخـصـيا رأيت وعــشــت هـذا ا لديكور ا لخطي منذ ا لطـفـولة . كنت ا سبح في عا لم الخط في ا لدار وا لمـحلة وا لمـديـنة با كمــلها . مدينة ا لنجف التي ولد ت فـيها هي مدينة مقد سة لم يكن فيها أي مظهر مرئي لصور الاشكال ا لبشرية . ا كـتـشافي للخط يعود ا يضأ الى خا لي الهاوي للخط في دارنا با لمحلة ا لقد يمة بجا نب مسجد الامام علي . في الخامسة من عمري كـنت منبهـرًا برؤيته وهو يخط بقلم القصب والحبر الأسود السائل على الورق الأسمر . كان مؤِّلفا ً لكتب تاريخية .
وعند ما كنت في ا لمدرسة الابـتـدائية أثـارت كتابتي ا لواضحة اهتما م ا لمعلم فا ثـنى علي أمام بقـية ا لطلاب ، وطلب مني ا لكتـابة ا ما مهم ، وكان ذلك في عام 1954 . ولازلت اذكر بالامتـنان هذا المعلم اذ جعلني اعي لأول مرة في حيا تي حسن كتابتي . ومنذ ذلك الوقت أسعى كل يوم ا لى ا لتطور بهذا ا لمجا ل . وهذه الا لتـفاتة من المعلم تزداد قيمة عندي لا ني أسجلها بذاكرتي كأول مرة اخط فيها أمام ا لجمهور . اذ ان ا لخط امام ا لجمهور هو الآن جزء مهم من عملي ا لمهني ومنذ عام 1972 .
وا لى جا نب ا لخط كـنت ا حب ا لرسم ا يضأ ، في زمن كان معلم ا لرسم يضع ا ناء من ا لفخا ر ، ويطلب أن نرسمه بشكل فوتوغرافي .
ولكن ا لطلب على ا لخط كان مستمرا في ذلك ا لزمان وكنت أ نفذ دائما . وخصوصا ا لخط على ا لباصات ا لخشـبـية ا لمصنوعة في ا لنجف . ودائما ً ما اخط امثالاً وحكما ً ، وهذه ا لطريقة في ا لخط على الحافلات مستعملة بكثرة في دول المشرق . وكان هذا ا لعمل يوفر لي بعض النـقود لشراء ا لورق والالوان .
في ا لمدرسة ا لمتوسطة حصلت على عدة جوائز في ا لرسم . وا ثـناء إحدى معارض نهاية العام في ا لسنة الأولى للجمهورية ، كنت ا قـف بجدية ا مام لوحاتي ، وا ذا با ثـنـيـن من موظفي ا لتربية يتكلمون فيما بينهم . يمــتـد حون أعمالي ا لفـنـية ، ويـقـول احدهم للآخر : يجب ا ن نرسله فيما بعد ا لى ايطاليا للدراسة ا لعليا في ا لفن . فأجابه الآخر : نرسل الى ايطاليا من يدرس النحت ، ونفـضل ان نرسل الى فرنسا من يدرس ا لرسم وا لتصوير ا لزيتي . وهكذا بدا ت احلم بفرنسا وباريس ...
عام 1961 ا نهـيـت ا لدراسة ا لمتـوسطـة ، باحد ا ث لم أكن ا تخـيلها ابدا ً .
بداية ا لعمليا ت ا لعسكرية ضد الاكراد في الشما ل . مظاهرة في ا لنجف تدعوا للسلام ....
امضيت 40 يوما بالتوقيف بتهمة خط ا ليافطا ت . و تعرضت لمحاكمة با لمجلس العرفي العسكري ، في معسكر الرشيد لم تـنـته الا في عام 1969
لابد من ا لعمل ا ذ ا نني ا نحدر من عا ئلة كبيرة ، خمسة أخوة اكبر مني وخمسة اصغر . ذهبت إلى بغداد وكان عمري آ نذا ك سبعة عشر عاما ً . فوجد ت عملا كمساعد لخطاط ، ثم تـنـقـلت خلال 8 سنوا ت بين عدة خطا طين ، فـتعـلمـت عندهـم ا لكثـيـر من تـقـنـيـا ت ا لمهـنة وآ دابـها ، وا ثناء ا لعمل ا تـقـنت الاسا ليب ا لمستعملة آ نذا ك كا لخط ا لكوفي وا لنسخ وا لديواني وا لرقعة وا لفارسي .
لم تكن في ذلك ا لوقت تـقـنيـا ت ا لمطا بع متطورة ، بينما كانت في بغداد حركة اقـتصادية نشطة جدا لعمل الماركات التجارية والاعلانات في الصحف وا للوحات ا لتجارية .كان للخطاط مجالا واسعا في العمل الحر ، في ا لصحا فة وا لمطا بع من جهة ، ومن جهة اخرى الإعلانات ا لكبيرة بالألوان . وكنت امزج ا لخط با لرسم ، وأنجز الطلبات ا لمتـنوعة باناقة وأمانة . فانهالت علي ا لطلبات . ولكن ازدياد عملي لم ينسني حلم ا لسفر الى با ريس لدراسة ا لفن .
من ا لصدف ا لمفيدة ا نني كنت اعمل عام 1961 في عقد الكنائس وفي نهاية ا لعقد كان هنا لك مقر جمعية الفنـانـين العراقيـين، قبل ان تـنـتـقـل الى مقرها الحديث . وهكذا تعرفت على الكثير من الفنا نين ا لعرا قيين ، وكنت ا حيانا ا ساعد لجنة ا لتحكيم بنقـل المئا ت من ا للوحا ت وتمريرها امام لجنة المعرض ا لسنوي ، وفهمت فيما بعد لما ذا كانوا يدعونني ، لأني لم أكن عضوا ً في ا لجمعية ولا اعرف أكثر ا لفنا نين . لذا فا ن لجنة ا لتحكيم كا نت حرة في توجيه نقدها اللا ذع للّوحات لرديئة .
مقابل هذا ا لعمل كانوا يسمحون لي بالإطلاع على محتويا ت ا لمكتبة ا لخاصة با لجمعية . فا طلعت على كتب عن ا لفن الاوربي ، و ا لتي ساعدت في ا حياء ا لرغبة عند ي با لتـغرب . وا ثناء هذه ا لسنوات كا نت أجواء بغداد ملبدة بتضخم ا لعسكريتارية وما جلبته من تخلف للوطن وسحق للحريا ت . فـقررت ان اسافر ا لى باريس ، وبعد ا لف مشكلة ومشكلة استطعـت ا لرحيل . ولم ا كن أتصور ا بدا ً ، إن هذه ا لسفرة ا لمؤقـتة سوف تستمر عمرا ً كاملا ً.
حملت معي بعض أقلام ا لقصب ، فأعانتني على العمل في خط عناوين مجلة جزائرية موجهة
للعمال ا لمغتـربـين . مما مكنني من ا لتـسجـيل في ا لمدرسة ا لعليا للفـنون ا لجميلة .
درست ا لفن ا لغربي من حيث ا لـتقـنيات و المدارس ا لمتعددة والتاريخ وجماليات كل فترة .....درست ا لمنظور والمعمار والفريسك والموزائيك .... وهكذا ا مضيت 5 سنوا ت ا لى جانب الدراسةا النظرية ارسم ا لموديل ا لحي واعمل ا للوحات بالا لوان ا لزيتية ككل ا لطلبة آنذاك، حتى عام 1975 حيث حصلت على ا لد بلوم ا لعالي .
ولكن طريق ا لتصوير ا لزيتي للأشكال ا لبشرية ا لذي رسمته لي ا لمدرسة تبين لي انه طريق مسدود بالنسبة لرغباتي ا لداخلية . وتدريجيا بدا ت ا بحث عن طريق شخصي وا تجهت بعفوية مرة وبرغبة مرة اخرى نحو كل ما يقترب من ا لخط . نحو كل ما يشابه مظهر ا لخط ا لعربي في عالم ا لفن التشكيلي ا لعا لمي . مثلا ً رسوم ا لفنان ما تيس حيث بساطة ا لخطوط وقوتها ا لتعبيرية في آ ن واحد . ا و طريقة ا لفنان فرناند ليجيه في تحديد اشكاله بخطوط سوداء عريضة . وكانه يحبس الالوان داخل شبكة سوداء . وتدريجيا ً اتجهت نظرتي نحو ا لفن ا لتجريدي ومدارسه ا لمتعددة وفنانيه . نعم انه الطريق الاقصر مابين ا لخط ا لعربي وا لفن ا لتشكيلي ا لحديث . ا ن ا لفن ا لتجريدي كذلك هو الأ قرب لصور ا لطفولة ا لمغروسة في قلبي يوم كنت أتمعن ا لنظر في ا لخط العربي على الجدرا ن دون فهم المعنى ، ولكن دائما ً كان هنالك شئ ما يجذبني اليه .
وتدريجيا ً دخلت الحروف في لوحاتي ا لخطية ، ثم اختـفت الاشكال ا لبشرية لصا لح ظهور تكوينات آتية من ا لخط ا لعربي وبنفس ا لوقت متمردة عليه ... كخصام ا لمراهق مع الاب ... ورغبة ا لتحرر منه. لقد عشت داخليا ً هذا ا لتمزق العاطفي. فكنت مع الخط وضد الخط في آن واحد، أريد ا ن ا د خل ا لخط في لوحاتي ولكن بشكل يوحي با لمعا صرة . خط ل لا يشابه خطوط ا لقرن ا لتاسع عشر ....
ثم هجرت ا لمعنى لعدة شهور . أي عملت لوحات فيها حروف عربية بلا كلمات ولا معاني . فاقتنعت بسرعة من عدم جدوى هذه الطريق .....
ثم هجرت هذا الطريق نهائيا ً . لأني أحسست بضرورة حضور ا لمعنى الى جا نب ا لتكوين ا لفني . فا لمعنى ينشط مخيلتي وصورها ، ويتفاعل مع العملية التشكيلية . بل اني أدركت ان سبب خمول الفن ا لتجريدي ودخوله طريق مسدود إنما يعود لابتعاده عن ا لمعنى . فيبقى ا لفنان يدور في حلقة داخلية تبرد شعلتها مع الزمن .
لذلك قررت ان اخط كلمات وعبارات ، حتى لو ان كسرها وإعادة بنائها بشكل جديد يجعلها صعبة ا لقراءة . فا لمهم هو ا لحوار ا لداخلي مع ا لكلمات لحظة ا لخط ، ا لحوا ر مع ا لشاعر وا فكاره وأحاسيسه ؟
ولكوني أعيش في ا لغرب ، وا قرأ ا لكثير من نصوص الأدب الغربي فترجمت ا لكثير من ا لعبارات الآتية من الأدب ا لغربي ا لى ا للغة ا لعربية وأدخلتها في خطوطي كإضافات جديدة في التعبير ...
وهكذا تدريجيا ً اختـفت تماما ً الأشكال ا لبشرية من أعمالي، تاركة ا لمكان لعلامات مجردة ، لكلمات عربية أعيد خطها بهدف تشكيلي قبل أن تكون كلمة للقراءة .
وبدأت اشعر تدريجيا بتعادل داخلي ، اذ كنت مقتنعا ً باني لست بصدد إعادة ا لقديم كما هو ، ولن استخدم الخط بشكل تزويقي ، بل ا نني على عتبة عملية خلق فني .
كنت ولازلت أدرك صعوبة هذا الخلق الفني ، اذ لا يعني ولوج هذا ا لبحث ا ن كل شئ ا صبح اكيدا ، إنما هي مرحلة شك دائم ، وكل بداية للخط ا لحد يث تبدوا وكأنها ا نطلاقة من نقطة ا لصفر . بل ان كل صباح هو يوم جديد في ا لفن .... واني في كل يوم ازاء حالات جديدة من ا لتعبير ... ا لبحث عن اللامرئي ، عن ا لجوهري في عالم ضبابي ... ولكن هنالك سعادة داخلية في اثناء كل ممارسة خطية فهي مغامرة في قلب الخطوط وتحطيـمـهـا وإعادة بنائها من جديد ... لكنما ا لشك ا لدا خلي يستمر، فهل ما اعمله هو شئ جدي ؟ ام سيكون مضحكا ومثيرا للسخرية ؟ ففي لحظة الانتهاء من الخط ا لحديث لا ادري ا ن ما عملته هل سيكون ا لخط المنتظر ... الخط الحديث با لمعنى الأكيد للكلمة ا م سيجد طريقه الى سلة المهملات كالعديد من الخطوط في كل مرة .
حتما ً ان تأثيرات ا لعيش في ا وربا ودراستي ا لفنية ستغير ا لخط ا لذي تعلمته في بغداد ، ا نا ا يضا ً تغيرت ...مثل نخلة نـقـلت من ا لعراق ا لى فرنسا ...هنا شمس شحيحة وماء وافر.. . ا لعطاء سيختلف تماما ً ، وا ن كان ا لخط كاي فن ، هو ا نعكاس للوجود ا لبشري فحتما ً ا نني في بداية طريق جديد ، خط عربي يولد في باريس لجمهور لا يقرا ا لعربية ، ولكن هذا الابتكار ليس اكيدا ، ولا يوجد أي شخص يمكنه ان يحكم على ما ا عمله... كم هو مؤلم هذا ا لتأرجح في عالم صعب لا يسمح با لتردد ، عا لم يكون فيه الوقت كالذهب او كالسيف ا ن لم تقطعه يقطعك ...
لابد من الإيمان والاعتقاد بالفن ، انه عالم بطئ. كعالم الفلاح الذي عندما يضع البذور في الارض فا نه يعرف ا ن سنوا ت طويلة سوف تتوالى ، وأنه يتصور بالحد س شجرة المستقبل ، ودائما ً ما يدرك بان العطاء سيكون لاجيا ل أخرى .
ودائما ً ما كنت في حوار مع نفسي ، ا حاول ا قناع ضميري ، بضرورة الاستمرار وعدم ا لترا جع ، وان الاستمرار سيكون ليس فقط تطويرا ً للخط العربي ، إنما سينظر الآخرين للفن العربي كفن يعادل الفنون الاخرى ، فا نني أرى بوضوح ا ن نشاطي ا لثقافي يجلب الانتباه الى الخط العربي بشكل عام .
وان أكون مقتنعا ًفي فترة من الزمن ، با ن نوبا ت شك عميقة لا تلبث ان تعود . وكأني عدت من جديد للنفق المظلم ، خيبة أمل كبيرة ، فبعدما كنت متيقنا ً باني على ا لطريق ا لصحيح ، ها انا أعيد التساؤلات ماذا سأعمل بهذا الخط في خضم هذا ا لعالم ا لمادي . وكيف ساعيش ؟ والعائلة ، كيف أمارس فنا ً يقترب من التجريد ، فهذا المجتمع الذي أعيش فيه مجتمع مادي ، كيف ساطور هذا الفن الزاهد البسيط في خضم موجات هذا العالم المادي وابتكاراته الزاهية كل يوم ؟
والخط الجميل الذي تركه لنا الأقدمون هل سأعرف كيف أخطه ؟ هل سأنساه ؟ هل ان كل شئ سوف يمحى من ذاكرتي ، ام ان كل شئ امتلكته يبقى ملكا ً لي ابد الدهر ؟ هل ا ن رؤى الخط منذ الطفولة تبقى محفورة في الذهن باستمرار ؟
هل انا في خط مستقيم من تعليمات خطاطي بغدا د و أسير به نحو المستقبل ؟
ماذا سيقول خطاطو بغداد ؟ هل سيلعنونني ؟ ام سيكونون فخورين بما اعمله ؟
ان هذه السطور القليلة تمثل اختصارا ً لما عشته في سنوات طويلة من ا لتقدم وا لتردد. وا لحوا ر الداخلي قد يكون طويلا ً يخترق السنين :
كيف ان الخط اخذ انعطافا ً في كل قرن مضى؟ فهناك إضافات جديدة ا قبلتْ عندما ترك الخط صفحات ا لكتاب نحو ا لجدران . وعلى ا لجدران نفسها فان الخط المرسوم للسيراميك لا يشابه ا لخط ا لمعمول من الطابوق ، حيث هيمنت ا لخطوط ا لمستقيمة على ما يسمى ا لكوفي ا لهندسي .
لماذا لا اعمل خطوطا ً مستقيمة كالهياكل ؟ لماذا لا اعمل خطوطا ً عريضة جدا ً على الورق بشكل مباشر فان ا لخط ا لقديم كان يخط رفيعا ً ويرسم للتكبير على ا لجدرا ن من قبل المهنيين وليس من قبل ا لخطا ط نفسه . ولا اعرف خطا طا ً عربيا ً قديما ً يخط بشكل عريض جدا ً ؟
* * *
في هذا ا لوقت ا لذي ا طرح فيه ا لتساؤلات وا بحث عن دعم داخلي يعطيني ا لعزيمة للاستمرار. انبثق النور من جهة لم اكن اعرفها سابقا ً ولم انتظر منها عونا ً ، فقد زار باريس اكثر من مائة خطاط ياباني ليعملوا طيلة ا سبوع كامل بالخط امام الجمهور في جامعة السوربون بباريس . كنت طيلة هذا الأسبوع حاضرا. أرى عشرات الخطاطين يتعاقبون الواحد تلو ا لآ خر يمسكون فرشاً عريضة جدا ً كالمكانس الكبيرة يركضون بها على الورق .
يفرشون الاوراق الكبيرة على الارض ، وبعد لحظات من ا لتركيز ا لداخلي ، ينطلق ا لخطا ط كا لبرق يخط بالحبر الاسود العريض شكلا ً مابين الرسم والكتابة .
عيوننا تبقى أسيرة هذه الاشكال وكأنما الحبر سلب طاقة الخطاط لتبقى خالدة داخل الخط الاسود . فالمحتوى هنا ليس ا لنص ا نما ما ا حتوى ا لحبر من طاقة ا لخطاط ... فتبدوا هذه ا لحركات ا لخطية وكأنها جوهر الفن نفسه. ولم يعد الفن هنا محاكاة ونقلا للطبيعة كا لفوتوغراف ، انما خلق شئ آخر يبتكره الفنان ، لم يوجد من قبل.
عزز هذا ا لاسبوع عندي الاتجاه نحو خط حديث : تكبير الكلمات وإعطائها شكلا ً متجددا ً باستمرار . وملئها وشحنها بالأحاسيس لحظة ا لخط نفسها .
* * *
واو ن بقيت سنوات عديدة ا خط با للون الاسود ، فان الألوان دخلت تدريجيا ً في خطوطي .
لعمل الألوان رجعت لوصفا ت ا لحبر ا لقديمة ا يام كان ا لخطاط يحضر بنفسه الحبر . ورغم ان الكثير من ا لمواد ا لملونة ا لقديمة ا لتي تساهم بصنا عة ا لحبر قد ا ختفى وا بتكر بدلا عنه في عصرنا ا لحالي مواد جديدة قسم منها صالح للاستعمال وقسم آخر ردئ .
قد يتصور ا لبعض بان ا لوصفات ا لقديمة لتحضير الألوان لم تعد نافعة اليوم . ولكن ا لوا قع هو ا لعكس ، فان الأصباغ المباعة بمحلات الفن التشكيلي ا ليوم انما تخضع للطلب ا لتجاري والمصانع تنتج الألوان بما هو متوفر بسهولة لإنتاج كميات كبيرة . وكل ما هو نادر لا يهمهم بينما الفنان على ا لعكس يبحث عما هو نادر . لذلك ان يريد ا لفنان إيجاد الوان جميلة وشخصية فما عليه إلا الاعتماد على نفسه. تماما ً كالفرق بين من يعمل الاكل هو نفسه ، وبين من يشتريه محضرا ً في العلب .
ا لحبرا لقديم كان يعطي ا لحروف ا ناقة وشفا فية حسية ، بالنسبة لي اريد ا ن تعطي الالوان احساسا ً بالنور ، كي توحي ا لحركات ا لخطية ببعد ثا لث ، رغم ا ن ما ا ستعمله في خطوطي دا ئما ً هو حبر بلون واحد ، يمثل بعد واحد على الورقة البيضاء ا لتي تمثـل ا لبعد ا لثاني ، ولكن المادة اللونية الشفافة يمكنها ا ن تعطي ايحاءً بالعمق ا ي ا لبعد ا لثا لث .
للحصول على هذه الألوان فان هذا يتطلب معرفة ا صل ا لمواد ا لمكونة للون وخصوصا ً ا لمادة ا للاصقة ، وقـديما ً استعمل ا لخطاط ا لصمغ ا لعربي ، وعندما نقـول ا لصمغ ا لعربي فمعنى ذلك ا لعشرات من الانواع وتأثيرها على المظهر ا للوني ، وذلك يعود لموقع الشجرة ا لتي اعطت ا لصمغ ، ودرجة الحرارة هناك . وباختصار لابد من معرفة انواع الصمغ لاختيار الافضل . كما لابد من تجربة كل مسحوق ملون ، فقسم منها يكون مصدره طبيعي كالالوان ا لترا بية ا لمستخرجة من الارض ، ا و من جذور بعض ا لنباتات ، بينما ما نستعمله اليوم من ازرق واحمر مثلا ً فهي الوان مصنوعة من قبل الانسان . الازرق في الماضي كان يؤخذ من الأحجار ا لكريمة كاللازورد .
بدأت ا ولا ً بتحضير ا لوان دا فئة ، ا لوا ن ترا بية ، كما لو كنت ابحث عن ا ول ا لوان سكنت قلبي منذ ا لطفولة ، ا لوان ا لصحراء وا لرمل ا لذهبي ... ومناطق ا لفرا ت الاوسط ... وبعد بضعة سنوات مع استعمال الالوان ا لترا بية دخلت ا لوان ا لفصول : ا لوا ن ا لربيع ا لزاهية ، وا لصيف ا لمنيرة ، وا لخريف ا لحمراء ، وا لشتاء ا لقاتمة .
للخط العريض بالالوا ن ا لكثيفة كان لابد من ا بتكار آلات جديدة يمكنها ا لقيام بهذه ا لمهمة . فمنذ ا لقدم يكرر الخطاطون : بان نصف ا لخط هو في تحضير الآلة . وتحضرني قصة ظريفة لأحد ا لملوك قديما ً إذ زار ا حد ا لخطا طين فسأله : من هو أحسن تلميذ خطا ط عندك ؟ فأجابه ا لخطاط : انه أحسن من يبري قلمه [ والمقصود ا لقصبة ] فسال ا لملك ومن هو أحسن من يبري ا لقلم ؟ انه جلال ابن وزيرك لأنه يملك ا حسن سكين لذلك . وهكذا ارتبطت جودة ا لخط بجودة ا لآلة . وهناك تعبير صيني يقول : عندما تكون ا لفكرة بنهاية الفرشاة فلا داعي للذهاب ا لى نهاية ا لفكرة .
ا ستعمل انا قلم ا لقصب باستمرار للخطوط ا لرفيعة أما با لنسبة للخطوط ا لعريضة فكان علي ا ن ابتكر آلات تصلح للخط الجديد، لابد من آلة جديدة تشابه قلم ا لقصب ولكن اعرض واكثر مرونة و طراوة .
إن قلم ا لقصب فيه منا فع مهمة للخطاط على شرط ا ن يكون قد تعلم كيفية استعماله ، فانه يأخذ حبرا ً قليلا يعادل قدرا ت ا لخطاط على حبس تنفسه. فكل عملية ا لخط مرتبطة بعملية التـنفس، ومن لا يعرف هذا لا يستطيع الخط ويجهد الدماغ بسرعة ... كيف يمكنني ا ن اكون مفهوما ً في شرح موضوع شائك كهذا ؟
هنالك شئ طبيعي لدى الإنسان منذ الطفولة ، فعندما يرسم الإنسان خطا ً صعبا ً يوقف عملية التنفس بشكل طبيعي وبعض الأطفال يعض لسانه كيلا يتـنفس ومعنى هذا ا نه خلال الخط وخصوصا ً المدان ا لطويلة و مهما تطول يقطع ا لخطاط تنفسه و يحرم فيها ا لمخ من الأوكسجين ، تماما ً كمن يغطس تحت ا لماء ، لذلك فإن القصبة تأخذ اعتياديا ً كمية من الحبر تعادل قدرة الإنسان على حبس النفس، ومثلا ً آن الأقلام ا لتي تحوي على مخزن للحبر تكون مجهدة للخطاط ولا يمكن للخط بها بشكل أن يكون جيدا ، لان سيولة الحبر والاندفاع الداخلي تجعل الخطاط في استمرار للخط مما يجهده آما القصبة فإنها تتناغم مع تنفس الإنسان بمقدار ا لجرا ت ا لخطية والتي تكون قد درست من قبل كبار الخطاطين ومنذ عصور قديمة .
واو لكثير ممن يتعلم لأول مرة ا لخط بقلم ا لقصب يشعر بالهدوء العميق الذي تجلبه له هذه الآلة ، ألانها تربي الإحساس وتغذيه حسب ا لهندسية ا لخطية للحروف ، أي ترسل معلومات سليمة للفطرة الإنسانية.
ا لبطء هنا يساعد ا لي دفع ا لخطاط نحو ا لتأمل والتركيز . لذلك وللخط الحديث لابد ا ن أجد آلة حديثة تـقتـرب من عطاء قلم ا لقصب ويجب أن لا أضحي بالجوانب الإيجابية لهذه الآلة ، ثم ا ن وجدت آلة قريبة من ا لقلم فان ما اعمله سوف يوحي بالعلاقة ا لعائلية للخط ا لحديث مع ا لخط ا لعربي ا لقديم وخلا ل سنوات عملت محاولات كثيرة جربت كل ما يمكن ا لخط فيه : قطع من ا لخشب ا لعريض آو ا لكارتون ، الإسفنج والخشب ........
ا ستعمل قلم ا لقصب باستمرار وفي سعادة ، ولكن له حدود ، وهو ا لسمك ، إذ لا يمكن الخط فيه اكثر عرضا ً من الإصبع ، لذلك لجأت آلي عمل آلات تخط مباشرة بشكل عريض ومن مواد مختلفة ، حيث يمكن الخط مباشرة بشكل عريض .
آن للآلة أهميتها، فالخط بالقصبة يوحي دائما ً بمظهر الخط العربي القديم ، بينما الخط بآلة عريضة جدا ً سيوحي للمشاهد بشيء جديد . وعند التعّود على ابتكار آلات للخط فانه يمكن اختيار الآلة ا لمنا سبة للخط المناسب . فمثلا ً لخط عبارة عن النار من الأفضل استعمال آلة خفيفة، بينما عند ا لتكلم عن الحجر فلابد من آلة توحي بالثـقل .
* * *
في فن ا لخط حيث يعيد ا لخطاط رسم ا لكلمات باستمرار ، تتحول ا لكتابة ا لي علامات يفسرها كل مشاهد حسب احساساته ، بعض ا لحروف استخدمت في ا لماضي كرمز فلسفي مثل حرف الواو عند الصوفيين .
إذ انه الحرف الوحيد وحرف التكرار بآن واحد . فهو ا لحرف الوحيد في الأبجدية العربية الذي يمكنه آن يكون وحيدا ً لقول شئ ما ، بينما كل الحروف الأخرى تتطلب آن تكون مرافقة لحرف آخر . ثم آن حرف الواو هو الحرف الذي يستعمل للوصل بين الكلمات . فيكون الواو حرف وحيد وحرف متعدد . فحمله الصوفيون الكثير من المعاني الغامضة في ديكور المعالم المعمارية. خصوصا ً ما يسمى ب
[ المرآة ] أي الخطوط المتقابلة .
بالنسبة آلي كل كلمة أخطها احمّلها أفكاري واحساساتي لذلك اليوم نفسه . فتتحول الكلمة آلي ما يشبه تمثال تجريدي كبير ، فان كان الموضوع يدعوا للأمل فسيكون كشجرة متفتحة مليئة بالأزهار والثمار . بينما آن كنت أعيش ظروفا محزنة تتحول الكلمة آلي ما يشبه جذع اسود في قلب الشتاء . وهكذا أضفت ما تعلمته من تجارب في الفن التشكيلي على أشكال الحروف والكلمات .
أمام الخط الحديث يواجه المشاهد عملا تعبيريا يفسره هو نفسه وحسب حاجته الآنية وثقافته ، وقد يلتقي معي بمشاعري لحظة عملي للخط نفسه . فالخط الذي اعمله انما هو انعكاس لتجربة معاشة ، وجزء من الحياة التي عشتها في تلك اللحظة. او يتصور أشياء لم أفكر بها أنا، فيساهم المشاهد آنذاك بعملية الخلق الفني ...
التكوين الخطي الناجح هو ما يمثل توافق تام مابين أحداث الحياة وتأثيرها على الروح والمشاعر ، ومن ثم ما سيولد على الورقة . فمنها خطوط تعكس الهدوء او الرغبة بالوصول للهدوء . وأحيانا ً أخري تكون الأزمة عميقة جدا ً فيبدوا القلق واضحا ً في الحركات الخطية وفي الانغلاق داخل التكوين . في بعض الأحيان تأتي الخطوط الناجحة بسهولة ، وفي أحيان أخرى تكون الولادة عسيرة ولابد من إعادة الخط عدة مرات ، كما لو ان الرؤى تكون في أعماق بعيدة ولابد من التكرار للوصول للأحاسيس الخفية الغامضة .
أريد ان أكون كمخرج للحروف على مسرح الورق ، أريد لحروفي أن ترقص على الورق . فأ قلص حرفا ً وأطيل آخر . أعطي استقامة لما هو منحني ، وأدور ما هو مستقيم .
وليست هذه ا لتغيرا ت مجا نية ا نما بهدف ا ن تقـبل كلها الدخول في ا لعملية الجماعية للتكوين الخطي الذي احلم به .
وعندما تقبل الحروف كلها بذلك ، وتطير فرحة فأطير معها ، واهبط معها عندما تهبط .
ان الطريق لهذا التوافق مابين الأحاسيس والخط إنما هو طريق صعب وطويل ، يفرض تمريناً متوا صلا ً كي تولد الحركة المضبوطة ، ولكن الصبر والمثابرة تقود دائما ً الى مكافئة لا تثمن ، تعطي خطوط الحلم أو أكثر من ذلك ... تعطي خطوط لم نكن نحلم بها ...فتـزيد من ا لتعرف على الذا ت وما هو مغمور في الأعماق من صور منسية ، من ا لذكريات الأولى للطفولة ا لتي سجلها القلب وانغلق عليها ، والتي لن تعود إلا عن طريق التعبير الفني .
ساحة النقاش