الجزء الأول/ النجف
الشعـر والخط رافـقـاني منذ الطـفـولة في مدينـة الـنـجف، بدءً من ما تسمى ب( دار السلام ) وهي إحدىاكبر مقابر العالم ، حيث كان والدي يد ير شركة نقـل للبضائع بجوار هذه المـقبرة . والتي كانت كمتحف كبير مليء بالتكوينات الغريـبة والخطوط المتشابكة ، تأخذ الـقـبـور فـيها مظاهـر التـماثـيل المنصوبة على سطح من الـتراب الأمـلس ، فهنا قـبر يأخذ شــكل حــيوان يهــم بالنـهوض ، وهناك قــبر ابيــض طبعــت علـيه أشــكال أيــدي حمراء من الحنـة، نعم متـحف كبير ينتظر زوّاره الذين يأتون سوى أيام الزيارات أو ساعات الدفـن حيث نرى فيــه الناس يـتجمعـون أمام أحد القـبور، أما في بقـية أيام السـنة فـقـد كانت المقبرة ملعبا ً لنا نحن الصغار حيث نلهو ونركض فيـها بأمان .
ولكن قـبل أن أبدأ الكلام عن أول ذكـرياتي في هذه المـقبـرة، لأصف مشهد مدخلها الذي سكن مخيلتي ، إذ كانت هناك ورشــة بدائيــة لتحضـير الصخور والأحجار ليُكتب عليها أسماء الموتى، ولا يوجد أي شيء في هذه الغـرف الصغيـرة سوى بعـض الأحجار هنا وهناك ملقاة على الأرض ، وعندما تأتي العائلة بالطلب، يخط الحفار اسم الفــقــيد وبعــض النصوص الديــنــية أو الحكم الشعرية بالطباشــير، ثم يجلـس علىالحــجر شادا عليه برجليه بـــثـــبات وبــيديـه مطرقــته وآلة الحـــفر، ينــقر بمـهارة وبــسرعة على الفــراغ ما بـــين الحروف، فيتضاءل إلى اقــل ما يـــمكن كيلا تأخــذ العمـــلــية وقـــتا ً طويلا ً ، حيث الكل ينتظر أمام الباب : الفقيد والمشـيّعون .
إن ظروف ذلك العـمل السـريع، أملت عـلى الحـفار ان يتحول بعـفوية الى مـــبدع تــــشــكــيلي، فان الإسراع يـفـرض عـليه إعادة خـلق الكلمات في كل صخرة، فـشكل الحجـر وحدوده التـقـريـبـية ومدى كـبر وصغـر اسم الفـقـيـد وعـشـيـرته والعـبارة التي اخـتارتها العائلة ، كل هذا يفرض عليه إعادة التـشكيل مرات عديدة للكلمات والحروف . كذلك ان الضرورة بالسـرعة تدعـوه دائما ً إلى تـفضـيـل مساحات الـحروف والكلمات على الفـراغ الذي يتضاءل إلى اقل ما يمكن، لان عمله الحقيقي هو نحت الفراغ بين الحروف كي تبــرز الكلمات ، ولما كان الـموضوع يتــناول الإنــسان والمـوت والحيـاة الآخرة، وهي من صلب مواضـيع الفـنان التــــشكـيلي وهـمومه . أجـد اليـوم أن أعـمال هؤلاء الحرفـيـــيـن تــندرج ضمــن الأعــمال الفــنـــية. وفي مــتحــف اللوفــر في باريس مـكان يحوي على عــدد كــبــير من أحجــار القـــبور الإسـلامــــية القــديمـة، لكونها تــتـميـز بجــمال الإخراج وقــوة التكوين ورشاقة الحروف وهكذا كنت شاهدا على هؤلاء الفنانين في عمل حي أمام الجمهور وفي اللحظات الأكثر عمقا من الوجود الإنساني، لحظات عودة الإنسان إلى التراب. ولكني عندما كنت أرى أعمالهم بعد ذلك في المقبرة وعن بعد، أشعر وكأنها تولّد في انطـباعا بالانغلاق. ولو نتخيل حروفهم أشكال بشرية وليست كلمات، لأوحت لنا بمجموعة بشرية سجينة في غرفة مغلقة، وهذا ليس غريبا ً لأنهم يعيشون ما بين القبور الضيقة وكل نتاجاتهم تعود للقبور. في صغري، ومازلت لحد هذا اليوم اكره الأماكن الضيقة وأحب الفضاء الشاسع. ان الفضاء الرحب لا يبتعد كثيرا ً عن هؤلاء المهنيين في هذه الورشة، بضعة أمتار تفصلنا عن بوابة المقبرة لا غير. وعندما أقول بوابة قـد يتصورها البعض كما الأبواب التي اعتدنا رؤيتها في اكثر المقابر. لا. لا ... إن مقبرة دار السلام هي مدينة كبرى ومداخلها كالشوارع العريضة ، والباب التي اعتدت الدخول منها ما هي إلا فتحة كبيرة في السور القديم لمدينة النجف، وكنت اشعر بسعادة غامضة أثناء الاقتراب من هذا المدخل. أحس أن حدوده اللاشكلية وكأنها تحتضنني، بينما كانت جدران الأبواب ذات الخطوط المستقيمة حادة وثقيلة، وكان هذا المدخل كإطار كبير لمشهد عظيم، فهو يطل على منحدر ينام فيه ملايين البشر حتى النهاية الممتدة نحو الأفق ... سكون غريب ، حقاً إنها دار السلام... دار الهدوء.
لست الوحيد الذي يحب تأمل هذا المنظر الهادئ ، كان والدي يحب ذلك أيضا، كان ينهي الأعمال الصباحية المهمة، يأخذ بيدي ونسير معاً حتى سوق قريبة ليشتري العنب أو التين وبعد ذلك نتوجه نحو ذلك المدخل الكبير، حيث آلاف القبور البيضاء المحدبة كالخراف المتحجرة الصامتة، ولا يكسر هذا التناغم الذي يكاد يذوب في الأفق سوى مقبرة صغيرة زرقاء أو قبر شخص ارتأت عائلته أن يكون قبره أعلى بكثير من القبور الأخرى.
تقع النجف على هضبة عالية تحدها الصحراء من كل جوانبها، لذا تبدو المقبرة كموجات بحر متكلسة تتدرج في الهبوط نحو اللانهاية... نحو الأفق البعيد، هذا الأفق المختلط بذرات الرمل الناعمة التي يحملها الهواء. تشق السماء في الصباح حرارة الشمس المحرقة الهابطة على الصحراء ، تلك الصحراء التي تنعم برياح الصباح الباردة.. وفجأة تنهال عليها طبقات الهواء الحار كالمطر وتحوّلُ الأفق إلى هالات ضبابية كالسراب. فتبدو مواكب القبور وكأنها آتية نحونا، هاربة من الغيوم الرملية و رافضة الانصهار فيها . ربما أن هذه الارتقاء نحو الأفق يجعل عيوننا تهيمن على أوسع فضاء ممكن رؤيته، فضاء لا متناهٍ ، يبعث الراحة في النفوس.
يختار والدي مكانا في الظل بعيدا ً عن الشمس المحرقة، فنفترش الأرض الجافة، وعلى مربع صغير من القماش يضع الفاكهة ... ومع حبات العنب نغيب في صمت يفرضه المكان ، تأمل مريح لازلت ابحث عنه هنا في أوربا منذ سنوات. وبعد فترة زمنية من التمتع بالصمت يشير علي والدي بالنهوض، وكنا دائماً نعمل جولة صغيـرة حول القبور القريبة . نتجول في الممرات الضيقة بين القبور، حيـث الهـدوء الذي يفرضه عـالـم الصحراء ، يملأ قـلوبنا بالرغـد ، ورغم تـعـدد الأشـكال والمـناظـر في هذه المـقـبرة فان عـيني كانت تـتجه دوما ً نحو الصخور التي خُـطـتْ عليها الحروف ونُقشتْ بشـكل واضح ، وخصوصا ً الـكتـابات التي عُمـلت بأسـلوب الثـلـث ، والـتـي نقشت في المرمر الأبيض وصبغـت باللون الأسود. حتماً أن صانعيها خطاطـــون كـبار ولم تُصنع في ورشـــة مـدخـل المـقبـرة . تُعمل لبعـض القـبور شواهد جمـيـلة ، وتُـخـط عليـها أشـعار تـحثُّ الـمارة على التأمل و التفكير في الحكمـة. لم أكن آنذاك اعـرف القـراءة بعـد ولكن والدي كان يقـرأ لي بعـضها ويشرح لي الهدف من ذلك، وهو التفكير بالوجود البشري . وما رسخ في ذاكرتي من تلك الكلمات القليلة هو شعر محفور على المرمر الأبيض: " بالأمس كنت حيـا ً واليـوم تحت التــراب" ...أتـذكر هذه المقطع الذي كان له تأثير كبير علي في ذلك الزمن.
النجف هي إحدى اكبر المدن الشيعية، يزورها الكثيرون من كل العالم الإسلامي ويدرس في مدارسها الآلاف من طلبة العلوم الدينية والأدبية وفي كل سنة تقام فيها عدة مناسبات دينية وشعبية...مآسٍ تاريخية، مواليد وأعياد. وأكثرها تمثل ذاكرة المدينة، وتاريخ الإمام علي وعائلته. فتتحول المدينة إلى مسرح ضخم، وكل سكان النجف والزوار يصبحون أما ممثلين أو مشاهدين في هذا العمل الفني. وعندما يهبط الليل تُنار المدينة بالمشاعل الكبيرة ، وتتماوج الرايات الكبيرة في مهب الريح، يحملها أشخاص يمثلون قبائل النجف والمناطق المحيطة بها. لكل محلة راياتها وألوانها الخاصة. بعـض الرايات خُطت عليها عبارات أو أشعار فتتحول إلى لوحات ترفرف في الهواء عاليا . لكل محلة شاعرها أيضا يقود الجموع وينشد أشعاراً، يردد الجمهور معه الأبيات الشعرية ذات القافية الموسيقية . فيـعــيد للأذهان الأحداث التاريخـية ، ويذكرهم بالحروب القاســـية او الأفراح المبهجة ، ويفضل أهل النجف الشعر المقفى لسهولة حفظه عن ظهر قلب. الشوارع والأسواق والساحات في كل محلات المدينة تغدو كمسارح في الهواء الطلق تحت السماء المرصعة بالنجوم، نسير في الدروب الصغيرة لنكتشـف فجأة في نهاياتها ساحة صغيرة مليئة بجمهور غفير وهم جلوس على الحصير والسجاد يعيدون مرددين ما يلقيه الشاعر من على المنبر. يضع أهالي المدينة أقمشة سوداء بخطوط بيضاء تغطي جدران دورهم ودكاكينهم، الخطوط غالبا ما تكون تكريماً للأئمة أو أشعارا ً أدبية وتربوية . كل خطاطي المدينة، مهنيون كانوا أم هواة يساهمون بخط اللوحات على القماش الأسود التي غطت الجدران. وهكذا استطعت وأنا في سن الرابعة عشر عاما أن ألمح خطوطي على الجدران من بعيد.
في نهاية مراسم الاحتفالات، كنت أتكلم مع زملائي دائما عن الشعر والمراسيم المسرحية في المدينة، ( التشابيه ) كما لو كنا نقاد أدب. نتداول هذه الأسئلة مثلا: من كان أفضل شاعر لهذه السنة ؟ وهل ابتكروا أو أضافوا شكلا جديدا للشعر ؟ وهل يقلد الشعراء بعضهم البعض؟. ونوجّه النقد اللاذع لبعض الشعراء لابتذال وضعف اختياراتهم الجديدة . حقا ً كان صعباً في ذلك الزمان ان يكون الإنسان شاعرا ً يحظى بتقدير كبير في النجف . إذ لابد أن يثير مشاعر المدينة بأكملها. كل محلة تود أن يكون شاعرها في المقدمة والأفضل، وله القدرة على جعل الجمهور الغفير المتدافع أن يذرف اكبر كمية من الدموع. ولما كانت هذه الاحتفالات تكرر سنوياً، لذا كان الطلب على الشاعر مشروطا بالتجديد، وان يقدم ما يذهل ويثير الحماس من خلال نفس المواضيع التي أعيدت مرارا وتكرارا في السنين السابقة. الخط والشعر رافقاني أيضا في الدار مع خالي الخطيب والهاوي للخط، كان يكتب الشعر أيضا، ولدية اختصاص بما يسمى : الشعر العددي ، وهو نوع من الشعر كانت تتداوله ألسن الطبقة المثقفة في النجف ، فكما هو معروف انه في الأبجدية العربية كل حرف يعادل عددا ً. فيطلب البعض من خالي أن يؤلف لهم بيتا ً من الشعـر يؤرخ فيه ولادة أو زواج أو وفاة أو تكريم لشخص أو مناسبة ما بطريقة لو تحسب كل الأعداد المعادلة للحروف فيظهر تاريخ الحدث الذي أُريدَ تخليدُه . بالنسبة لي وعند الطفولة كانت هذه الطريقة تسحرني باكتشاف سر الحساب خلف شكل الحروف و الكلمات الشعرية.
وهذا الخال هو نفسه الذي أيقظ عندي الحب للخط العربي منذ الطفـولة
ساحة النقاش