عند عمل كل خط، أدرك جيدا أن أجيالاً من الخطاطين كانوا قد سبقوني، مخلفين إرثاً ثميناً، تركوه لنا ولأجيال المستقبل. ولكني بنفس الوقت أعرف جيدا ًأن الكثير من الخطاطين القدماء ، غيروا  وحوروا الخط الكوفي الأول. فأدى ذلك إلى بداية الإبداع والابتكار. وأصبح فيما بعد تاريخ الخط العربي مليئا  بالأساليب والتكوينات المختلفة .

تتطلب خطوط الماضي الثرية من عندنا مواصلة الابتكار،  كيلا يتجمد هذا الفن و يصبح من الأشياء العتيقة التي لا تلائم العصر .

 

                                              *

عندما أتوجه نحو الخط شاعراً برغبة التعبير الفني، أعيش حالة كمن تنتابه حمى يريد التخلص منها بشتى الأساليب. وهكذا فأن التعبير الفني يأتي دائما ً بدافع الحدس والإحساس قبل كل شيء. ولكن من وقت لآخر تمر في ذهني تساؤلات حول ما أعمله في مجال الخط الحديث. تُرى هل أنني أسير في الطريق الصحيح لمواصلة الجمال في هذا الفن، أم لابد من تصحيح المسار؟ . ففي العمل الفني يصبح الشك من الأشياء الضرورية والإيجابية.  وإن أستعمل هنا الضمير  " أنا "   فربما لا تكون " الأنا "  إشارة فردية ، إذ قد يشاركني نفس المشاعر الكثير من خطاطي اليوم .

 

هناك مرحلتان في العمل الفني بمجال الخط : المرحلة الاولى وهي لحظة الخط حيث تعبر الخطوط وحركاتها عن الأحاسيس والانفعالات. وهي لحظة معقدة لا يمكن التكلم عنها، إذ تمتزج هذه الأحاسيس بالذاكرة وتمتد نحو جذور بعيدة وعميقة في النفس البشرية .

والمرحلة الثانية هي في الحوار مع النفس قبل وبعد الخط :  من أين أتينا والى أين نذهب ؟

 ما هو الفن وما هو الخط  ... ثم التأمل في خطوط الماضي وتخيل خطوط المستقبل  ...

 

أتساءل عن شكل الجمال في هذا اليوم، هل هو حقا ً الاستمرارية الشكلية للخطوط الرائعة التي تركها لنا الخطاطون القدماء ، وخصوصا ً اخط في فترة القرن التاسع عشر؟ أم لابد أن نعمل خطاً آخر يعبر عن الزمن الحالي ...  كل إبداع جديد لابد وأن يخوض صراعا ً مؤلما ً مع تركة  الماضي من أجل مخاض ولادة جديدة .

من السهل جدا ً معرفة جمال عمل الخطاطين القدامى، لأن تجربة خطوط الماضي انتهت ويمكن الحكم عليها بسهولة . ولكن من الصعب جدا تحديد شكل الجمال المعاصر، لأنه لازال بطور الخلق. فالجمال هو قيم نسبية، تتغير مع مرور الزمن و تطور الإنسان داخليا ً، ومع التقدم الذي تحرزه البشرية في منتجاتها المختلفة . إذن لابد من جمال جديد لكل صباح جديد.

 

                                                 *

من أجل عمل خطوط جديدة لابد من تهيؤ نفسي وجسدي مسبق لكل مرة .. من الضروري التركيز التام  للدخول في مرحلة التأمل ...

تبدأ هذه اللحظات من الوقت الذي أبدأ فيه بتحضير الأدوات والألوان حتى لحظات البدء بالخط ... أشعر وكأنني أنطلق من فراغ واسع ولا نهائي لا حدود له ... أشعر كما لو كنت مغمورا ً بعاصفة رملية وسط الصحراء ، حيث تنعدم الرؤية تماما ً. الجمال الذي أنشده يبدو لي كصور متخيلة غائبة وبعيدة أريد لها الحضور. ولكنها لا تأتي ولا تتحقق بسهولة على الورق، في الوقت الذي أكون كلي رغبة في محاولة الوصول إليها. هناك الرغبات، وهناك أيضا ً الحافز الداخلي الذي يستعرفي داخلي كالحمى ، كاللهب ... في بعض الأيام تكون ولادة الخطوط يسيرة ، وفي أيام أخرى تكون عسيرة ...

 

ومن وقت لآخر أنظر لكل ما عملته وأدخل في تساؤلات ومقارنات بين الخطوط القديمة وخطوطي الحديثة. آنذاك أستعيد كل ما رأيته و عرفته عن خطوط الماضي... وبنفس الوقت أحاول تكثيف طاقاتي لتحسس اللحظة المعاشة ... أتخيل بسرعة ما يجري حولي  ... أحاول معرفة الخواطر في داخلي، وما تتناقله الأخبار عن أحوال الكرة الأرضية وساكنيها. وبحذر عال ٍ أترك العنان ليدي كي تعبر عن هذه الأحاسيس. تعبير يدي سيكون في الطاقات التي ستدخل في جرات الحروف وحركاتها المتعددة ...  الألم أو الأمل، المعاناة أو الفرح  ...  وهكذا تمتزج كل هذه الأحاسيس بالألوان وتصبح المادة المعبرة للخط ، عبر الرقة أو القوة التي تنبعث من الحركات .

من جانب آخر أريد لخطوطي البساطة وعكس اللحظة المعاشة فقط ... أريد نسيان المعرفة لكل تركة الماضي في لحظة الخط ، نسيان الماضي يؤدي إلى ابتكار يدي لمعرفة جديدة. فالجمال الحقيقي بالنسبة لي هو التعبير عن هذه اللحظة المعاشة . وتذكّر خطوط الماضي باستمرار سوف يشوش مخيلتي، ولا يدعني أطير مع الحركات التي أحلم بها .

 

 كيف الوصول إلى حقيقتي "أنا" إزاء عالم اليوم ؟

 

تشابه هذه اللحظات زوبعة داخلية تعصف بالأفكار والأحاسيس ، ويفقد الذهن قدرته على التحكم بها ، لذا أجدني في مهب الريح أو كما يقول الشاعر " نصيّب " :

 

سروا يركبون الريح وهي تلفهُم

 

أريد أن أركب العاصفة ولا أدعها تسحقني  ... أريد أن أركض ...أركض..

ولكني لم أصل ... فأن عالم الفن يبدو دائما ً على نقيض العالم المألوف كما هو. ودائما ً أشعر بأنني أبحث عن جمال مستحيل. فيصبح عيش هذه اللحظات ألما ً لا يوصف إلا بألم  " الفرزدق " الذي قال :

 

( ... وربما أتت علي ّ ساعة ونزع ضرس أهون عليّ من قول بيت شعر ... )

 

أشاركه القول بأننا في الخط نواجه نفس  الصعوبة، ففي بعض الأحيان يكون نزع ضرس أهون من عمل لوحة خطية .

الحركة الجميلة في الخط هي الحركة التي تعكس وجدان وعواطف اللحظة المعاشة في ذلك اليوم الذي أخط فيه . ولكن الوصول لهذه الحركة الجميلة يتطلب نسيان كل خطوط الماضي كما قلت وحتى خطوطي أنا ... يجب أن أتخطاها، كيلا أقلدها وكيلا أعيد خطوط معروفة ... فمن السهل جدا ً الاستمرار على حصيلة الزمن الماضي ... من السهل جدا ً أن أكرر بطرق متعددة شكلا ً اكتشفته منذ سنوات ...

أحيانا ً يكون هذا الشك وهذا الشرط  شللا وتوقفا ، فأقول لنفسي :   ماذا تريد ؟

إن الجمال ببساطة هو كقول نصيّب في كلماته الخمسة في الأعلى: سروا يركبون الريح وهي تلفهم  ..  ولكن هل يمكن ركوب الريح في زمن نصّيب  وقبل اختراع الطائرة؟  ففي قول نصيّب تخيل للصورة ببساطة وعمق وقوة في آن واحد. وهل أن البساطة هي سهلة المنال ؟ بالطبع لا ...

 

وها أنا أذكر الشعر عند التكلم عن الخط ... لأنني عندما أقرأ شعرا ً جميلا ً أرى خطا ،ً وعندما أتأمل خطا ً جميلا ً أرى شعرا ً .

 

 يتردد في ذهني سؤال يتكرر دائماً، سؤال يريد معرفة الجمال .. معرفة جمال اليوم وجمال المستقبل.  

 وأتساءل مرة أخرى،  ما هو الجمال وكيف الوصول إليه ؟

فتمر أمامي بسرعة الضوء مئات الخطوط القديمة التي أعجبت بها . وأستمر في مقارنات وتحليل  لساعات طويلة، أدور حول قلعة الجمال المغلقة ولا أجد أي منفذ للدخول إليها ...

أعود وأتساءل: هل أن قيم الجمال في الغرب هي نفس قيم الجمال في الشرق؟ ومرة أخرى أتساءل:   هل أنني أنحدر من ثقافة الشرق أم من ثقافة الغرب ؟

 فقد عشت ثلث عمري الأول في الشرق وثلثين منه في الغرب ... ولكني عندما كنت في الشرق كنت معجبا بالفن الغربي ، وفي الغرب أعيد النظر للتراث الواسع من خطوط الماضي ...

 وأخيرا ً هل هناك قيم ثابتة للجمال في العالم بأجمعه ؟

أم لكل بقعة على الأرض ، ولكل مجموعة بشرية قيمها الجمالية؟ قيم نابعة من تجارب الماضي وتأثيرات البيئة المحيطة بهم .

 

الجمال في الخط العربي القديم يشبه موجات البحر الهائج ، فما تلبث أن تقترب الموجة من الشاطئ ، حتى تتكسر قبل الوصول إليه ... ومن بعيد تأتي موجات أخرى وموجات . ففي كل قرن كان الجمال متغيرا ً. منذ بداية الخط للكتابة العربية البسيطة قبل أربعة عشر قرنا ً ولحد اليوم . طريق طويل  ، هو طريق الخط عبر الفضاء والزمن الذي اخترقه .  تجوّل في بلدان عديدة ما بين سمرقند وقرطبة .

 

أشكال الخطوط في البداية لم تكن سوى كتابة واضحة تُعمل من أجل القراءة. فيما بعد أصبحت  الحروف في حوار مع أشكال الزخارف المحيطة بها ومع أشكال المعمار التي تحتضنها . وكذلك مع الحاجيات التي يصنعها المهنيون ، وهذا التلاقي جعل لكل هذه الفنون علاقة عائلية ، إذ يتأثر شكل الخط بشكل الفنون الأخرى التي يقترب منها .

 

عند البحث عن أسباب تغير وتطور أشكال الخط العربي على مدى القرون ، نرى أن هنالك أسباب عديدة منها تطور الوعي الجمالي للبشر . وأسباب  أخرى تعود للمواد التي استعملت للخط  ، بسبب الموقع الجغرافي  أو تغير سلالة الحكم ... وحتى حلم خطاط ...

 

الجديد كان هو الجميل دائما ً ... بعد أول خطوط كوفية بسيطة للقرن الثامن الميلادي . فكم هي جميلة الخطوط الكوفية للقرن التاسع . والتي كانت تبدو كهياكل مبنية في الفضاء . نعجب برؤيتها رغم أننا لا نعرف ماذا تمثل بالضبط .

كل مشاهد يتحسسها على طريقته . كان السطر الأول يبدو وكأنه يُرفع من قبل الألفات واللامات للسطر الثاني . وعند القراءة لهذه النصوص  ،  يشتبك في ذهن القارئ معنى النص وإيحاءات أشكال الحروف . وكأنما توجد هنالك صور مخفية  خلف السطور لا تبيح عن نفسها بسهولة  .

 

 في القرن العاشر أُبدل الخط الكوفي لكتابة القرآن بخط النسخ . لأن المجتمع العباسي المتطور والمترف لا تلائمه الحروف الكوفية الثقيلة . وهكذا أصبح الجمال هذه المرة في حروف أسلوب النسخ المدورة والناعمة .

المصدر: منتدي الريشة
  • Currently 130/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
43 تصويتات / 799 مشاهدة
نشرت فى 27 ديسمبر 2009 بواسطة gamalelkhatelarabie

ساحة النقاش

Rehab Abdulluh

gamalelkhatelarabie
رحاب عبدالله »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

814,669